< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/24

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى الجهة الثانية.
وهي البحث عن الشقّ الثاني من المسألة، وهو قوله: (ويجب الاستخبار مع الإمكان...)[1]. وقد أفتى الماتن ره بوجوب استخبار التابع من متبوعه حيث لا يعلم أنّ قَصْده مسافة أم لا؟
ومن الواضح: أنّ المقام من مقامات الشبهة الموضوعيّة، لا الحكميّة؛ إذ الأحكام واضحة شرعاً، وواضح شرعاً أنّ من لم يقصد واقع المسافة لا يجب عليه التقصير، وأنّ من قصد واقع المسافة يجب عليه التقصير.
وهو في المقام لا يعلم قصد متبوعه، فهو بالفعل تابع له، ويقصد أن يسايره وأن يمشي معه. لكنّه لا يعلم أنّ قصْده الواقعيّ إلى أيّة نقطة، فإن كان إلى النقطة الكذائيّة فهو دون المسافة، وإن كان إلى النقطة الكذائيّة فهو مسافة. وقد تقدّم أنّ هذا التابع لا يوجد لديه قصد فعليّ، بل قصده معلَّق على أن يكون قصد متبوعه إلى تلك النقطة.
وهذا يُنتج ـ على غير مبنى الشهيد ره ومن تبعه ـ أنّ هذا الإنسان وظيفته بالفعل هي التمام.
بينما على مبنى الشهيد الذي اكتفى بقصد المتبوع وإن لم يكن واضحاً للتابع، فإذا قصد المتبوع مسافة واقعيّة، ولم يكن التابع يعلمها، فإنّ التابع عليه واقعاً أن يصلّي صلاة متبوعه. فلو أخفى المتبوع صلاته عن التابع، فهو لا يدري ماذا يصلّي، فحينئذٍ: تكون الشبهة موضوعيّةً بالنسبة إليه، كما هو واضح؛ إذ يدور أمره بين كون وظيفته التمام أو كونها القصر. (حتّى نخرج من تشويش هذا البحث لا بدّ من بيان النتائج على تقدير مبنى الشهيد، وعلى ما بنينا عليه وأكثر المعاصرين ومن قارب العصر).
فإذا بنينا على أنّ التابع في هذا الفرض ليس لديه قصد فعليّ إلى واقع المسافة، بل يوجد لديه قصد معلَّق على أن يكون المتبوع قاصداً لواقع المسافة، فحينئذٍ: لن يكون المقام من قبيل الشبهة الموضوعيّة؛ ذلك أنّ من لم يقصد قصداً تنجيزيّاً فإنّ وظيفته الواقعيّة (لا الظاهريّة) هي التمام، حتّى لو قطع المسافة؛ لأنّ قطع المسافة ليس هو الموضوع لوجوب التقصير، بل قصد قطع المسافة المقرون بالشروع في قطعها هو الموضوع لوجوب التقصير. فالتابع لمّا لم يكن لديه القصد الفعليّ التنجيزيّ لقطع المسافة، فهو في الحقيقة اختلّ شرط من شرائط لزوم التقصير على مستوى الشبهة الحكميّة، والمفروض أنّنا حاسمون للشبهة الحكميّة، وأنّ الشرط هو القصد الفعليّ التنجيزيّ لقطع المسافة، فحينئذٍ: سوف تكون وظيفته الفعليّة الواقعيّة هي التمام، وإن كان متبوعه في الواقع قد قصد الثمانية فأزيد. فإذا كانت الوظيفة الفعليّة الواقعيّة هي نفس الوظيفة الظاهرة له، فلا يبقى وجهٌ على هذا المبنى للقول بوجوب الاختبار من باب الاحتياط؛ لأنّ الفحص في الشبهات الحكميّة والموضوعيّة، حتّى إذا قلنا بلزومه، فإنّما نقول بلزومه للتحفّظ على الواقع المشكوك، وهذا الإنسان ليس لديه واقع مشكوك. بل ليس لديه قصد فعليّ إلى واقع المسافة، وإنّما لديه قصد تعليقيّ، والقصد التعليقيّ كلا قصد في باب لزوم التقصير. فلا يبقى مجال للقول بوجوب الاختبار إلّا بدعوى: أنّ الاختبار في المقام واجب تعبّديّ مستقلّ، كما يقول السيّد في المستمسك، وهو لازم كلام السيّد في المستند أيضاً.
وحينئذٍ: فنحتاج للقول بهذا الوجوب التعبّديّ للاختبار إلى دليل، والدليل مفقود، ومع فقده، وشكّنا في وجوب الاختبار، فتجري أصالة البراءة؛ لأنّ الشكّ حينئذٍ يعود إلى الشبهة الحكميّة، لا الموضوعيّة، وأنّ الشارع هل أوجب الاحتياط تعبّداً في هذه الحالة مع كون الوظيفة الواقعيّة هي التمام أم لم يُوجب؟ وهذا شكّ في جعل الشارع، وهو مجرى لأصالة البراءة جزماً.
نعم، يبعد كلّ البعد أن يكون مراد الماتن ره هذا المعنى، كما هو واضح. وعلى هذا، فلا يصحّ بوجهٍ ما أفاده السيّد السبزواريّ ره في المهذّب، من جعله المقام من مقامات الشكّ في المكلّف به؛ لأنّ المكلّف يعلم بالتكليف ويشكّ في خصوصيّته، وأنّه قصر أو تمام، وجعله من قبيل الشبهة الموضوعيّة التي أنكر عدم وجوب الفحص فيها إلّا في موارد خاصّة وقع الإجماع عليها (كلامه ره يُناقَش كبرىً وصغرىً).
أقول: هذا الكلام لا يصحّ ممّن أقرّ وأذعن بأنّه في مثل هذه الحالة لا يوجد قصد فعليّ، فإنّه إذا لم يكن هناك قصد فعليّ، فحتّى لو مشى مسافات، فإنّ وظيفته الواقعيّة هي التمام. ولا دليل أصلاً على الوجوب التعبّديّ المحض للاختبار، لا بمعنى: الاحتياط للواقع المشكوك على مستوى التكليف.
فعلى هذا المبنى، وهو ما بنينا عليه، وهو ما بنى عليه أكثر المحقّقين، في قبال الشهيد وبعض من تبعه، فمن الواضح أنّه لا يتأتّى الفحص.
لكن، إنصافاً، هذا الأمر لا يعزب عن علم مثل صاحب العروة ره، الذي وافق الشهيد!. فالكلام الجدّيّ معه إنّما يجب أن يكون في الشقّ الثاني. والشقّ الثاني يُبنى على أنّ من شكّ في أنّ قصد متبوعه هو المسافة الكاملة وقصد التبعيّة له فهو قاصد للمسافة واقعاً، وهذا المقدار من القصد كافٍ على مستوى الشبهة الحكميّة، فيتمحّض واقع كلام صاحب العروة ره حينئذٍ في الشبهة الموضوعيّة. فهذا الإنسان إذا كان متبوعه قاصداً للمسافة، فهو واقعاً وظيفته القصر؛ لأنّه على مبنى الشهيد يُكتفى بالقصد بهذا المقدار. وإذا كان متبوعه قاصداً لما دون المسافة، فوظيفته الفعليّة هي التمام.
وحينئذٍ: فلا ينبغي الاستعجال والإشكال على صاحب العروة ره بأنّه لا يجب الاختبار في هذه الحالة، والقول بأنّه يجب إمّا الاحتياط وإمّا الاختبار. فإنّ هذا يجوز عند صاحب العروة ره، وعند كلّ من لا يشترط الجزم بالنيّة، وقصد الوجه والتمييز. فأقول: لا يُشكل بهذا على صاحب العروة ره؛ إذ هذا لا يعزب عن علمه، فمقصوده: وجوب الاختبار لمن لا يريد الاحتياط. هكذا ينبغي أن نفهم كلامه. فيقول صاحب العروة ره: في هذه الحالة، التي هي شبهة موضوعيّة يجب الاحتياط، ومقصوده: يجب الاختبار. ووجوب الاختبار إنّما هو للتحفّظ على الواقع المشكوك.
وهذه الفتوى، تصيّر وجوب الاختبار وجوباً احتياطيّاً للواقع المشكوك. والشبهة شبهة موضوعيّة. فهذه الفتوى تتوقّف على أن نكون كبرويّاً قائلين بوجوب الفحص في الشبهات الموضوعيّة، إمّا جميعها، وهو ما لا يقول به أحد، أو بعضها على الأقلّ، وهي التي يلزم من عدم الفحص فيها الوقوع في المخالفة الكثيرة، وهدم أحكام شرعيّة، أو إذا كان الفحص لا يستدعي مؤونة ومشقّة، فيجب.
وقد يُقال: هنا يجب الاستخبار، بمعنى: سؤال المتبوع إلى أين ينوي المسير؟ لا سؤاله عن المسافة. وحينئذٍ: إذا قلنا في الشبهة الموضوعيّة: يجب الفحص إذا كانت المسألة ليس فيها مؤونة، فحينئذٍ: يجب الفحص هنا؛ لأنّ الفحص هنا إنّما هو السؤال من المتبوع، لا أكثر، سواء أجابه أم لم يُجبه؛ فإنّ عليه أن يعمل بتكليفه. وأمّا إذا كان من باب لزوم الوقوع في كثيرٍ من المخالفات، فمن الواضح أنّ هذا ليس كثير الابتلاء، فلا يلزم منه هدم أحكام شرعيّة ولا تغيير وجه الفقه، فهو لا ينطبق على هذا المقام.
وأمّا إذا بنينا كبرويّاً على عدم وجوب الفحص مطلقاً في الشبهة الموضوعيّة، وعمّمنا من الشبهة التحريميّة إلى الشبهة الوجوبيّة (إمّا بالأولويّة أو باتّحاد المجرى أو بإنكار وجود خصوصيّة)، كما هو مبنى المشهور، فحينئذٍ: لا يجب الاختبار.
فإذاً، وجوب الاختبار يبتني على أحد هذه الوجوه والمباني الكبرويّة، وليس لدينا بحث خاصّ هنا.
وإذا قلنا بعدم وجوب الاختبار في جميع الحالات، أو قلنا بوجوب الاختبار ولم يُخبره المتبوع، فهنا، يجب عليه أن يصلّي تماماً؛ لأنّ أصالة التمام هي المحكّمة في موارد الشكّ، إمّا مع فحص أو بدونه.
وهذا ما ينبغي أن يُقال في المقام لنخرج من الإرباك الموجود في الشروحات.
نعم، وجدنا هنا مبحثاً ظريفاً انفرد به السيّد الخوئي ره من بين المحقّقين.
يقول ره في المقام: لا يجب الاختبار حتّى لو بنينا على مبنى الشهيد!؛ لأنّ هذا التابع لا يخلو أمره من حالات ثلاث: فإمّا أن ينكشف له خلاف ما بنى عليه في الوقت، أو ينكشف له خارج الوقت، أو لا ينكشف له أبداً. وفي الحالات الثلاث هو لا يفوته شيء حتّى على هذا المبنى؛ ذلك أنّ من صلّى تماماً وانكشف له الخلاف في الوقت، فهذا يصلّي مرّةً أُخرى في داخل الوقت قصراً.
ومن انكشف له الخلاف خارج الوقت، فهذا أيضاً لا يفوته شيء؛ لأنّ صحيحة العيص بن القاسم تدلّ على أنّه لا يجب عليه الإعادة إذا انكشف له أنّه جاء بخلاف وظيفته في الوقت.
وقد تقدّمت هذه الصحيحة، وهي: محمّد بن يعقوب، عن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن صفوان بن يحيى، عن العيص بن القاسم، قال: سألت أبا عبد الله ع عن رجلٍ صلّى وهو مسافر فأتمّ الصلاة، قال: إن كان في وقتٍ فليُعد، وإن كان الوقت قد مضى فلا.[2]
وأمّا الحالة الثالثة، التي يقول السيّد الخوئي ره إنّه لا رابع لها، وهي من لم ينكشف له الخلاف أبداً، فيقول السيّد الخوئي ره: إنّ هذا أحسن حالاً ممّن انكشف له؛ لأنّ هذا صار خارج الوقت، ولم ينكشف له الخلاف. فلا يجب عليه الإعادة أيضاً، كالحالة الثانية.
فيقول السيّد الخوئي ره: حتّى لو بنينا على رأي الشهيد وصاحب العروة، لا معنى لوجوب الاختبار هنا؛ لأنّه لن يفوت المصلّي شيء. بل في الحالة الأُولى يُعيد قصراً في داخل الوقت، وفي الحالتين الثانية والثالثة لا يُعيد.
وهذا الذي أفاده! يبتني على القول بصحّة أن يصلّي الإنسان تماماً وينوي الاكتفاء بها إذا لم ينكشف له الخلاف في الوقت، وأمّا إذا قلنا: يجب الفحص، وأنّ من لم يفحص فيجب عليه من البداية أن يصلّي قصراً وتماماً؛ لمنجّزيّة العلم الإجماليّ، ولا تجري أصالة التمام، وهو مبنى صاحب العروة ره. فهذا لا يمكن له أن يكتفي بالتمام لو لم يفحص. فصاحب العروة ره عندما أوجب الاختبار والفحص هو لا يتحدّث عن وجوب تعبّديّ، بل عن وجوب طريقيّ لتحصيل الواقع. ومعنى الطريقيّة: أنّ من لم يختبر فيجب عليه الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام. وحينئذٍ: فهذا لا تجري في حقّه أصالة التمام، فإذا صلّى تماماً في أوّل الوقت جازماً بالنيّة (طبقاً لأصالة التمام هو يكون جازماً بالنيّة؛ لأنّها وظيفته الفعليّة)، فهذا قصد تشريع؛ لأنّ من لم يختبر على هذا المبنى يجب عليه الاحتياط بالجمع بين القصر والتمام، ولا يستطيع أن يكتفي بالتمام سواء انكشف له الخلاف داخل الوقت أم خارج الوقت.
وبالجملة: فمن قال بلزوم الاختبار بالسؤال، يعني: أنّه قبل الاختبار لا تجري أصالة التمام، فيكون الواجب عليه إمّا القصر أو التمام، وهذا ليس له أن يكتفي بالتمام، بل هذا إنّما يبني عليه من أجرى أصالة التمام.
والأغرب من هذا كلام السيّد الخوئي ره في الشقّ الثاني، حيث قال: إنّ من صلّى تماماً في الوقت، وانكشف له الخلاف خارج الوقت، ما فاته شيء، بدليل الإجزاء.
أقول: إنّ الإجزاء أعمّ من كونه لم يفته شيء أو فاته شيء لم يعد قابلاً للتدارك؛ بدليل أنّه في الوقت كان عليه ـ كما يعترف هو ره ـ أن يتدارك بالقصر. فدليل الإجزاء إنّما يدلّ على أنّ هنالك خصوصيّة فاتته في الوقت، لكنّها غير قابلة للتدارك بعد الوقت، لا أنّه لم يفته شيء. فهو ليس عليه الآن شيء، لكنّ هذا أعمّ من أن يكون قد فاته شيء أو لم يفته.
وعلى هذا الأساس، فإنّ كلّاً وما يبني عليه.
وواضح أنّه على ما بنينا عليه فلا وجوب للاختبار أصلاً؛ إذ لا معنى للاحتياط؛ إذ هو ليس قاصداً للمسافة، والقصد التعليقيّ ليس قصداً، فعلى مستوى الشبهة الحكميّة وظيفته التمام في الواقع. فلا إعادة.
وأمّا ذيل المسألة، فقد تعرّض الماتن ره في الذيل إلى المتبوع لا يجب عليه الجواب. نعم، لو كانت الشبهة حكميّة فيجب عليه التعليم. ولكنّ الشبهة موضوعيّة، ولا يجب تعليم الشبهات الموضوعيّة، كما هو واضح.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo