< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/12/04

بسم الله الرحمن الرحیم

* قال الماتن: «وأمّا شروط القصر فأمور: الأوّل: المسافة، وهي ثمانية فراسخ امتداديّة ذهاباً أو إياباً، أو ملفَّقةً من الذهاب والإياب إذا كان الذهاب أربعةً أو أزيد، بل مطلقاً على الأقوى، وإن كان الذهاب فرسخاً والإياب سبعاً. وإن كان الأحوط في صورة كون الذهاب أقلّ من أربعة مع كون المجموع ثمانية الجمع».[1]
تقدّم الكلام في المسافة الامتداديّة. وهي الجهة الأُولى من البحث.

الجهة الثانية: الكلام في المسافة التلفيقيّة
هذه المسألة تستدعي أوّلاً أن يكون هناك في الفقه ما يُسمّى بـ المسافة التلفيقيّة؛ لأنّ ما ثبت لدينا إلى الآن هو المسافة الامتداديّة. وكلّ النصوص التي تقدّمت كانت ظاهرةً في المسافة الامتداديّة.
نعم، لم يكن في هذه النصوص نافٍ آبٍ عن التقييد بنحوٍ من أنحاء التقييد المذكورة في كلام الماتن. فالروايات على كثرتها ذكرت ثمانية فراسخ، والثمانية فراسخ ظاهرة في الامتداديّة، لكن لا توجد رواية منها نافية أو آبية عن التقييد، بل بعضها يُشعر بذلك؛ فإنّ الروايات التي علّلت بـ (فقد شغل يومه) أو مسيرة يوم، قد تُشعر بأنّ كلّ سفرٍ يُشغل اليوم فهو الميزان في التقصير، سواء كان في اتّجاه واحد أو بالاتّجاهين. لا نقول: يُستفاد هذا من التعليل، لكنّه قابل للتطبيق على ما يُشغل اليوم امتداديّاً، كما هو قابل للتطبيق على ما يشغله في الاتّجاهين.
لا شكّ في أنّ هنالك روايات صحيحة صريحة واضحة في تقييد هذه المطلقات، لكن قد وقع الخلاف بين المحقّقين في كيفيّة هذا التقييد.
والأقوال في المسألة ثلاثة، بل أربعة، ويمكن إرجاعها إلى قولين أساسيّين:
1) القول الأوّل: القول بتعيّن التقصير في المسافة التلفيقيّة.
وهذا القول يُستخرج منه أقوال ثلاثة:
أ. ذهب جماعة إلى القول بلزوم كون التلفيق بريداً في بريد، أي: أربعة فراسخ في أربعة، فإذا قلّ الذهاب عن الأربعة، أو قلّ الإياب عنها، فلا تقصير، فلا يُكتفى بكون المجموع ثمانية، ولا يُكتفى بكون الذهاب أربعةً فأزيد، بل لا بدّ من كون كلٍّ منهما أربعة على الأقلّ.
وهذا القول قول جماعة كبيرة من المحقّقين، ـ وإن لم ينسب إلى المشهور ـ وذهب إليه، بل أصرّ عليه، المحقّق النائيني& والسيّد الحكيم& في المستمسك وتعليقته، والسيّد الخوئي& والشيخ الحائري& وآخرون. وهذا القول دليله روايات صرّحت بالأربعة في أربعة، أو بريد في بريد.
ب. القول بلزوم كون الذهاب أربعة على الأقلّ، مع عدم التقيّد بكون الإياب كذلك، فيشترط أن لا يقصر الذهاب عن أربعة فراسخ، فلو فرضنا أنّه في اليوم الأوّل سلك طريقاً طويلة، وعاد من طريق قصيرة، وكان المجموع ثمانية فراسخ، فيقصّر، وفي اليوم الثاني، سلك الطريق القصيرة ذهاباً، وعاد من الطريق الطويلة، فهنا لا يقصّر، حتّى لو كانت المسافة هي نفسها، بل حتّى لو كان السفر هو نفسه.
وهذا القول ربما نُسب إلى المشهور، وذهب إليه من المحشّين على العروة السيّد البروجردي&، والسيّد أبو الحسن الأصفهانيّ&، والإمام الخميني&. وينبغي الالتفات إلى أنّنا هنا في هذا البحث لا توجد لدينا شهرة تعبّديّة، وإنّما لدينا اختلاف في النصوص وخلاف في كيفيّة الجمع بين النصوص.
ج. القول بالاكتفاء بالتلفيق كيفما كان، بشرط أن يصدق عليه أنّه مسافر، فلو فرضنا أنّه لكي يصدق عليه أنّه مسافر لا بدّ من أن يكون قد قطع فرسخاً (وإن كان قد يصدق بالأقلّ)، فحينئذٍ: يقولون: إنّ مطلق التلفيق يكفي، ما دام المجموع من الذهاب والإياب ثمانية إياب. وهذا هو القول الذي اختاره وترقّى إليه صاحب العروة&، وجعله الأقوى، وهذا هو ما انتهى إليه المحقّق الأصفهانيّ& في رسالته في صلاة المسافر، وهو الذي يظهر من بعض المحقّقين أيضاً، وإن قلّوا بالقياس إلى القولين السابقين.
2) القول الثاني: وهو ما نُسب إلى العلّامة& في بعض كتبه، وذهب إليه الشهيد الأوّل& في الذكرى، وربما غيرها، ونُقل عن صاحب المدارك&، وربما نُسب إلى بعضٍ من المحقّقين أنّ المسافة الملزمة بالتقصير هي المسافة الامتداديّة، وأنّ التلفيقيّة تقضي بالتخيير بين القصر والتمام. لكن في عدّ هذا قولاً في المسافة التلفيقيّة تأمّل، بل منع؛ لأنّ هذا خلاف في الحكم، أنّه تخيير أو إلزام، ذلك أنّ أصحاب هذا القول أيضاً مسؤولون أنّه متى يكون التخيير، في أربعة ذهاباً وأربعةٍ إياباً؟ أم في الأربعة ذهاباً، ولا ننظر إلى الإياب؟ أم في مطلق التلفيق، فيكون القائل بالتخيير أيضاً مضطرّاً إلى العود إلى واحد من الأقوال الثلاثة المتقدّمة.
وهذا القول لا يوجد عليه دليل معتدّ به في الأدلّة، وربما نتعرّض له في نهاية المطاف.
المهمّ في المقام هو ذكر مدارك هذه الأقوال، لنرى ما هو الصحيح منها.
وقد ذكرنا في البحث السابق أنّ لدينا عدّة روايات لم نتعرّض لها ذكرت أنّ المسافة أربعة فراسخ أو بريد أو اثنا عشر ميلاً، وظاهر هذه الروايات لو خُلّينا وإيّاها أنّها تنافي وتباين الروايات في الباب السابق؛ لأنّ هذا ظاهر في المسافة الامتداديّة، فلو انعدم شاهد الجمع فالتعارض بين الطائفتين مستقرّ بلا شكّ.
لكنّ المدّعى في المقام أنّه يوجد شاهد جمع بينهما.
والروايات التي هي شاهد الجمع متعدّدة، أكثر من طائفة، لكنّها تلتقي على شيءٍ واحد، وهو أنّ التقصير إنّما يكون للذاهب الآيب بالنسبة للبريد والأربعة فراسخ والاثني عشر ميلاً، أمّا الذاهب غير الآيب فلا يُكتفى فيه بذلك.
ولا شكّ في أنّ هذه الروايات تتّفق في مفادها بأنّ المقصود من الأربعة فراسخ لمن يؤوب، والذي يكون أَوْبه غالباً من الطريق نفسه.
لكن بعد ذلك، إذا دخلنا إلى هذه الروايات التي هي متّفقة على كونها شاهد جمعٍ بين الطائفتين، إذا دخلنا إليها فإنّ شهادتها على الجمع قد يُدَّعى أنّها متعدّدة الألسنة. ومن هنا، نشأت تلك الأقوال الثلاثة.
فينبغي صرف البحث هنا نحو الكلام في تحقيق حال هذه الروايات.

الكلام في الروايات التي هي شاهد الجمع:
وهذه الروايات موجودة في الباب الثاني من أبواب صلاة المسافر ج 8 ص 456.
وبدايةً نشير إلى ملاحظتين على ما صنعه صاحب الوسائل& في المقام:
الملاحظة الأُولى: أنّه كان ينبغي عليه& عقد باب مستقلّ للأربعة فراسخ، كما عُقد باب مستقلّ للثمانية، ثمّ يُعقد باب مستقلّ للروايات التي هي شاهد الجمع، لكن لمّا كان كتاب الشيخ الحرّ& كتاب فتوى، وليس كتاب حديث فحسب، فعناوين الأبواب عنده هي حسب فتاواه، وليست حسب تصنيف علم الحديث، لذلك نجده في المسافة التلفيقيّة يذكر طائفة البريد، والاثني عشر ميلاً، والأربعة فراسخ، مع أنّها في نفسها ظاهر في المسافة الامتداديّة، كحال روايات الثمانية.
الملاحظة الثانية: أنّه& وزّع روايات الأربعة فراسخ في الباب، ولم يذكرها جنباً إلى جنب، وقد كان ينبغي أن تُذكر تباعاً؛ لكونها طائفة مستقلّة.
وكيف كان، فنأخذ نأخذ في التعرّض للروايات التي ذكرها في هذا الباب واحدةً واحدة:
1) الرواية الأُولى: محمّد بن الحسن بإسناده عن الحسين بن سعيد، عن ابن أبي عمير، عن جميل بن دراج، عن زرارة، عن أبي جعفر عليه السلام قال: التقصير في بريد، والبريد أربعة فراسخ.[2]
تقدّم سند الشيخ الطوسيّ& للحسين بن سعيد، وأنّ له إليه طرقاً صحيحة.
والرواة جميعاً من أعاظم الطائفة، فالرواية واضحة الصحّة.
لو كنّا نحن وهذه الرواية، فهي تدلّ على أنّ التقصير إنّما هو في بريد واحد، وهي بإطلاقها تشمل ما لو لم يُرد العودة والإياب، وتشمل ما لو كان عوده أقلّ من بريد، كما لو عاد من طريق مختصرة، بل هي ظاهرة في نفسها في المسافة الامتداديّة.
2) الرواية الثانية: وعنه، عن فضالة، عن معاوية بن وهب، قال: قلت لأبي عبد الله عليه السلام: أدنى ما يقصّر فيه المسافر الصلاة؟ قال: بريد ذاهباً وبريد جائياً. [3]
قوله: وعنه، أي: وعن الشيخ الطوسيّ بإسناده عن الحسين بن سعيد.
فضالة بن أيّوب، ومعاوية بن وهب، من أجلّاء الطائفة. فالرواية واضحة الصحّة.
تدلّ هذه الرواية أوّلاً على التحديد، وأنّ بريداً ذاهباً وبريداً جائياً هو أقلّ مستوى فيه القصر.
وثانياً: هي ظاهرة في أنّ كلّاً من الذهاب والإياب لا ينبغي أن يقلّ عن أربعة فراسخ.
والرواية ـ لو خُلّينا وإيّاها ـ صريحة في القول الأوّل.
وهي شاهد جمعٍ بين الرواية السابقة، وبين الطائفة التي تقدّمت في الباب السابق. فإذا قصر المجيء عن بريد وزاد الذهاب عن بريد، فالرواية تدلّ على أنّه لا تقصير، حتّى لو بلغ المجموع عشرة فراسخ. وهذه في نفسها تصلح ردّاً على أصحاب القولين الثاني والثالث؛ لأنّ أولئك اكتفوا بالبريد ذهاباً ولم يحتاجوا إلى بريدٍ إياباً، وأصحاب القول الثالث لم يشترطوا البريد لا في الذهاب ولا في الإياب.
3) الرواية الثالثة: وعنه، عن فضالة، عن حماد، عن أبي أسامة زيد الشحّام قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: يقصّر الرجل الصلاة في مسيرة اثني عشر ميلاً. [4]
قوله: وعنه، أي: وعن الشيخ الطوسيّ بإسناده عن الحسين بن سعيد.
حماد هو إمّا ابن عيسى وإمّا ابن عثمان، وكلاهما ثقة. من أصحاب الإجماع.
زيد الشحّام إماميّ ثقة بلا شكّ. فالرواية أيضاً واضحة الصحّة.
وهذه الرواية تُلحق بالرواية الأُولى.
ولها سند آخر صحيح ذكره في الوسائل، ولا موجب للتعرّض له بعد كون هذا السند واضح الصحّة.
4) الرواية الرابعة: وبإسناده عن الصفّار، عن محمّد بن عيسى، عن سليمان بن حفص المروزي قال: قال الفقيه عليه السلام: التقصير في الصلاة بريدان، أو بريد ذاهباً وجائياً، والبريد ستّة أميال وهو فرسخان، والتقصير في أربعة فراسخ، فإذا خرج الرجل من منزله يريد اثني عشر ميلاً وذلك أربعة فراسخ، ثمّ بلغ فرسخين ونيّته الرجوع أو فرسخين آخرين قصّر، وإن رجع عما نوى عند بلوغ فرسخين وأراد المُقام فعليه التمام، وإن كان قصّر ثمّ رجع عن نيّته أعاد الصلاة.[5]
إسناد الشيخ الطوسيّ& إلى الشيخ محمّد بن الحسن الصفّار صاحب بصائر الدرجات، وهو سند قريب، بينه وبينه المفيد، يروي عن الصدوق، عن ابن الوليد، عن الصفّار. وله سند ثانٍ إليه، يروي عن شيخه ابن أبي الجيّد القمّيّ، وهذا عالي السند؛ لأنّه يختصر طبقتين في طبقة واحدة، يروي عن محمّد بن الحسن بن الوليد، عن أبيه، عن الصفّار.
محمّد بن عيسى وهو ابن عبيد اليقطينيّ المختلف في وثاقته، والمشهور والمنصور على الوثاقة؛ لأنّ الطعن فيه لم يكن من جهة وثاقته، بل كان من جهة روايته عن المروزيّ.
سليمان بن حفص المروزيّ، لا يوجد توثيق خاصّ له.
والمراد من (الفقيه) في الروايات عادةً هو الإمام الكاظم عليه السلام، وسليمان بن حفص معاصر له، فيُحمل على أنّه عليه السلام هو المراد.
قوله في الرواية: «أو بريد ذاهباً وجائياً»، أي: أو بريد ذاهباً وبريد جائياً.
وأمّا قوله: «والبريد ستّة أميال»، مع أنّ المعروف أنّ البريد اثنا عشر ميلاً. فإنّ سليمان بن حفص هو من مرو، وقيل: إنّ الميل في مرو وخراسان هو ضعف الميل المتعارف عند العرب، وأنّ الإمام عليه السلام كلّمه بحسب بلاده.
وغير واحدٍ من الفروع التي اشتملت عليها هذه الرواية خارجة عن عمل المذهب.
ولكن لمّا لم يكن لسليمان بن حفص المروزيّ توثيق، فالرواية ساقطة سنداً، فنخرجها من الحسبان، وإن كانت تنفع في أصل المطلب، وهو أنّ المسافة الامتداديّة بريدان، والتلفيقيّة بريد في بريد.
5) الرواية الخامسة: وبإسناده عن سعد، عن محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب، عن جعفر بن بشير، عن حمّاد بن عثمان، عن محمّد بن النعمان، عن إسماعيل بن الفضل، قال: سألت أبا عبد الله عليه السلام عن التقصير، فقال: في أربعة فراسخ.
أي: الشيخ الطوسيّ& بإسناده عن سعد بن عبد الله، محمّد بن الحسين بن أبي الخطّاب القمّيّ، عن جعفر بن بشير البجليّ، روى عن الثقات ورووا عنه، عن حمّاد بن عثمان، عن محمّد بن النعمان، وهو الأحول، مؤمن الطاق، الجليل، عن إسماعيل بن الفضل وهو الهاشميّ.
السند معتبر، لا شكّ فيه.
وهذه الرواية تُلحق بالرواية الأُولى.
6) الرواية السادسة: وعنه، عن محمّد بن الحسين، عن معاوية بن حكيم، عن أبي مالك الحضرمي، عن أبي الجارود، قال: قلت لأبي جعفر عليه السلام في كم التقصير؟ فقال: في بريد.[6]
(وعنه) أي: وعن سعد.
أبو الجارود هو زياد بن المنذر، الأعمى قلباً وقالباً. ولا توثيق له عندنا، ولم تثبت وثاقته. وتوهّم توثيقه من خلال تفسير القمّيّ ليس في محلّه، كما ثبت في محلّه؛ لأنّ عليّ بن إبراهيم لا ينقل عن أبي الجارود، بل روايات أبي الجارود في التفسير هي ممّا انضمّ إلى تفسير عليّ بن إبراهيم. على أنّ مقدّمة ذلك التفسير لم يثبت أنّها لعليّ بن إبراهيم.
فهذه الرواية ساقطة سنداً.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo