< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/23

بسم الله الرحمن الرحیم

المسألة السادسة عشرة:
* قال الماتن!: مع قصد المسافة لا يُعتبر اتّصال السير، فيقصّر وإن كان من قصده أن يقطع الثمانية في أيّام، وإن كان ذلك اختياراً، لا لضرورة، من عدوٍّ أو بردٍ أو انتظار رفيق أو نحو ذلك. [1]
نعم، لو كان بحيث لا يصدق عليه اسم السفر لم يقصّر، كما إذا قطع في كلّ يومٍ شيئاً يسيراً جدّاً للتنزّه أو نحوه، والأحوط في هذه الصورة أيضاً الجمع.
الشقّ الأوّل من المسألة (إلى قوله: أو نحو ذلك) واضح؛ فإنّنا لم نجد عيناً ولا أثراً في العمومات والمخصّصات، والمطلقات والمقيِّدات، ما يقيّد بطريقة خاصّة من السفر، كمركوب خاصّ، أو ساعات خاصّة، أو مسير خاصّ، أو باتّصال المسير، أو بسرعة معيّنة في المشي، وإذا كان كذلك، فتبقى العمومات والمطلقات على عمومها وإطلاقها في غير ما قُيّدت وخُصّصت به.
ومن بين الأمور التي لم نجد تقييداً وتخصيصاً بها: قطع المسافة في يوم أو أيّام مخصوصة.
ونلاحظ أنّ الماتن ره فرض الأمر في المسافة الامتداديّة؛ إذ في المسافة التلفيقيّة يوجد كلام، في أنّه يجب أن يرجع ليومه، أو ليومه وليلته، أو لا يجب، وأمّا في المسافة الامتداديّة، فلم ينطق أحد بمثل هذا الكلام.
وأمّا قوله ره: (نعم، لو كان بحيث لا يصدق عليه اسم السفر لم يقصّر)؛ فتقديره: لو كان السير بحيث لا يصدق عليه اسم السفر. ولا يجوز تقدير: لو كان المسافر، وإلّا، لقال: بحيث لا يصدق عليه اسم المسافر.
وكيف كان، فلا كلام كبرويّاً أيضاً في هذا الشقّ من المسألة؛ إذ قد ذكرنا أنّه يشترط حتّى يكون مسافراً أن يصدق عليه اسم المسافر، وأن يبدأ بقطع المسافة، فلو بدأ بقطع مائة فرسخ (لا الثمانية فحسب)، ولكن لم يصدق عليه اسم المسافر، لسببٍ من الأسباب، فلا يكون مشمولاً للأدلّة؛ لأنّ موضوع الأدلّة إنّما هو من صدق عليه عنوان المسافر، ولا حقيقة شرعيّة أو متشرّعيّة للمسافر.
وإنّما الكلام في المثال الذي ذكره ره، وهو قوله: كما إذا قطع في كلّ يومٍ شيئاً يسيراً جدّاً للتنزّه أو نحوه.
فإنّنا نسأل: ما المقصود بكونه يقطع شيئاً يسيراً في كلّ يوم؟ فإنّ المسافة اليسيرة أمر نسبيّ. فيمكن أن نفترض ـ مثلاً ـ أنّ شخصاً يقطع الثمانية فراسخ في خمسة عشر يوماً؛ لكونه يتنزّه في منطقة جميلة، ويمشي كلّ يومٍ فرسخاً أو يقلّ قليلاً أو يزيد، فهذا يصدق عليه قطعاً أنّه مسافر؛ لأنّ المسافر عرفاً هو من خرج من بلده أو مقرّه أو مكان إقامته ظاعناً، فيكون مشمولاً للإطلاقات؛ إذ هو يقصد فوق الثمانية فراسخ، ولا يقصد العود، لا ليوم، ولا لليلة، ولا لعشرة أيّام، غاية الأمر: أنّ هذا سافر سفراً غير مألوف وغير متعارف.
وفي هذه المسألة خرّجه صاحب المهذّب ره على أساس أنّه متعارف في مورده، بمعنى: أنّ المتنزّه ـ مثلاً ـ يُتعارف لمثله هذا النمط من السفر، وإن لم يكن هذا النمط متعارفاً لسفر الحاجة، ومن تكون حاجته في المقصد، لا في نفس الطريق. وقد ذكرنا أنّ العبرة ليست بالمقصد، بل العبرة في السفر بأن يقصد ثمانية فراسخ، سواء كان لديه مقصد خاصّ على رأس الثمانية أم لم يكن. وليس سفر معصية، ولا سفراً لهويّاً.
ولكن يظهر منه! أنّ العبرة بكون سفره، حتّى هذا اليسير، سفراً متعارفاً لمثله.
وهذا لا يمكن أن نوافق عليه، بل يمكن أن نزعم أنّ صاحبي المستمسك والمستند رحمهم الله لا يوافقان أيضاً على هذه الفكرة؛ لأنّ كون مصداق من المصاديق مصداقاً نادراً أو غير متعارف، ليس سبباً وجيهاً لدعوى الانصراف في الأدلّة، فتبقى الأدلّة شاملة لهذا المصداق؛ ذلك أنّه حُقّق في علم الأصول أنّ الانصراف تارةً يكون لقوّة علاقة بين اللّفظ وبعض أفراد ومصاديق المعنى، وهذا يستوجب انصرافاً، ويمنع من انعقاد الإطلاق. وبعض أنحاء الانصراف تكون لندرة وجود هذه المصاديق، لكنّنا نسأل: هل هي مصاديق أم ليست بمصاديق؟ فنسأل: مفهوم السفر والظعن هل يصدق عليها أم لا؟ فيُقال: قطعاً هو صادق عليها، لكنّها نادرة الوجود. فهذا قد حُقّق في علم الأصول أنّه لا يمنع من التمسّك بالإطلاق.
وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فنقول لصاحب المهذّب ره: لو فُرض أنّ هذا المتنزّه سافر سفراً غير متعارف حتّى لصنفه، فهذه الحالة لم يتحدّث عنها صاحب المهذّب ره. ونحن نقول: إنّه ما دام يُسمّى المسافر مسافراً، وما دام واجداً لبقيّة شروط السفر وقيوده، فلا يُشترط فيه اتّصال السير اتّصالاً عرفيّاً، وليكن مصداقاً نادراً، فيقصّر.
نعم، استثنى السيّد الخوئي ره عنواناً، قد يكون مراداً لغيره، وقد يكون مراداً لصاحب العروة ره، لكن لا ينطق به لفظ مسألته. وهو من يمشي مسافة يسيرة جدّاً، بحيث يمضي عليه عشرة أيّام وهو لا يزال في نفس الموضع عرفاً، فهذا يصدق عليه أنّه مسافر قطعاً، ولذلك من يبقى مردّداً ثلاثين يوماً في مكان واحد سُمّي مسافراً. فيقول السيّد الخوئي ره: إذا كان مسيره بهذا النحو، فهذا يصدق عليه أنّه قد أقام في ذلك المكان، وإن كان يصدق عليه عرفاً عنوان المسافر، ولكن حيث إنّه قد أقام بالمكان، فهذا قد انقطع سفره بالإقامة، والإقامة ليست قاطعاً للسفر العرفيّ، بل هي قاطع للسفر الشرعيّ. فقصد إقامة العشرة أيّام هو العبرة.
نعم، لا يظهر من السيّد الخوئي ره ربط المسألة بأن يكون ذلك من قصده من البداية.
فنقول: أصل ما أفاده السيّد الخوئي ره صحيح، لكن ليست العبرة بإقامة العشرة أيّام في مكانٍ، بل العبرة بقصد إقامة العشرة أيّام في مكان. فنحن نفصّل بين فرضين:
بين أن لا يكون من قصده شيء، لا مشي أمتار ولا كيلومتر ولا كيلومترات، بل يمشي وفق مزاجه، ثمّ انقضت عشرة أيّام وهو لا يزال في المكان نفسه، ولكن لم يكن من قصده ذلك من الأوّل، فقطعاً هنا يُقال: هو مسافر، ويصدق عليه السفر عرفاً، ولم يكن من قصده منذ البداية الإقامة في نفس المكان، ففي هذه الحالة لا يوجد قاطع وجدانيّ يُلغي اسم السفر عنه، ولا يوجد قاطع تعبّديّ؛ إذ هو من الأساس لم يكن قاصداً لذلك، بل حصل ذلك مزاجيّاً منه.
وبين أن يكون هو من الأساس ناوياً السير بهذه الكيفيّة، لأيّ سببٍ عقلائيّ. وهنا، نوافق السيّد الخوئي ره فيما أفاده؛ لأنّ هذا حيث كان قصْده من الأوّل أن يبقى في مكان واحد عشرة أيّام فأزيد، فهذا يصدق عليه عرفاً أنّه ناوٍ للإقامة، فحينئذٍ: هو منذ البداية لم يكن لديه سفر فعليّ؛ لأنّه منذ البداية قاصد للإقامة في كلّ بلد يصل إليه، ولا سيّما أنّ قصد الإقامة لا يستدعي أن يكون في نقطة واحدة من البلد؛ فإنّ قاصد الإقامة في بلدٍ يستطيع أن يتجوّل فيها (نعم، في خارجها، في بساتينها وتوابعها هناك كلام).
فالإشكال إنّما هو فيما يظهر من السيّد الخوئي ره من إطلاق كلامه؛ فإنّه ره بعد أن ناقش صاحب العروة ره في أنّ السفر سفر، سواء سار قليلاً أم كثيراً، قال: إنّ من يسير سيراً يسيراً بهذه الكيفيّة يصدق عليه أنّه مقيم في المكان فينقطع سفره. ونقول: كان عليه ره أن يقيّد بأن يكون من قصده بأن يسير يسيراً بهذه الكيفيّة، لا بأن يكون سيره كذلك اتّفاقيّاً؛ لأنّ الإقامة في مكانٍ واحد متردّداً إلى حدّ الثلاثين يوماً لا يقطع السفر وجداناً ولا تعبّداً. نعم، قصد الإقامة هو الذي يقطع، وإن لم يدم على العشرة أيّام.
إذاً، فكلامه ره متين جيّد، ولكن ضمن هذا القيد، وهو أن يكون من قصده من البداية ذلك. وهو ما لم يقيّده بحسب عبارة التقرير. وإن كنّا نحتمل قويّاً أنّ هذا مقصوده ره.
نعم، يبقى الإشكال وارداً على الماتن ره، وهو أنّه قال بأنّه في هذه الحالة لا يصدق عليه اسم المسافر أصلاً.
وقوله!: والأحوط في هذه الصورة أيضاً الجمع.
أقول: الاحتياط هنا لا وجه له. وليس الأمر كما علّق به بعضهم هنا من أنّ الاحتياط حسن على كلّ حال؛ لأنّ الفقهاء لا يحتاطون عادةً من باب حُسن الاحتياط على كلّ حال، وإلّا، فكنّا سنجدهم يحتاطون كذلك حتّى في المورد الذي فيه أدلّة غير متعارضة أيضاً. فالاحتياط لا بدّ وأن يكون له وجه ومبنىً علميّ. وهنا في المقام، هذا إمّا أن يصدق عليه عنوان المسافر أم لا؟ فإن جزمْنا بصدق عنوان المسافر عليه فحينئذٍ: يقصرّ، وإلّا، فيُتمّ، إجراءاً لأصالة التمام الجارية دائماً في موارد الشكّ.
لكنّ الظاهر: أنّ صاحب العروة ره متوقّف شيئاً ما في أنّه يصدق عليه أنّه مسافر. وإلّا، لو كان متوقّفاً حقيقةً، لكان عليه حينئذٍ أن يقول بجريان أصالة التمام.
وعلى كلّ حال، فالاحتياط استحبابيّ.

المسألة السابعة عشرة:
* قال الماتن!: لا يُعتبر في قصد المسافة أن يكون مستقلّاً، بل يكفي ولو كان من جهة التبعيّة للغير؛ لوجوب الطاعة، كالزوجة والعبد، أو قهراً، كالأسير والمكره ونحوهما، أو اختياراً، كالخادم ونحوه بشرط العلم بكون قصد المتبوع مسافة، فلو لم يعلم بذلك بقي على التمام، ويجب الاستخبار مع الإمكان. نعم، في وجوب الإخبار على المتبوع إشكال، وإن كان الظاهر عدم الوجوب.[2]
لم يكن مراد الماتن ره استقصاء جميع الشقوق الممكنة في المسألة، وإنّما هو من باب التمثيل.
وعطف المكره على الأسير من باب عطف العامّ على الخاصّ، وإلّا، فإنّ الأسير مكره أيضاً.
وأمّا الخادم، فإن كان مملوكاً لم يكن من باب الاختيار، وإن كان أجيراً، فحاله كحال الزوجة، يجب إطاعته له بالسفر معه، نعم، يصحّ ما ذكره في الخادم المتبرّع بالخدمة.
ولنجعل الكلام في جهتين:
الجهة الأُولى: في الشقّ الأوّل من المسألة إلى قوله: (بقي على التمام).
فنقول: من الواضح: أنّنا لم نجد في الأدلّة عيناً ولا أثراً لاشتراط كون قاصد المسافة مستقلّاً مختاراً بقصده، كما وجدْنا دليلاً على ذلك في باب العقول ـ مثلاً ـ؛ إذ عمومات المسافة تشمل كلّ مسافر ظاعن. ودليل القصد يشمل كلّ قاصد، سواء كان مخلّى السرب في قصده أم كان مكرهاً. نعم، دليل القصد لا يشمل من لم يقصد أبداً، كالذي خدّروه وأخذوه، فهذا لا يقصّر حتّى لو قطعوا به مسافات. ولا يتوقّف القصد على الإرادة بمعنى: الحبّ. ويشمل القصد إنساناً خُيّر بين أمرين أحلاهما مرّ، كمن قيل له: أقتلك أو تتبعني.
وإنّما الكلام في شمول الفرض للملْجَأ العالم بأنّ قصد متبوعه مسافة، كالذي قُيّد وأُوثق وكان عالماً أنّ من أوثقه يقطع به مسافة، فهو ليس قاصداً للتبعيّة، لا اختياراً وعن طيب نفس، ولا من باب أهون الشرّين، كالمكرَه، لكنّه يعلم بحسب العادة بأنّه لا محيص له منه في العادة، وأنّ مآله إلى سجنٍ ـ مثلاً ـ، وكان يعلم أنّ متبوعه يقطع مسافة وأزيد. فهذا، يظهر من كثير من العبائر عدم إخراج هذه الصورة، مع أنّ الظاهر: أنّ مثل هذا لا يقصّر؛ فإنّ العلم بأنّه تُقطع به مسافة، مع عدم قصد القطع، لا استقلالاً ولا تبعيّةً، لا اختياراً ولا إكراهاً، بحيث كان هو كالآلة في يد متبوعه، لكنّه كان واعياً ملتفتاً، وليس كالسكران. فهذه الصورة ينبغي إخراجها؛ لأنّ دليل قصد قطع المسافة لا يشمل من لم يقصد قطعها وقُطعت به. والعلم بأنّه سيُقطع به المسافة لا يلازم قصد قطعها، وهو وإن كان يدعو ويرجو الله أن يخلّصه منه، لكنّه ليس لديه أمل باستجابة الدعاء فعلاً.
أو كمن أُقفل عليه في صندوق السيارة، وكان يعلم بأنّ السائق عادةً ما يقطع مسافة، ولا يتوقّف في الطريق، ولا يعود إلى مكانه، ولم يكن له سبيل إلى إعلامه بذلك، فهذا ليس قاصداً للمسافة، وليس مكرهاً، وإن كان ملجَأً عمليّاً، فهذا لا يقصّر؛ لأنّه لا تشمله الأدلّة. وهذا ليس استثناءاً من القصد، بل هو خروج تخصّصيّ، من باب أنّ العلم لا يلازم القصد، والشرط في التقصير هو القصد.
وهناك نقطة أُخرى مهمّة في هذه الجهة، وهي أنّ العبرة ليست بقصد عنوان المسافة، بل العبرة بقصد واقع المسافة، فلو قصد السير من نقطة (أ) إلى نقطة (ب)، معتقداً أنّ المسافة بينهما سبعة فراسخ، ولكن كانت المسافة ثمانية فأزيد، ثمّ تبيّن له بعد وصوله إلى المقصد أنّ المسافة كانت ثمانية، فيقصّر؛ لأنّ العبرة ليست بقصد قطع عنوان الثمانية فراسخ أو نحو ذلك، بل العبرة بقصد واقع ذلك.
وإذا كان الأمر على هذا المنوال، فإذا علم بأنّ متبوعه يقصد إلى نقطة معيّنة، ولم يدْرِ أنّها تكون مسافة أم لا، وكانت مسافةً واقعاً، فهو قاصد لواقع المسافة.
وهذا كلّه واضح. ولا كلام فيه.
وإنّما الكلام في نقطةٍ مهمّة، وقعت موقع الخلاف بين المحقّقين، وهي ما لو لم يعلم بأنّ متبوعه إلى أين يقصد، ولكن في علمه هو، وفي علم من أظهر الله على غيبه، أنّه يريد مسافة، ولم يكن مطّلعاً على قصده، وإنّما قصد ما قصده (الفرق بين هذه والسابقة، أنّه تارةً يعرف العنوان والمعنون، وأُخرى يعرف المعنون ولا يعرف العنوان، وثالثة يعرف العنوان ولا يعرف المعنون، أي: يعرف أنّه سيقطع المسافة وزيادة، ولكن لا يعرف إلى أيّ مكان، ففي الجميع، إذا كان الواقع مسافة لا مشكلة. وأمّا هنا، فنفرض أنّ المتبوع قاصد إلى مكان، والتابع لم يعرف المكان، ولم يعرف أنّ هذا المكان يبلغ مسافة أم لا، فلا يعرف العنوان ولا المعنون)، فهنا، هل يكفي أن يقصد التابع واقع ما قصده المتبوع فيقصّر؟ كما يقول الشهيد الأوّل ره وجماعة، منهم الماتن ره. أم لا؟ من باب أنّه لا ينبغي أن يقصد غيباً في متبوعه؛ لأنّه لم يقصد مسافة أصلاً، لا عنواناً ولا معنوناً، وأنّ قصده كان تعليقيّاً؟
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo