< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/29

بسم الله الرحمن الرحیم

الرواية السادسة عشرة:
وبإسناده عن سعد، عن أبي جعفر، عن الحسن بن عليّ بن يقطين، عن أخيه الحسين، عن أبيه عليّ بن يقطين، قال: سألْتُ أبا الحسن الأوّلعليه السلام عن الرجل يخرج في سفره وهو في مسيرة يوم. قال: يجب عليه التقصير، وإن كان يدور في عمله.[1]
سند الشيخ الطوسيّ إلى سعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ في التهذيب وفي الفهرست متكرّر، وهو سند صحيح بلا شكّ ولا ريب.
وسعد بن عبد الله الأشعريّ القمّيّ له روايات عديدة عن أبي جعفر، وكلّما روى عن أبي جعفر فهو أحمد بن محمّد بن عيسى الأشعريّ القمّيّ.
الحسن وأخوه الحسين وأبوهما عليّ كلّهم ثقات.
أبو الحسن الأوّل عليه السلام في اصطلاح الروايات وعلوم الحديث هو الإمام الكاظم عليه السلام، وأبو الحسن الثاني عليه السلام هو الإمام الرضا عليه السلام، وأبو الحسن الثالث عليه السلام هو الإمام الهادي عليه السلام.
قوله: (وهو في مسيرة يوم)، هذا يؤكّد ما أشرنا إليه من أنّ الأصل والمرتكز في الأذهان هو مسيرة اليوم. وفي بعض النسخ (وهو مسيرة يوم)، وهو لا يغيّر شيئاً من المعنى.
قوله: (وإن كان يدور في عمله) سيأتي في محلّه حكم من عمله السفر، أو عمله في السفر. لكن ما نريد أن نركّز عليه هنا أنّ قوله (وإن كان يدور في عمله)، هل المراد منه أنّه يدور في عمله في نفس المكان، كما ربما يتوهّم للوهلة الأُولى؟ أم أنّه يدور في عمله ما دام سفره مسيرة يوم؟ فالدوران في عمله لا يعني الدوران في المكان نفسه؛ إذ عادةً الباعة الذين يدورون في عملهم يمشون في أماكن مختلفة، ولا يبقون في المكان نفسه.
وهذه الرواية منطبقة على الروايات السابقة. غاية الأمر: أنّ ظاهرها البدويّ اشتراط مسيرة يوم فعليّة، فبقرينة باقي الروايات نحملها على مسيرة القطار، لا المسير البطيء جدّاً، ولا السريع كذلك، وهو الذي طبّقه رسول الله- سنّةً منه على ثمانية فراسخ.
17) الرواية السابعة عشرة:
محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّيّ في كتاب الرجال، عن عليّ بن محمّد بن قتيبة، عن الفضل بن شاذان، عن أبيه، عن غير واحدٍ من أصحابنا، عن محمّد بن حكيم، وغيره، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السلام، عن أبيه عليه السلام، عن النبيّ-: قال: التقصير يجب في بريدين.[2]
محمّد بن عمر بن عبد العزيز الكشّيّ من أجلّاء علمائنا، غنيّ كان التوثيق، كان معاصراً للإمام العسكريّ عليه السلام.
عليّ بن محمّد بن قتيبة، تقدّم الكلام فيه وأنّه من المعاريف.
الفضل بن شاذان، من أجلّاء الطائفة، كما هو واضح.
أبو الفضل بن شاذان هو شاذان بن الخليل، وهو من ثقات الطائفة أيضاً بلا كلام.
عن غير واحدٍ من أصحابنا، قوله: (غير واحد)، أقلّهم ثلاثة؛ إذ لا يُعبَّر عادةً في العربيّة عن الاثنين بـ (غير واحد). وهذا من المطمأنّ به تقريباً أنّه لا يخلو أحد هؤلاء من وثاقة، وإن كنّا نجهلهم؛ إذ يبعد عادةً اجتماع ثلاثة غير ثقات في طبقة واحدة عندما يروي ثقة عن غير واحد.
محمّد بن حكيم ثقة. وبعضهم قال: ممدوح، لكنّ مدحته ظاهرة فيما هو فوق التوثيق؛ لأنّه مُدح بكونه وجهاً في أصحاب الإمام عليه السلام.
قوله: (وغيره) أي: وجماعة غيره؛ إذ لو كان غيره شخصاً واحداً لسمّاه فقال: عن فلان وفلان.
محمّد بن مسلم، وهو الطائفيّ، من أصحاب الإجماع.
18) الرواية الثامنة عشرة:
الحسن بن محمّد الطوسيّ في الأمالي، بإسنادٍ يأتي في إقامة العشرة، عن سويد بن غفلة، عن عليّ عليه السلام وعمر وأبي بكر وابن عبّاس أنّهم قالوا: لا تُقصر في أقلّ من ثلاث.[3]
السند الذي تحدّث عنه المحدّث العامليّ& سند غير صحيح، وسيأتي.
ظاهر الثلاث، الثلاثة أيّام، فهل تنطبق على مسيرة ثلاثة أيّام، أو على من سيسافر 3 أيام ولن يعود في اليوم نفسه؟ الرواية مجملة من هذه الجهات.
على أنّها لا تنطبق على شيءٍ ممّا عملت به الطائفة، ومن هنا حملها جملة من المحقّقين والمحدّثين على التقيّة.
وعموماً، فبعد ضعفها سنداً، نحن في غنىً عن تجشّم عناء البحث في دلالتها.
هذا تمام الكلام في روايات هذا الباب.
في الباب الثاني لدينا أربع روايات على الأقلّ، تفيد أنّ مسافة السفر بريد، وتقتصر على هذا.
وذلك كالرواية الأُولى، وهي صحيحة زرارة عن الإمام الباقر عليه السلام، قال: التقصير في بريد والبريد أربعة فراسخ.
لو كنّا وهذه الرواية وحدها، فمن الواضح أنّها تعارض الروايات التي دلّت على أنّ المسافة بريدان. لكن من الواضح جدّاً أنّ أحداً لم يقل بأنّ المسافة الامتداديّة بريد، فلو كنّا وهذه الروايات وحدها، فهي تنافي متسالَم الطائفة وعملها. على أنّ تلك الروايات أكثر منها عدداً، وهي ـ أي: تلك الروايات ـ المعمول بها، بخلاف هذه.
لكن على مستوى الصناعة، فلا تصل النوبة إلى هذا الحدّ؛ إذ هناك روايات مفسّرة أو كالمفسّرة للبريد، وأنّ المقصود أنّ المسافة بريد لمن أراد الرجوع ليومٍ، أو أراد الرجوع ولو لا ليومٍ. وعليه: فهذه الرواية لا تسبّب لنا مشكلة.
لا أقلّ من أن يُقال: إنّ تلك الطائفة من الروايات التي فسّرت البريد، تقلب النسبة بين الروايات التي دلّت على البريدين، ومثل هذه الرواية التي دلّت على البريد.
وهذا سيأتي الكلام فيه.
ولكن قبل أن ندخل في بحث المسافة التلفيقيّة، لا بدّ من بيان حصيلةٍ للبحث، حيث قد توصّلنا إلى عدّة نتائج واضحة من الروايات المتقدّمة:
أ) أنّ أصل المسافة في السفر محدّدة على مستوى الموضوع بمسيرة يوم.
ب) المراد من اليوم هو بياض اليوم. فإنّ المراد من اليوم في اللّغة هو البياض. كما قد صُرّح في رواية معتبرة تقدّمت أنّ المراد من اليوم هو البياض.
ج) بات من الواضح أنّه ليس المقصود من مسيرة اليوم المسير الفعليّ بمقدار يوم، بل المسير المطبَّق من قبل النبيّ- على ثمانية فراسخ، أو بريدين، أو أربعة وعشرين ميلاً. فبات مسير اليوم مربوطاً مسيره بهذه المسافة، لا أقلّ ولا أكثر.
وهذا كلّه واضح، والعمل عليه، والتسالم والإجماع عليه. سوى ما نُسب إلى الشيخ الكليني& أنّه قال بأنّ المسافة الامتداديّة أربعة فراسخ، لا ثمانية. وهو لم يقل هذا صراحةً، لكن استظهره البعض من اقتصاره في الكافي على نقل روايات الأربعة فراسخ والبريد الواحد، فتكون النتيجة بنحو الدلالة الالتزاميّة أنّ مسافة السفر عنده أربعة فراسخ، لا ثمانية. وهو مسبوق وملحوق بالإجماع والتسالم على خلافه دون شكٍّ ولا ريب. أو لا بدّ من حمل كلامه على محملٍ آخر، وأقرب المحامل أن يكون المراده المسافة التلفيقيّة المتعارفة، وأنّ المسافر عادةً ما يكون له رجوع في سفره.
وأيّاً كان، فالأمر سهل.
تبقى نقطة واحدة بحاجة إلى علاج، وهو أنّه هل قَدَر الأمّة الإسلاميّة، أنّ مسافة السفر التي عيّنها رسول الله- بثمانية فراسخ، أن تكون المسافة كذلك في جميع الأفراد والحالات والأزمنة، أم غير ذلك؟
المشهور شهرةً عظيمة إلى عصرنا الحاضر، بل لا نعرف خلافاً فيه بين أحداً من معتَمَدي الفقهاء، هو أنّ هذه المسافة تُلقِّيت تلقّياً تعبّديّاً من حيث التعميم للأفراد والحالات والأزمنة، بمعنى: أنّه سواء تغيّرت وسائل السفر أم لم تتغيّر، أيّاً كانت، وأيّاً أصبحت، فالمسافة هي هذه المسافة، والفتوى على هذا إلى يومنا هذا.
لكن الكلام في تخريج هذا الأمر على مستوى الصناعة؛ إذ لا يمكننا هنا أن نتمسّك بالشهرة، ذلك أنّ الوسائل المتعارفة في النقل العامّ لم تتغيّر إلّا في الزمن الحديث، ولم تنتقل الناس في نقل بضائعها عن الجمال ونحوها إلّا حديثاً، ولذلك فشهرة العلماء قديماً نتيجة القضيّة الخارجيّة هي هذه، ولم نجد أحداً منهم عالج هذه الجهة في كلماته؛ إذ هي أساساً ليست محلّاً للكلام حتّى يقوموا بمعالجتها. نعم، عالجوا جوانب أُخرى نظراً لتعرّض الروايات لها، كمسألة الناقة الناجية، والفرس البريد، والبغلة السفواء، ونحو ذلك، تلك الوسائل التي كان يُقطع بواسطتها ثمانية فراسخ في أقلّ من يوم، وقد عالجتها الروايات، بالقول بأنّ المسافة ملحوظ فيها المسير الغالب لدى الناس، وهو هذه الأثقال التي تمشي هذه الأميال بين مكّة ومدينة.
لكن كلامنا الآن في جهةٍ أُخرى، وهو أنّ المسير الغالب قد تغيَّر في أيّامنا، فبعد أن كان المعتمد هو قطار الجمال ـ مثلاً ـ، فإنّ المعتمد الآن للناس غالباً هي السيّارات، وللنقل هي الشاحنات. فما الذي نستظهره من الروايات السابقة، هل نستظهر تعبّداً، وإن تغيّرت وسيلة النقل الغالب؟ أم أنّ كون المسافة ثمانية فراسخ، وهي ثمانية فراسخ، رُبطت بالمسير الغالب، وكان المسير الغالب، وبقي قروناً، هو الجمال؟
قد يُقال: إنّ الرواية الخامسة عشرة من الباب تحسم هذا النزاع وتفيد أنّ المسير لا بدّ وأن يكون ثمانية فراسخ، حتّى لو تغيّرت المسيرة الغالبة؛ إذ صحيحة عبد الرحمن بن الحجّاج عن الإمام الصادق عليه السلام كانت تقول: كم أدنى ما تقصر فيه الصلاة؟ قال: جرت السنّة ببياض يوم، فقلْتُ له: إنّ بياض يومٍ يختلف، يسير الرجل خمسة عشر فرسخاً في يوم، ويسير الآخر أربعة فراسخ وخمسة فراسخ في يوم، قال: فقال عليه السلام: إنّه ليس إلى ذلك يُنظر، أما رأيت سير هذه الأميال بين مكّة ومدينة، ثمّ أومأ بيده أربعةً وعشرين ميلاً يكون ثمانية فراسخ.
إذاً، فليست العبرة في كونه قد مشى نصف يوم، أو مشى ثمانية فراسخ في يوم ونصف. بل العبرة في أربعةٍ وعشرين ميلاً. فيُقال: إنّ هذه الرواية صريحة في تحديد المسافة بالأربعة وعشرين ميلاً، التي هي ثمانية فراسخ، والتي هي بريدان. وعليه: فيُقال: لا معنى لدعوى تجديد النظر في المسألة.
لكنّنا إذا نظرنا إلى الرواية الثانية من الباب، وهي التي جعلت وجوب التقصير في مسيرة يوم ثمانية فراسخ لا أقلّ من ذلك ولا أكثر؛ لأنّ ثمانية فراسخ مسيرة يومٍ للعامّة والقوافل والأثقال. فوجب التقصير في مسيرة يوم، ولو لم يجب في مسيرة يوم لما وجب في مسيرة ألف يوم. ثمّ في الرواية الثانية، بنفس الصدر، وأضاف: وقد يختلف المسير، فسير البقر إنّما هو أربعة فراسخ، وسير الفرس عشرون فرسخاً، وإنّما جُعل مسير يوم ثمانية فراسخ؛ لأنّ ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل، وهو الغالب على المسير، وهو أعظم السير الذي يسيره الجمّالون والمكاريّون.
فلو أنّه وقف على قوله (لأنّ ثمانية فراسخ هو سير الجمال والقوافل) لاستُفيد أنّ ثمانية فراسخ هي المسافة التعبّديّة حتّى لو صار الناس يتنقّلون بالطائرات، لكنّ قوله بعد ذلك (وهو الغالب على المسير ...)، دلّ على أنّ المسافة التي هي ثمانية فراسخ لا أقلّ ولا أكثر بسبب أنّ هذا هو الغالب على المسير، أي: هو المسير الذي يسلكه ويتبعه أغلب الناس، فإذا آمنّا أنّ مسيرة يوم هي أصل الموضوع للتقصير ـ كما آمن بذلك كثير من الفقهاء ـ، وأنّ مسيرة اليوم لا يُراد منها مسيرة اليوم الفعليّة، بل مسير القوافل الغالبة، كان في ذلك الوقت الغالب على الناس هو مسير القوافل، فعندما عُلّل بكونه هو الغالب على المسير، فمن حقّنا أن نستظهر أنّ موضوع الحكم هو المسير الغالب. والمسير الغالب يتغيّر بتغيّر الزمان، وإن بقي قروناً لم يتغيّر فيها، إلى أن اختُرعت الآلات الحديثة. ومن هنا، فيوجد داعٍ جدّيّ لإعادة النظر في مسافة السفر، ويحملها على مسيرة يوم بحسب الوسائل المتعارفة، وهو الغالب على الناس. وهذا على مستوى الصناعة غير بعيد. وإن كان على مستوى الفتوى لا يُترك الاحتياط. ولا يمكن التشبّث بالإجماع والشهرة؛ لأنّه في زمانهم لم تكن الوسائل قد تغيّرت، وهم إنّما أفتوا على هذا الأساس.
وأمّا التعابير الأُخرى، من قبيل أنّ النبيّ- ذهب إلى ذي خُشب... ونحو ذلك، فهذه الرواية تفسّرها، وتقول: إنّما فعل النبيّ- ذلك؛ لأنّ مسيرة القوافل كانت كذلك، ولأنّه هو المسير الغالب على الناس. وأمّا في زماننا، فلم يعد هذا هو المسير الغالب، ولا حتّى المسير النادر. فإذا كان أصل الموضوع هو مسيرة يوم بالوسيلة المتعارفة، فتعالوا لنحدّد مسيرة اليوم بالوسيلة الغالبة حاليّاً. لا شكّ في ذلك على مستوى الصناعة. ولكن تبقى الجرأة على الفتوى في مقامٍ آخر.
والإنصاف أنّه في أسفارنا القريبة، يحتاج الإنسان إلى تأمّل، ولعلّ الاحتياط سبيل النجاة. على مستوى الفتوى. فيُؤخذ بالمتوسّط والمتعارف في مسير الوسائل الغالبة. وإلّا، فإنّ إهمال رواية معتبرة واضحة في أنّه إنّما ضُبطت المسافة بثمانية فراسخ لأنّه هو المسير الغالب، مع تغيّر هذا المسير الغالب، مع اتّفاق الفقهاء تقريباً على أنّ أصل الموضوع هو مسيرة اليوم، لا المسافة الفرسخيّة أو الميليّة، فالاحتياط في هذا المجال سبيل النجاة، وإن كانت الصناعة تدعو إلى الجرأة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo