< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/06

بسم الله الرحمن الرحیم

10) الرواية العاشرة:
محمّد بن يعقوب، عن عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: التقصير (في السفر) في بريد، والبريد أربعة فراسخ.[1]
لا كلام في السند، فالرواية واضحة الصحّة.
والرواية ليست دالّة على التلفيق، بل هي من تلك الطائفة التي بدأ صاحب الوسائل & الباب بها.
11) الرواية الحادية عشرة:
وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبي أيّوب قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أدنى ما يقصّر فيه المسافر؟ قال: بريد.[2]
دائماً عندما يقول صاحب الوسائل & (وعنه)، فمقصوده ليس هو صاحب الكتاب الذي نقل منه، بل الراوي الأوّل الواقع في السند السابق.
أبو أيّوب هو الخزّاز أو الخرّاز.
وهي كالرواية السابقة دلالةً. لو خُلّيت ونفسها تُحمل على المسافة الامتداديّة، لا التلفيقيّة.
12) الرواية الثانية عشرة:
وعنه، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: سئل عن حدّ الأميال التي يجب فيها التقصير؟ فقال: أبو عبد الله عليه السلام: إنّ رسول الله- جعل حدّ الأميال من ظلّ عير إلى ظلّ وَعير، وهما جبلان بالمدينة، فإذا طلعت الشمس وقع ظلّ عير إلى ظلّ وعير، وهو الميل الذي وضع رسول الله- عليه التقصير.[3]
الرواية مرسلة، فمن يعمل بمراسيل ابن أبي عمير أخذ بهذه الرواية، ومن لا يعمل بها، فلا. والصحيح أنّه يُعمل بمراسيله، لا لجهة خصوصيّةٍ في مرسلاته، بل من جهة الوثوق والاطمئنان بأنّ الواسطة المحذوفة ثقة؛ لندرة ما روى عن غير الثقات.
قوله عليه السلام: «وهو الميل الذي وضع...»، الميل اسم جنس، أي: وهي الأميال التي وضع..
والرواية واضحة من حيث الدلالة. وهي بإطلاقها أيضاً تشمل من لا يريد الرجوع.
13) الرواية الثالثة عشرة:
وعن محمّد بن يحيى، عن محمّد بن الحسين، عن محمّد بن يحيى الخرّاز (وفي نسخة: الخزّاز)، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد الله عليه السلام قال: بينا نحن جلوس وأبي عند والٍ لبني أميّة على المدينة إذ جاء أبي فجلس، فقال: كنت عند هذا قُبيل [أي: قبل قليل] فسائلهم عن التقصير، فقال قائل منهم: في ثلاث، وقال قائل منهم: في يوم وليلة، وقال قائل منهم: روحة [أي: مطلق ما يصدق عليه السفر]، فسألني فقلت له: إنّ رسول الله- لمّا نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبيّ-: في كم ذاك؟ فقال: في بريد، [هنا توجد دلالة على أنّه لم يكن سنّة] قال: وأيّ شيء البريد؟ فقال: ما بين ظلّ عير إلى فيء وعير، قال: ثمّ عبرنا زماناً [أي: مشينا زماناً على هذا المنوال] ثمّ رأى بنو أميّة يعملون أعلاماً على الطريق [أي: رأوا أثناء حكمهم رأياً بأن يعملوا أعلاماً]، وأنّهم ذكروا ما تكلّم به أبو جعفر عليه السلام فذرعوا ما بين ظلّ عير إلى فيء وعير، ثمّ جزّؤوه على اثني عشر ميلاً فكانت ثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع كلّ ميل، فوضعوا الأعلام، فلمّا ظهر بنو هاشم [أي: بنو العبّاس] غيّروا أمر بني أميّة غيرة لأنّ الحديث هاشميّ، فوضعوا إلى جنب كلّ علم علماً.[4]
محمّد بن يحيى الخزّاز موثّق بلا شكّ.
والرواية مرسلة، فهي ضعيفة السند؛ لأنّ المرسِل هنا شخص عاديّ وإن كان ثقة.
وهذه أيضاً بإطلاقها ظاهرة في المسافة الامتداديّة، لا التلفيقيّة.
14) الرواية الرابعة عشرة:
محمّد بن علي بن الحسين، بإسناده عن جميل بن دراج، عن زرارة بن أعين، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التقصير فقال: بريد ذاهب وبريد جائي.[5]
سند الشيخ الصدوق & إلى جميل جميل، وجميل في أعلى درجات الوثاقة.
والرواية واضحة في أنّها في التلفيق، وواضحة أيضاً في أنّها في مقام التحديد.
15) الرواية الخامسة عشرة:
قال: وكان رسول الله- إذا أتى ذباباً قصّر، وذباب على بريد، وإنّما فعل ذلك لأنّه إذا رجع كان سفره بريدين ثمانية فراسخ.[6]
هذه الرواية ذيل للرواية السابقة. فالسند هو نفسه.
يُلاحظ في هذه الروايات أنّ الإمام عليه السلام يُكثر من الاستشهاد بفعل النبيّ-؛ وذلك لأنّ القضيّة خلافيّة بين المسلمين، وهي محلّ ابتلاء لهم، بل عامّة البلوى، وهم لا يرون الأئمّة( حجج الله على خلقه، فكانوا( يحتجّون عليهم بسنّة النبيّ-.
16) الرواية السادسة عشرة:
قال: وقال الصادق عليه السلام: إنّ رسول الله- لمّا نزل عليه جبرئيل بالتقصير قال له النبيّ-: في كم ذلك؟ فقال: في بريد، فقال: وكم البريد؟ قال: ما بين ظلّ عير إلى فيء وعير، فذرعته بنو أميّة ثمّ جزوه على اثني عشر ميلاً فكان كلّ ميل ألفاً وخمسمائة ذراع وهو أربعة فراسخ.[7]
وهي أيضاً ذيل وتتمّة للرواية السابقة.
وهي نفس الرواية الثالثة عشرة، ولكن باختصار.
وفي الرواية السابقة تقدّم تحديد الميل بثلاثة آلاف وخمسمائة ذراع، وهو الموافق للّغة. فهنا كأنّه يوجد تصحيف. وإن احتمل الشيخ الحرّ & أو غيره وجود مصطلحٍ للذراع، لكن هذا بعيد، لا عين ولا أثر منه، لا في اللّغة ولا في الإطلاقات ولا في الكتب المصنّفة في المقاييس.
17) الرواية السابعة عشرة:
وفي (العلل) و(عيون الأخبار) بإسناده الآتي، عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال: والتقصير في ثمانية فراسخ وما زاد، وإذا قصّرت أفطرت.[8]
تقدّم هذا الإسناد: عبد الواحد بن محمّد بن عبدوس، عن عليّ بن محمّد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، وتقدّم الكلام في هذا السند وأنّه معتبر بنظرنا.
ولا يكاد ينقضي العجب من الإتيان بهذه الرواية إلى هذا الموضع؛ إذ هي واردة في موضوع الباب الأوّل، وأنّ السفر هو في ثمانية فراسخ، وهذا الباب معقود للكلام في المسافة التلفيقيّة، ولأنّ روايات البريد والأربعة فراسخ والاثني عشر ميلاً تُحمل على التلفيق، أودعها الشيخ الحرّ & في هذا الباب، وإن كان حقّها أن يُعقد لها باب مستقلّ. لكنّ هذه الرواية تضمّنت ثمانية فراسخ، فلماذا أتى بها إلى هنا؟
18) الرواية الثامنة عشرة: وفي (العلل) و(عيون الأخبار) بإسنادٍ يأتي عن الفضل بن شاذان، عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال: إنّما وجبت الجمعة على من يكون على فرسخين لا أكثر من ذلك؛ لأنّ ما تُقصّر فيه الصلاة بريدان ذاهباً أو بريد ذاهباً وبريد جائياً، والبريد أربعة فراسخ فوجبت الجمعة على من هو نصف البريد الذي يجب فيه التقصير، وذلك لأنّه يجيء فرسخين ويذهب فرسخين وذلك أربعة فراسخ، وهو نصف طريق المسافر.[9]
الرواية واضحة الدلالة فيما يرتبط بالتلفيق.
19) الرواية التاسعة عشرة: الحسن بن عليّ بن شعبة في (تحف العقول) عن الرضا عليه السلام في كتابه إلى المأمون قال: والتقصير في أربعة فراسخ بريد ذاهباً وبريد جائياً اثني عشر ميلاً، وإذا قصّرْتَ أفطرت.[10]
وهي نفس الرواية 17 المتقدّمة، فلا داعي لذكرها في هذا الباب أصلاً.
هذا تفصيل الكلام في الروايات. وهناك روايات أُخرى بنفس المضامين يأتي الكلام فيها، وبعد تتبّعنا لها واحدة تلو أُخرى وجدنا أنّه ليس فيها فائدة زائدة على الروايات التي تعرّضنا لها.

والمتحصّل من هذا البحث برمّته:
أنّ لدينا طائفة قالت بالثمانية فراسخ، وهي ظاهرة في الامتداديّة، ولا يصحّ القول بأنّها مطلقة تشمل الامتداديّة والتلفيقيّة؛ لأنّها ظاهرة في الابتعاد بقدر ثمانية فراسخ وما جرى مجرى ذلك.
الطائفة الثانية، وفيها عدّة روايات، وفيها معتبرات وصحاح، قالت: السفر في بريد، وأربعة فراسخ، واثني عشر ميلاً. وهذه الطائفة كلّها ظاهرة في الامتداد، وأنّ الذاهب يقصّر حتّى لو لم يكن من نيّته الرجوع.
وهذا يقتضي التعارض بين الطائفتين بالتباين، كما هو واضح.
في مقابل هاتين الطائفتين توجد طائفتان تتّفقان في أنّهما شاهد جمعٍ لهاتين الطائفتين:
الأُولى: التي قالت: أدنى ما يقصّر فيه الإنسان بريد ذاهباً بريد جائياً. فمن الواضح جدّاً أنّ هذه الطائفة شاهد جمع على أنّ البريد محمول على الغالب من كون الإنسان يريد الرجوع، خصوصاً أنّ الأمثلة التي مُثّلت هي أماكن لا يستقرّ فيها الإنسان عادةً.
والثانية: التي عبّرت بأنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه. هذه أيضاً واضحة في الانسجام مع الجوّ العامّ للروايات، وأنّ الموضوع الواقعيّ هو شغل اليوم بالذهاب والإياب، وأنّ هذا الموضوع حدّدته الشريعة بثمانية فراسخ، والثمانية فراسخ أعمّ من كونها في اتّجاهٍ واحد، أو في اتّجاهين بريد في بريد. فهذه أيضاً شاهد جمع بين الطائفتين.
إلى هنا ثبتت لدينا المسافة التلفيقيّة بلا كلام.
إنّما الكلام في أنّه أيّ التلفيق هو المعتبر؟
المستفاد من صحيحة معاوية بن وهب، وما جرى مجراها، أنّ أدنى ما يقصّر فيه الإنسان بريد ذاهباً وبريد جائياً. وهو صريح أنّه في مقام التحديد. واضح جدّاً من هذا التحديد أنّ التلفيق يجب أن يكون أربعةً في أربعة، فإن نقص من أحد الطرفين عن الأربعة، فلا تقصير.
في المقابل، هنالك رأيان ـ كما تقدّم ـ:
الرأي الأوّل: القائل بالاكتفاء ببريد ذاهباً، لا بشرط من ناحية الزيادة، مع الرجوع، ولو كان أقلّ من بريد. شريطة أن يكون المجموع ثمانية فراسخ.
هذا الكلام يُستفاد من إحدى الروايات التي نبّهنا عليها سابقاً، وهي الرواية التاسعة من الباب، وفيها: سألته عن التقصير، قال: في بريد. قال: قلت: بريد؟ قال: إنّه إذا ذهب بريداً ورجع بريداً فقد شغل يومه.
فهي صريحة في لزوم كون الذهاب بريداً، فهل الرجوع بريد؟ حُمل على الغالب؛ لأنّ التعليل بـ فقد شغل يومه، فإذا ذهب أكثر من بريد، وعاد من طريق مختصرٍ أقلّ من بريد، أفلا يكون قد شغل يومه أيضاً؟
والنقض على هذا القول بأنّه يلزم منه أنّ شغل اليوم بالتحرّك في مكانٍ واحد يكفي للتقصير.
مدفوع بهذه الرواية وبجملة من الروايات الصريحة في لزوم وجود بريد على الأقلّ امتداديّة.
وإذا كان الأمر كذلك، فإنّ هذا القول إنّما يتمّ فيما لو كان شغل اليوم الذي هو الأصل في وضع مسافة السفر هو الموضوع إثباتاً، لا هو علّة جعل التقصير في المسافة المحدّدة واقعاً بحيث يصبح الحكم دائراً مداره.
لكن من الواضح: أنّ شغل اليوم ليس شغل اليوم الفعليّ، كما بيّنت الروايات، ولذلك قيل لمن لم يشغل يومه بسفره وبلغ المسافة على دابّةٍ سريعة: عليك أن تقصّر؛ لأنّ المسافة لم تُوضع، ولست أنت الملحوظ في شغل اليوم، بل الملحوظ هو المسير الوسطيّ، ولأنّ المسير الوسطيّ يتفاوت أيضاً فقد حُدّد بثمانية فراسخ وما جرى مجراها. فشغل اليوم وإن كان علّةً في عالم الثبوت، لكن على أساس علّيّته في عالم الثبوت جُعلت مسافة محدَّدة، موضوع حدّده الشارع وتعبّد به على مستوى عالم الإثبات، وهو التحديد المكانيّ، لا الزمانيّ. أن يكون شغل اليوم ولو ببعض أنحاء السفر، ولو بالسفر الغالب، علّةً في الواقع، لا يعني أنّه الموضوع الفعليّ في عالم الإثبات. بل الموضوع الفعليّ في عالم الإثبات ليس شغل اليوم، بل الثمانية فراسخ. وإذا كان الأمر كذلك، فحينئذٍ: لا نستطيع بتعليل شغل اليوم أن نعمّم ونخصّص، بل التعميم والتخصيص يكون بحسب التحديد المكانيّ؛ لأنّه هو الموضوع المتعبَّد به شرعاً، وإن كانت فلسفته وخلفيّته هي شغل اليوم بحسب السفر الغالب.
وحينئذٍ: لا شكّ ولا ريب في صراحة بعض الروايات في لزوم كون الذهاب بريداً والإياب بريداً، ولا نستطيع أن نرفع اليد عنها لصالح التعليل بشغل اليوم؛ لأنّه لم يعد هو الموضوع إثباتاً.
وبهذا تتّضح المناقشة فيما ذهب إليه صاحب العروة & والمحقّق الأصفهانيّ &.
فإنّ صاحب العروة & ليس له بحث استدلاليّ كيف نعرف وجه كلامه، لكنّ المحقّق الأصفهانيّ & في رسالة صلاة المسافر أفاد أنّ الوجه في الاكتفاء بالتلفيق كيفما اتّفق (مع صدق السفر، ووجود ذهاب واحد وإياب واحد، لا ذهابات وإيابات في مكانٍ واحد)، هو أنّ العلّة في التقصير هي شغل اليوم المطبَّق على ثمانية فراسخ، فيُحمل البريد في بريد على الغالب، وهو أنّ الإنسان يرجع من نفس المسير.
وذلك أنّ كون شغل اليوم علّة ثبوتاً وواقعاً للتقصير لا يعني أنّه هو الموضوع الذي يدور مداره الحكم إثباتاً، لو خلّى الشارع بيننا وبين تعميم العلّة، ولم يحدّد ولم يقنّن موضوعاً في عالم الإثبات، لكان هذا الكلام صحيحاً، لكنّ الشارع حدّد في مقام الإثبات مسافة مكانيّة، وهي ثمانية امتداداً، وأربعة في أربعة تلفيقاً.
وبعبارةٍ أوضح: شغل اليوم لغا على مستوى الموضوع الفعليّ، بات الموضوع الفعليّ للتقصير ثمانية فراسخ بريداً ذاهباً وبريداً جائياً، وهي صريحة.
ومن هنا، فإنّ الصحيح هو الرأي القائل بأنّ المسافة التلفيقيّة تُحمل على أربعة في أربعة، فإن قلّ في أحد الطرفين وزاد في الآخر وكان المجموع ثمانية، فلا يكفي. والاحتياط لمن أراد سبيل النجاة في حالات التلفيق الأُخرى.
لكنّ المذكور في كلام صاحب المستمسك & هو أنّ شغل اليوم يقيَّد بصحيحة معاوية بن وهب القائلة: بريد في بريد. بمعنى: أنّ رواية فقد شغل يومه، مطلقة، تشمل الذهاب 5 فراسخ والإياب 3، والعكس، جاءت صحيحة معاوية بن وهب القائلة بأنّ أدنى ما يقصّر فيه المرء بريد ذاهباً وبريد جائياً، فتقيّد شغل اليوم بهذا النحو من أنحاء شغل اليوم.
أقول: هذا الكلام وإن كان بظاهره جيّداً وصناعيّاً، لكنّه إقرار وإذعان بأنّ الموضوع الفعليّ للتقصير هو شغل اليوم، وهذا ما ينبغي ردّه كما تقدّم، حيث إنّ الشارع لم يقبل بشغل اليوم موضوعاً فعليّاً للتقصير، بل حدّده بثمانية فراسخ امتداداً، أو أربعة في أربعة تلفيقاً، وهو أدنى ما يُقصَّر فيه؛ لكون الوسيلة الغالبة كذلك.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo