< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

36/02/18

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام في الشرط الثاني من شرائط التقصير، قصد قطع المسافة.
والسؤال الذي يطرح نفسه هنا: أنّه ثبت لدينا في البحث السابق أنّ المسافة شرط، فقد يُقال: إنّ ظاهر العمومات التي تحدّد المسافة أنّ كلّ إنسانٍ قطع هذه المسافة قصّر، سواء كان قاصداً أم غير قاصد؛ ذلك أنّ من سافر من ظلّ عير إلى وعير، أو من خرج إلى ذي خشب، ـ مثلاً ـ، فهو قد قطع ثمانية فراسخ، ومن قطع ثمانية فراسخ فقد شغل يومه، وفي التلفيقيّة أيضاً الكلام نفس الكلام؛ فإنّ مقتضى الإطلاق والعموم الوارد في هذه الأدلّة أنّ كلّ مسافرٍ سواء قصد أم لم يقصد فإنّه يكون مسافراً. هذا العموم أو الإطلاق مخصّص أو مقيَّد قطعاً أيضاً بأدلّة مرّت لا داعي لتكرارها، وهي الروايات التي كانت تتحدّث عن الذي خرج إلى النهروان، أو الذي خرج وينتظر الرفقة، أو الذي خرج في طلب غريمٍ له ثمّ تمادى به السير، واتّفقت هذه الروايات على أنّ مطلق قطع المسافة لا يقتضي التقصير، بل لا بدّ وأن يكون عازماً على هذا الأمر. فهل العزم مع القطع هو الميزان؟ أم خصوص العزم والقصد يكفي مع استقرار النيّة والاستمرار عليها؟
مقتضى الطائفتين من الأدلّة إلى هنا، أنّه العزم مع قطع المسافة؛ لأنّ الذي يقطع مسافة، فبمقتضى الطائفة الأُولى يقصّر، وبمقتضى الطائفة الثانية التي قالت: المسترسل الذي قطع مسافة لكن شيئاً فشيئاً ولم يكن من قصده ذلك، فيُستفاد من ضمّها إلى الطائفة الأُولى أنّ الميزان هو قطع المسافة مع القصد.
ثمّ جاءت طائفة ثالثة من الروايات قالت: من بلغ حدّ الترخّص يقصّر. هذه الطائفة تقتضي أن يكون قصد قطع المسافة مع الشروع فيها والبلوغ إلى حدّ الترخّص كافياً، ما دام قاصداً، فإذا بلغ إنسان حدّ الترخّص، فمفاد هذه الروايات أنّه يكفيه هذا المقدار، وهذه تقيّد الطائفة الثانية بلا شكّ، ولا يُشترط حينئذٍ قطع المسافة حتّى يبدأ بالتقصير، بل يبدأ بالتقصير من حين تجاوزه لحدّ الترخيص. فهل الاستمرار على هذا القصد شرط، بعد أن خرج من حدّ الترخّص، أم ليس بشرط؟ هذا سيُبحث في البحث الآتي، فلا نستبقه.
لكن تظهر ثمرته هنا، فلو عدل بعد الوصول، فما هو الحكم بالنسبة إلى الصلاة السابقة التي صلّاها قصراً، والآن إذا أراد أن يصلّي فكيف يصلّي؟
هذا قد اختلفت فيه الروايات بين صحيحة زرارة وصحيحة أبي ولّاد، فإحداهما قالت: يعيد، والأُخرى قالت: لا يُعيد، والتي قالت: لا يُعيد، قد يُستظهر منها أنّ وظيفته تبقى هي القصر إلى أن يرجع إلى البلد، خلافاً لأكثر المحقّقين، ولا يمكن الاستفادة من (لا يُعيد) بأكثر من لا يُعيد، لإثبات أنّه يصلّي العصر التي لم يصلّها ما دام في مكانه فيصلّيها قصراً.
هل الإتمام شرط متأخّر للصلاة التي صلّاها أم العزم على الإتمام شرط متأخّر للصلاة التي صلّاها والصلاة التي يريد أن يصلّيها أم لا؟
هذا يجب أن نبحث عنه في شرط استمرار القصد (ولو أنّهم ذكروا ذلك في مبحث القصد، وأنّه لا بدّ في القصد أن يكون مستمرّاً لكان أفضل)، الروايات الواردة في المقام طوائف.
أمّا روايات المسافة فهي واضحة، وقد بحثناها أيّاماً.
وأمّا روايات حدّ الترخّص ستأتي، وليس هنا محلّ التعرّض لها.
وأمّا روايات المتمادي، فقد مرّت معنا، كموثّقة عمّار المتقدّمة ومرسلة صفوان. ونعيد قراءتهما هنا سريعاً:
موثّقة عمّار، وهي الحديث 3 من الباب 4 من أبواب صلاة المسافر، وهي:
وبإسناده عن محمّد بن أحمد بن يحيى، عن أحمد، عن عمرو، عن مصدّق، عن عمّار، عن أبي عبد الله ع، قال: سألته عن الرجل يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فراسخ ويأتي قريةً فينزل فيها ثمّ يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أُخرى أو ستّة فراسخ لا يجوز ذلك، ثمّ ينزل في ذلك الموضع، قال: لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتمّ الصلاة.[1]
سند الشيخ الطوسيّ) إلى محمّد بن أحمد بن يحيى صحيح.
وأمّا أحمد هنا، فالمراد منه أحمد بن الحسن بن عليّ بن فضّال، وهو ثقة. [وليس أحمد بن أبي نصر البزنطيّ]
للوهلة الأُولى هي ظاهرة في أنّ الإنسان لا يقصّر إلّا بعد أن يقطع المسافة.
لكن وجدت جملةً من المحقّقين، وتوافق شرّاح العروة على هذا الفهم، وربما غيرهم أيضاً، على أنّ المقصود: خرج في حاجةٍ لا يعرف مداها، في البحث عن ضالّته ـ مثلاً ـ، فمشى أربعة أو خمسة فراسخ، فلم تنقضِ حاجته، فأنشأ من هناك أربعة أو خمسة فراسخ جديدة في الذهاب، فقول الإمام ع بعد ذلك: لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، حملوها على من كان قاصداً منذ البداية لثمانية فراسخ.
وقد حاولْتُ جاهداً أن أُقنع نفسي بهذا الفهم، فلم أستطع! إذ ليس في الرواية إشارة أصلاً إلى القصد، وليس فيها إشارة إلى أنّ الحاجة كانت تُقضى دون العشرة فراسخ، فهو لم يقل في الرواية: حاجة غير معروفة المكان. بل قال: يخرج في حاجة فيسير خمسة فراسخ أو ستّة فراسخ ويأتي قريةً فينزل فيها، (وينزل فيها، ليس من الضروريّ أن يكون نزوله فيها لقضاء حاجته، بل لعلّه أراد أن يرتاح، كمنزل السفر) ثمّ يخرج منها فيسير خمسة فراسخ أُخرى أو ستّة فراسخ لا يجوز ذلك، ثمّ ينزل في ذلك الموضع، قال: لا يكون مسافراً حتّى يسير من منزله أو قريته ثمانية فراسخ، فليتمّ الصلاة.
فلماذا علينا أن نفترض أنّ الإمام ع في جوابه يردّ على أنّ المسافة الأُولى التي كان قاصداً لها هي دون المسافة الامتداديّة، والثانية أيضاً كذلك، وأنّه لا يوجد حينئذٍ سفر حتّى يقصد ثمانية فراسخ؟!
بل هذا أحد الاحتمالات، وليس ظاهر الرواية. ولعلّ السائل لم يكن عارفاً للميزان، فالإمام ع أجابه بالميزان، وأنّ الميزان أن يخرج ويقطع مسافة ثمانية فراسخ. وهذا مؤيّد للعمومات أصلاً، وليس العكس. وحينئذٍ: فيكون الإمام ع بصدد إعطاء الميزان.
ولو كان مراد الإمام ع نفي كون قطع المسافة موضوعاً للزوم التقصير ولابدّيّة كون القطع مقروناً بالقطع لَما اكتفى بهذه العبارة؛ فإنّها عبارة غير عرفيّة في إفادة ذلك. ومن هنا، فنحن نحتمل أن يكون قوله ع: «يأتي قريةً فينزل فيها ثمّ يخرج منها فيسير»، ناظراً إلى كون الإمام ع بصدد إعطاء ضابطة عامّة (المراد من القرية في الرواية هي قريته، وليس المراد منها ما تُحمل عليه كلمة القرية حاليّاً، من معنى البلدة)، فهذا الإنسان قد نزل قريته، فلا يكون قد أتمّ المسافة الامتداديّة (والكلام هنا في المسافة الامتداديّة)، فبعدها أيضاً ذهب دون الثمانية، فلم يذهب ثمانية من دون قاطع سفر. ولعلّ هذا هو الأقرب في الرواية. (وإن لم يكن الوارد في الرواية لفظ (قريته)، بل لفظ (قرية).
ولا أقلّ من أنّنا نشكّك في ظهور الرواية في أنّ الإمام ع بصدد نفي التقصير عمّن مشى اثني عشر فرسخاً بهذه الطريقة؛ لأنّ هذا يحتاج إلى مقدّمة مفقودة في الرواية، وهو أن تكون حاجته غير محدّدة المكان والمقصد. فالرواية لم يتّضح ارتباطها بقصد قطع المسافة من البداية.
***

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo