< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/22

بسم الله الرحمن الرحیم

قال صاحب العروة رحمه‌الله: «... بإسقاط الركعتين الأخيرتين من الرباعيّات، وأمّا الصبح والمغرب فلا قصر فيهما».[1]
وهذا الذي أفاده! مجمع عليه، بل هو من ضروريّ الفقه، بل ربما عُدّ في الجملة من ضروريّات الدين، أصل أنّ معنى التقصير في السفر هو القصر في الرباعيّات، هذا ممّا لا كلام فيه.
ومع ذلك، فإنّ استفادته من الأدلّة فوق أن تُحصى عدداً؛ إذ إنّ المحدّث العامليّ رحمه‌الله في الجزء 8 ص 504 الباب 16 من أبواب صلاة المسافر، وإن عقد هذا الباب قصيراً، حيث اقتصر فيه على روايتين، لكنّه أحال بعد الروايتين إلى أبوابٍ عديدة تقدّمت وتأتي يُستفاد منها هذا الحكم.
وقد تقدّم معنا في البحث السابق عندما عدنا إلى بعض الروايات للحديث عن آية القصر، تقدّمت معنا صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، وغيرها، وكان ممّا يُستفاد منها بشكلٍ واضح: القصر واختصاصه بخصوص الرباعيّات الثلاثة، دون غيرها.
أمّا في الباب 16، فإنّ الشيخ الحرّ روى رواية صحيحة الإسناد تنتهي إلى الإمامين الصادقين'. وهي:
عن أبي جعفر وأبي عبد الله عليه السلام أنّهما قالا: الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء.[2]
الرواية الثانية وهي صحيحة عبد الله بن سنان عن الإمام الصادق عليه السلام: قال الصلاة في السفر ركعتان ليس قبلهما ولا بعدهما شيء، إلّا المغرب ثلاث. [3]
لكن إنصافاً نسجّل هنا إشكالاً فنّيّاً على المحدّث الحرّ رحمه‌الله أنّ مقتضى الصناعة عندما يعقد باباً أن يأتي بأوضح الروايات سنداً ومصدراً ودلالةً على عنوان الباب، وإن لزم بعض التكرار في ذلك، وقد تقدّمت صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، وهي أوضح بمنطوقها في هذا الذي يُطلب من هذا الباب هنا.
وكيف كان، بعد هاتين الروايتين، قال المحدّث الحرّ رحمه‌الله:
«أقول: تقدّم ما يدلّ على ذلك في أعداد الفرائض والنوافل وفي الأذان وغير ذلك ويأتي ما يدلّ عليه».
ولا داعي للإطالة هنا بعد وضوح الحكم فقهيّاً وكونه مجمعاً عليه بين المسلمين.

الكلام في شرائط التقصير
قال الماتن رحمه‌الله: «وأمّا شروط القصر فأمور: الأوّل: المسافة، وهي ثمانية فراسخ امتداديّة ذهاباً وإياباً أو ملفّقةً من الذهاب والإياب إذا كان الذهاب أربعةً أو أزيد».
وفي هذه العبارة جهتان من البحث، ولكن قبل ذلك نشير إلى أنّ العبارة دلّت على أصل كون المسافة شرطاً، وهذا لا كلام فيه من أحد إلّا من داود بن عليّ الظاهريّ، الذي ذهب إلى كفاية مطلق السفر والضرب في الأرض، وكأنّه اعتمد على عنوان السفر، الذي يصدق بمجرّد الخروج من العمران إلى الصحراء مثلاً. ولكن قد تقدّم الكلام في ذلك؛ فإنّ عموم المسلمين على أنّها شرط في الجملة.
ومع هذا، فقد وجدنا واحداً من علمائنا فقط استشكل في عدّ المسافة شرطاً، وهو الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء) في تعليقته على العروة، حيث أشكل على الجمع بين الشرط الأوّل والشرط الثاني القادم؛ إذ الشرط الأوّل في عبارة صاحب العروة هو المسافة، وبحث عن المسافة ثمّ ذكر مسائل تتعلّق بها، ثمّ قال: الشرط الثاني: قصد قطع المسافة، فعلّق الشيخ كاشف الغطاء هنا بأنّ عدّ المسافة شرطاً لا ينبغي، بل قصد قطع المسافة هو الشرط، بدليل أنّ من قصد قطع المسافة ووصل إلى حدّ الترخّص وصلّى قصراً ثمّ عدل عن قطع المسافة وآب إلى بلده؛ فإنّ صلاته التي أدّاها قائمة بحالها، ولا تجب إعادتها، ولو كانت المسافة شرطاً لوجبت عليه الإعادة؛ لأنّ العود عن قطعها يقتضي انكشاف أنّ الصلاة التي صلّاها هي في علم جبرائيل عليه السلام كانت رباعيّة، لا ثنائيّة، فيجب عليه أن يعيد. من هنا، فالمسافة ليست هي الشرط، بل الشرط قصد قطعها. فهولا ينكر الثمانية الامتداديّة أو الأربعة التلفيقيّة، وإنّما يقول: قصد قطعها هو الشرط.
لكن، وبعد التأمّل، فإنّ هذا الذي صنعه صاحب العروة رحمه‌الله لم ينفرد به حتّى يُعدّ إشكالاً عليه مختصّاً به، بل نجده في كلمات أكثر الأعلام، مجملاً في المجملات ومفصّلاً في المفصّلات، كما نجد ذلك عند صاحب الجواهر رحمه‌الله مثلاً، وتخريج الأمر بحيث يندفع به الإشكال هو أن يُقال:
إنّ الفقيه عليه أن ينقّح الشرط الواقعيّ للتقصير أوّلاً، والشرط الواقعيّ للتقصير هو السفر الذي يشغل اليوم، وهذا صريح روايات كثيرة، فالمسافة شرط واقعيّ تكوينيّ لوجوب التقصير، وإن وجب التقصير قبل قطعها، بمجرّد قصد قطعها مع التلبّس بذلك وصدق السفر بالوصول إلى حدّ الترخّص ـ مثلاً ـ وتجاوزه، فيكفي لجعلها شرطاً كونها موضوعاً لقصد قطع المسافة، فننقّح في الشرط الأوّل المسافة الواقعيّة، ونضمّ إليها الشرط الثاني، وهو أنّ قصد القطع يكفي. لو كان المراد من ذكر الشرط الأوّل أنّ التقصير لا يكون إلّا بعد قطع المسافة تكويناً، فهو ينافي الروايات، ويحصل تنافٍ بينه وبينه الشرط الثاني. وأمّا لو كان المراد أنّ المسافة شرط واقعيّ للتقصير بمعزلٍ عن أنّه متى يسري مفعول وجوب التقصير، هل بعد قطع المسافة أو بعد الوصول إلى حدّ الترخّص بقصد قطعها، فحينئذٍ: هي تؤدّي شرطيّتها من الجهة التي لُوحظت فيها، ولا تنافي حينئذٍ بقيّة الشروط، فأصل كون المسافر حتّى يقصّر ـ بمعزل عن أنّه متى يقصّر ـ لا بدّ أن يكون سفره 8 فراسخ، هذا لا كلام في شرطيّته، وهذا يكفي لعدّه شرطاً، بل هو الشرط الأوّل؛ لأنّ قصد القطع متعلّق بالمسافة، فلا بدّ أن يتقدّم عليه أيضاً من حيث الذكر، فيأتي الشرط الثاني ليقول: إنّ قصد قطع المسافة شرط، ويأتي الشرط الثالث ليقول: إنّ الوصول إلى حدّ الترخّص ـ مثلاً ـ شرط، وإلّا فقصد قطع المسافة وحده غير كافٍ للتقصير، بل لا بدّ من التلبّس الفعليّ بالسفر، والتلبّس الفعليّ بالسفر كان ينبغي أن يكون كافياً بحسب الإطلاقات، ولكن حيث وردت الروايات تدلّ على أنّ التقصير لا ينبغي أن يكون إلّا بعد حدّ الترخّص، ففي كثير من الأماكن قد يصدق الشروع في السفر عرفاً ولا يكون الإنسان قد وصل إلى حدّ الترخّص، كما في القرى النائية، حيث كثيراً ما ينتهي العمران قبل الوصول إلى حدّ الترخّص.
وعليه: فهذا الإشكال الذي تفرّد به الشيخ كاشف الغطاء رحمه‌الله ليس وارداً على الفقهاء، ولا على الماتن!. ومن هنا، لم نعدّ هذا البحث في جهات البحث.
وأمّا الجهتان اللّتان أشار إليهما في العبارة، فهما:

الجهة الأُولى: وهي ثمانية فراسخ امتداديّة ذهاباً أو إياباً.
واضح من العبارة أنّ صاحب العروة رحمه‌الله حدّد المسافة بثمانية فراسخ، ولم يحدّد بالتحديد الزمانيّ، فبات التحديد المكانيّ هو الميزان، وله الموضوعيّة في صدق السفر باختلاف الأزمنة والأمكنة والوسائل المختلفة المستخدمة في هذا السفر. قوله: ذهاباً، أي: من وطنه إلى مقصده في السفر، قوله: إياباً، أي: راجعاً من مكانٍ سافر إليه إلى وطنه.
في هذه الجهة هناك مجال للبحث الطويل الذيل فيها، بل لا بدّ منه، ويُؤخذ على المحقّقين، وبالأخصّ المعاصرين منهم، عدم الإيغال في البحث في هذه الجهة، خصوصاً مع اختلاف النصوص فيها كثيراً، وتعدّد مفاداتها، ما أفضى ببعض الباحثين إلى الفتوى بغير ما اشتهر من الفقهاء والمحقّقين، حيث ذهب بعضهم إلى تحديد المسافة في عصرنا بـ 800 كلم، لأنّ العبرة بشغل اليوم بحسب الوسيلة المتعارفة، وهي في زماننا السيّارة، وبعضهم ذهب إلى أكثر من هذا. بعضهم ألجأ الأمر إلى الوسيلة المعتمدة بالفعل، فبالطائرة ـ مثلاً ـ لا بدّ أن يكون السفر إلى ما وراء المحيطات حتّى يصحّ منه القصر. ونُسب إلى السيّد موسى الصدر أنّه كان يبني على هذا الرأي ويعمل على أساسه.
فهذا البحث يستحقّ أن يُبحث، ولعلّ السيّد رحمه‌الله في المستمسك والسيّد رحمه‌الله في المستند والسيّد السبزواري رحمه‌الله في المهذّب من المعاصرين لم يخوضوا هذا البحث بسبب الشهرة العظيمة القائمة على التحديد بالبعد المكاني، وإلّا، فإنّ المطالع للروايات يجد نفسه أمام احتمالات، وكلّ منها له ما يؤيّده في هذه الروايات:
1) أن يكون الميزان مكانيّاً، وأنّ التحديد بالبعد المكانيّ، وهو 8 فراسخ، أو 4 أبردة.
2) أن يكون التحديد زمانيّاً، وغالب الروايات المتعرّضة للزمان جعلته شغل يومٍ، فيختلف الأمر باختلاف وسيلة السفر المعتمدة. والمراد بـ شغل اليوم، شغل اليوم المتعارف. وفي بعض الروايات تحديده بأكثر من ذلك. كما سيأتي.
3) أن يكون الميزان كليهما، بأن يشغل يومه ويقطع 8 فراسخ، فإذا تحقّق أحدهما دون الآخر، فلا تقصير.
4) أن يكون الميزان أحدهما لا بعينه، فإن تحقّق أحد البعدين، شغل اليوم، أو قطع الـ 8 فراسخ، كان ذلك كافياً في جواز التقصير.
يتفرّع على هذه الاحتمالات الأربعة احتمالان:
أ. أن يكون الملحوظ هو الوسيلة المتعارفة الشائعة في كلّ عصر.
ب. أن لا تُلحظ الوسيلة أصلاً، بل بأيّة وسيلةٍ كانت تحقّق السفر الموجب للتقصير بأحد التحديدات الأربعة السابقة.
وهذا البحث صناعيّاً غاية في الأهمّيّة، رغم وجود مشهور فتوائيّ عظيم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo