< قائمة الدروس

بحوث خارج الفقه

الأستاذ الشیخ حسان سویدان

35/11/20

بسم الله الرحمن الرحیم

وصل الكلام إلى التعليق على بعضٍ من كلمات الفقهاء الذين ذكروا أنّ مشروعيّة التقصير في الصلاة جاءت أوّلاً من قبل الدلالة القرآنيّة، معقَّبةً بالسنّة المطهّرة، ما أوجب إجماع العلماء من كافّة المذاهب على ذلك في الجملة. ولا بدّ من الوقوف على ما يُدّعى من دلالة القرآن الكريم على التقصير في باب السفر، مطلق السفر.
والآية المتعرّضة لهذا الأمر في القرآن هي آية واحدة جاءت في سياق خاصّ وبملابسات خاصّة وهي الآية 101 من سورة النساء، وهي قوله تعالى: ﴿وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصَّلاَةِ إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُواْ لَكُمْ عَدُوًّا مُّبِينًا[1].
وعندما يُقال: دلالة قرآنيّة، لا بدّ أن ننظر في أنّ نفس الآية هل تكون دالّة على المطلوب، ولو بمعونة آيات أُخرى أم لا؟ بمعزل عن دلالة السنّة المطهّرة، وإلّا، فلا تعود الدلالة متمحّضة في كونها دلالة قرآنيّة، تكتسي هذه الدليليّة حينئذٍ دليليّة السنّة المطهّرة، لا فرق بينهما من جهة الحجّيّة، لكن إذا كانت ثابتة بخبر الواحد فهي محكومة بملابسات خبر الواحد.
من هنا، لا بدّ من الدخول في حريم هذه الآية لنرى أنّها هل تدلّ على التقصير في مطلق السفر، أم في خصوص سفرٍ خاصّ، أم في خصوص حالة خاصّة وإن لم تُسمَّ سفراً؟ من نفس الآية.
وتارةً يكون الحديث عن عقد الآية، وأُخرى لا بدّ من عطف النظر إلى السياق الذي يُطمأنّ بأنّه سياق واحد.
لا شكّ في أنّ الآية الكريمة سواء كانت تتحدّث عن صلاة السفر والتقصير فيه أو عن صلاة الخوف والمطاردة، فهي لم تتعرّض لتفاصيل الشرائط، فهي لم تحدّد مسافة معيّنة للضرب في الأرض، ولم تحدّد كيفيّة التقصير، هل هو استعجال أم اقتصار على بعض الأوراد والأجزاء في الصلاة، أم حذف ركعاتٍ منها، أو اقتصار على مسمّى الصلاة، أم أنّه عنصر متحرّك يكون المتحكّم فيه هو العامل الكيفيّ، أي: تقصّر بقدر خوفك من الكافرين، كلّ ذلك محتمل. ولو كنّا وهذه الآية، ربما ساعد الأخير منها مناسبات الحكم والموضوع، والتقييد بالعامل الكيفيّ (إن خفتم أن يفتنكم).
المهمّ هنا في مقام البحث هو أن نبحث عن جهاتٍ أُخرى في الآية المباركة، ما هو المتلخّص من الآية لكي يشرع قصر الصلاة؟ الآية ذكرت قيدين:
1) في صدرها: وإذا ضربتم في الأرض.
2) في ذيلها: إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا.
والقيدان من قبيل العطف بالواو، لا بـ أو.
هذا اللّفظ في الآية الكريمة بحسب ظاهرها وأخذ القيدين معاً لا ينطبق لا على صلاة التقصير ولا على صلاة الخوف والمطاردة.
أمّا الأُولى، فمن الواضح أنّه غير مقيَّد أبداً فقهيّاً بخوف فتنة الذين كفروا.
وأمّا الثانية، فإنّ القيد الثاني ليس قيداً يشكّل تمام الموضوع لقوله تعالى: فلا جناح، بل لا بدّ من الأخذ بعين الاعتبار إلى قوله: إذا ضربتم في الأرض. وهذا الشرط ليس بلازم في صلاة الخوف والمطاردة؛ لأنّ صلاة الخوف لا تتقيّد فقهيّاً بأن يكون المجاهدون قد ضربوا في الأرض، بل العامل الكيفيّ هو المعتبر في صلاة الخوف والمطاردة.
فلا محيص لنا بحسب مناسبات الحكم والموضوع إلّا عن الالتزام بالقول بأنّه لا بدّ من رفع اليد عن أحد القيدين؛ لأنّ أيّاً منهما بتسالم المسلمين لا ينطبق على إحدى الصلاتين، إذ المراد كلا القيدين معاً. فإمّا أن نرفع اليد عن قيد الضرب في الأرض، ونتحفّظ على قيد (إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا)، فينطبق على صلاة الخوف والمطاردة، أو العكس.
بحسب مناسبات الحكم والموضوع يمكن أن يكون قيد (إذا ضربتم في الأرض) وارداً مورد الغالب، من باب أنّ الغزوات الحربيّة لا تكون عادةً في داخل المناطق السكنيّة، فالعادة كانت جاريةً آنذاك على بثّ العيون، ويلتقي الجيشان أخيراً خارج المدينة، فسواء كانت الحالة حالة هجوم أم حالة دفاع، ففيها غالباً ضرب في الأرض. والقيد الثاني وهو العامل الكيفيّ محفوظ حتّى في حالات عدم الضرب في الأرض.
في المقابل، إن احتملنا أن نرفع اليد عن هذا القيد الثاني، فلا نجد مبرّراً موضوعيّاً لرفع اليد عنه؛ إذ هو صريح في القيديّة، وبناءاً على الدلالة المفهوميّة لا يمكن رفع اليد عنه من دون قرينة خاصّة، فيوجد مفهوم للآية، كما هو واضح. مضافاً إلى أنّ الآية واردة في سياقٍ كلّه يتحدّث عن الجهاد والقتال، وجاءت هذه الآية جزءاً من هذا السياق، واتّفق المفسّرون على اعتبار سياق هذه الآيات سياقاً واحداً، لذلك ورد في الآيتين اللّاحقتين على هذه الآية: ﴿ وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاَةَ فَلْتَقُمْ طَآئِفَةٌ مِّنْهُم مَّعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُواْ فَلْيَكُونُواْ مِن وَرَآئِكُمْ وَلْتَأْتِ طَآئِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّواْ فَلْيُصَلُّواْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُواْ حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُم مَّيْلَةً وَاحِدَةً وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُم مَّرْضَى أَن تَضَعُواْ أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ إِنَّ اللّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُّهِينًا 102 فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ إِنَّ الصَّلاَةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا 103﴾[2][النساء: 102 ـ 103]. واضح جدّاً من هذا السياق أنّ خوف فتنة الذين كفروا عنصر أساسيّ في الحكم في هذه الآية وفي هذا السياق.
ولذا، يمكن أن نقول: إنّ ظاهر الآية، بل صريحها، أنّها ناظرة إلى صلاة الخوف والمطاردة. لا يبقى إلّا تعليل القيد الأوّل، وهو يمكن أن يُقال: إنّه ورد مورد الغالب، كما أشرنا. أو يُقال ـ كما ربما قيل، وإن لم أجزم أنّه موجود في بعض التفاسير ـ إنّ الآية وإن كان ظاهرها القضيّة الحقيقيّة، لكنّ مورد نزول الآية كان قضيّة خارجيّة. وهو على خلاف الظاهر، ولعلّ الأوّل أنسب؛ فإنّ ورود القيود مورد الغالب شائع في استعمالات العرب، وهو متكرّر في القرآن.
وحينئذٍ: فهذه الآية لا تكون متعرّضةً لصلاة المسافر في غير حالات الخوف والمطاردة، بحسب ظاهرها وبحسب سياقها، بل هي كالصريحة في هذا. وهذا الذي ذكرناه مؤيَّد بروايات. ففي ذيل هذه الآية جمع المحقّق البحرانيّ& في تفسير البرهان عدّة روايات، بعضها يرتبط بالآية، وبعضها لا ارتباط له بها، يرتبط بأحكام القصر في الصلاة.
من جملة هذه الروايات التي يُستشهَد بها تأييداً لما هو ظاهر الآية: ما ينقله عن الكافي 3: 458 الحديث 4، وهي:
عليّ بن إبراهيم، عن أبيه وأحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى، عن أحمد بن محمّد، جميعاً، عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ: ﴿ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﰌﰍ ﴾، قال: في الركعتين تنقص منهما واحدة.
في سند هذه الرواية:
عليّ بن إبراهيم يروي عن أبيه إبراهيم بن هاشم.
أحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى كلاهما من شيوخ الكليني، يرويان عن أحمد بن محمّد. وأحمد بن محمّد هنا إمّا الأشعريّ، وإمّا ابن خالد البرقيّ؛ لأنّ كلّاً من أحمد بن إدريس ومحمّد بن يحيى يرويان عن الأشعريّ والبرقيّ.
جميعاً، أي: أحمد بن محمّد وإبراهيم بن هاشم، كلاهما، يرويان عن حمّاد بن عيسى، عن حريز، عن أبي عبد الله عليه السلام.
الرواية معتبرة، وليس في سندها مشكلة ينبغي التوقّف عندها.
لكن توجد هنا نقطة هامّة لا بدّ من الإشارة إليها، هنالك كلام في أنّ حريز هل يروي عن الإمام الصادق عليه السلام مباشرةً أم لا يروي عنه إلّا بواسطة؟
المشهور قديماً وحديثاً تعاملوا مع روايات حريز عن الصادق عليه السلام على أنّها موصولة، بلا نكير، وعلى هذا جرى الفقه، وروايات حريز كثيرة، ولديه كتب أيضاً.
في المقابل، في رجال الكشي يوجد كلام للحسن بن محبوب بأنّ حريزاً لم يروِ عن الإمام الصادق عليه السلام إلّا روايتين، ما يعني: أنّ سائر رواياته هي كلّها بواسطة.
أكثر العلماء لم يتعرّضوا لهذه المشكلة، وتعاطوا مع كلام الحسن بن محبوب كأنّه غير موجود.
السيّد الخوئي& في بعض مواضع موسوعته الفقهيّة، وربما أيضاً في معجم الرجال، نبّه إلى عدم صحّة هذه الدعوى، فلا بدّ أن تُحمل كلمة الحسن بن محبوب على محملٍ من المحامل.
لكنّ الأمر اكتسب أهمّيّة حيث إنّ بعض أعلام العصر، وهو السيّد السيستانيّ، يبني على أنّ روايات حريز عن الصادق عليه السلام هي مقاطيع ومرسلات، وهذا ما ذكره في قاعدة لا ضرر، وفي جملة دروس مأثورة عنه، أو في كلمات تلامذته، ومنهم: ابناه، وهذا معروف عن السيّد السيستاني، وعمدة كلامه الاعتماد على شهادة الحسن بن محبوب الصحيحة الإسناد في رجال الكشّي.
وهذا البحث طويل الذيل، لكنّ المتحصّل في محلّه: أنّ الشهادة بهذا الشكل لا ينبغي الاعتماد عليها، لنكاتٍ، منها: أنّ كلّ رواية صحّت منّا إلى حريز، وحريز يروي فيها مباشرةً عن الإمام الصادق عليه السلام، فهي تمثّل شهادةً صريحة من حريز بأنّه يروي عن الإمام الصادق عليه السلام، وهي شهادة من الجليل الذي يروي عن حريز، بأنّ حريزاً شهد عنده أنّ الإمام الصادق عليه السلام قال له كذلك، فلنفترض أنّ هناك 100 رواية يروي فيها حريز عن الإمام الصادق عليه السلام، وينقل عنه أعاظم شيوخ الطائفة، الذين كثير منهم لا يقلّ شأناً عن الحسن بن المحبوب، وفيهم من أصحاب الإجماع، فنجد في الحقيقة أكثر من 100 شهادة أنّ حريزاً شهد عندهم يروي عن الصادق عليه السلام، واحتمال الكذب مستبعد؛ فإنّ حريز من الأعاظم، ومعظم الرواة عنه من أعاظم الطائفة، مثل هذه الشهادة في كتابٍ كان كثير الأغلاط، بشهادة أعاظم الطائفة، حتّى هذّبه وشذّبه الشيخ الطوسيّ) عن الكشيّ)، وهو بعد التشذيب والتهذيب لا يخلو من أغلاط، ولا يمكن مقارنته من هذه الناحية بمثل رجال النجاشيّ وفهرست الشيخ (وهنا لا نريد أن نقلّل من قيمة كتاب الكشّي، بل هو كتاب معتبر بلا شكّ)، فمثل هذه الشهادة لا تنافي مائة أو مئات الشهادات التي يروي فيها أعاظم عن حريز عن الإمام الصادق عليه السلام مباشرةً؛ فإنّ كلّ رواية تمثّل شهادة بذلك، فلو روى حمّاد ـ مثلاً ـ عن حريز خمسين رواية، فهذه منه خمسون شهادةً على أنّ حريز روى مباشرةً عن الإمام الصادق عليه السلام .
مضافاً إلى ذلك، هناك في الكثير من الروايات التي فيها حوار دار بين حريز وبين الصادق عليه السلام، لذلك نوافق مشهور علمائنا في عدم الاعتناء بشهادة الحسن بن محبوب.
نعود إلى متن الرواية:
قوله عليه السلام : في الركعتين تنقص منهما واحدة، أي: أنّ ذات الركعتين تصبح ركعة واحدة. ويوجد احتمال ثان، وهو أنّ ذات الركعتين كالصبح تصبح ركعةً واحدة، وذات الأربع تصبح ركعتين، لكن هذا الفهم يبعّده أنّنا ماذا نصنع في الصلاة الثلاثيّة؟
المهمّ أنّ الرواية تتحدّث عن قصرٍ، عن ركعة واحدة، وهذا لا ينطبق على صلاة المسافر بوجه، وواضح أنّ الاقتصار على هذا المقدار من الآية هو للتركيز على صلاة الخوف والمطاردة، لا للحديث عن صلاة المسافر.
أيضاً في روايةٍ يرويها الشيخ الطوسيّ)[3] في كتاب التهذيب 3: 302، الحديث 12، بإسناده عن سعد بن عبد الله الأشعريّ، عن أحمد، عن عليّ بن حديد، وعبد الرحمن بن أبي نجران، عن حمّاد، عن حريز، عن زرارة، قال: سألتُ أبا جعفر عليه السلام عن صلاة الخوف وصلاة السفر، تقصران جميعاً؟ قال: نعم، وصلاة الخوف أحقّ أن تُقصر من صلاة السفر ليس فيه خوف.
سند الرواية:
سعد هو سعد بن عبد الله الأشعريّ، وسند الشيخ الطوسيّ إليه واضح.
أحمد هو أحمد بن محمّد عيسى؛ لأنّ سعد بن عبد الله يروي عن أحمد بن محمّد بن عيسى،
عليّ بن حديد مضعّف، لكن وقع في عرضه في نفس طبقته عبد الرحمن بن أبي نجران.
فهذه الرواية معتبرة.
وأمّا المتن:
أحقّيّة صلاة الخوف بالسفر في هذه الرواية فيها احتمالان:
1) لأنّه نُصّص عليها في القرآن.
2) لأنّها مقرونة بخوف الفتنة، المشقّة في التمام فيها أعظم من المشقّة في صلاة السفر.
وهناك رواية ثالثة، لكنّها للأسف غير معتبرة، وهي ما يرويه العيّاشي في تفسيره في ذيل الآية المباركة ج1 ص 298، عن إبراهيم بن عمر (اليماني) عن أبي عبد الله، قال: فرض الله على المقيم خمس صلوات وفرض على المسافر ركعتين تمام، وفرض على الخائف ركعة، وهو قول الله عزّ وجلّ: ﴿ ﰁﰂﰃﰄﰅﰆﰇ ﰈ ﰉ ﰊﰋﰌﰍ ﴾.
محلّ الشاهد أنّ هذه الرواية فيها تنصيص على أنّ هذه الآية الكريمة ترتبط بصلاة الخوف، لكنّها ضعيفة السند.
وفي قبال هذا، نجد صحيحة واحدة، هي صحيحة زرارة ومحمّد بن مسلم، تدلّ على أنّ الآية واردة في صلاة السفر.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo