< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/01/30

بسم الله الرحمن الرحیم

تبين من مجموع التقسيمات الخمسة الَّتِي ذكرناها لِلْمُقَدَّمَةِ عدم صِحَّة تقسيمين من تلك التقسيمات، ووضّحنا الأول من التقسيمات الثَّلاَثة الصحيحة وهو تقسيم الْمُقَدَِّمَة إلى مُقَدَِّمَة الْوَاجِبِ ومقدمة الوجوب أو شرط الوجوب، وقلنا: إن مُقَدَِّمَة الوجوب لا تدخل فِي البحث عن الوجوب الغيري؛ بل لا يعقل الوجوب الغيري بهما.

وتقدم أن المهم هو البحث عن التقسيمين الآخرين المهمين، أحدهما التقسيم الرَّابِع وهو تقسيم الْمُقَدَِّمَة إلى مُقَدَِّمَة داخلية ومقدمة خارجية، والآخر تقسيمها إلى المقارن والمتأخر والمتقدم. وأن هذين التقسيمين قد أثارا البحث بين الأصوليين، حيث وقع الكلام بينهم حول ما إذا كانت الْمُقَدَِّمَة الداخلية من الواجب الغيري عَلَىٰ القول بالملازمة والوجوب الغيري للمقدمات، أم أن الْمُقَدَِّمَة الخارجية واجب غيري فحسب؟ كما وقع النقاش بينهم (فِي التقسيم الخامس) عن إمكان أو امتناع الشَّرْط المتأخر، بل و الشَّرْط المتقدم أَيْضاً، وإذا كان ذلك ممتنعاً فكيف نحل مشكلة وقوع الشَّرْط بعد المشروط فِي موارد من الفقه؟ وندرس فِي ما يلي ذينك البحثين:

 

البحث الأَوَّل: هل أن وجوب الْمُقَدَِّمَة الداخلية غيري؟

 

إن محل النقاش فِي المقدمات الداخلية هو وجوب أو عدم وجوب المقدمة الداخلية بالمعنى الأخص، لا بالمعنى الأعم الذي هو قيد للواجب كالصلاة المقيَّدة بالطهور، فقد يتخذه البعض مقدمة داخلية بالمعنى الأعم، ولكنها مقدمة خارجية؛ فقد أسلفنا في ما مضى أن القيود الشرعية قيود شرعية في مقام التسمية ولكنها في لبها وواقعها مقدمة عقلية للمقيَّد حيث أن التقيد بذاك القيد يقع متعلقا للأمر النفسي، لا القيد نفسه الذي هو المنتج والمحقق للتقيد، وأن ذات القيد خارج عن المأمور به النفسي ولا إشكال في تعلق الوجوب الغيري به بنا على الملازمة.

إذن، البحث في المقدمات الداخلية بحث عن الوجوب الغيري لأجزاء الواجب الخارجي، أي: فيما إذا كان الكل والمركب مشتملا على أجزاء هي وجودات مستقلة خارجية، كأجزاء الصلاة والحج، لا أجزاء الماهيات كالجنس والفصل التي هي أجزاء تحليلية للماهيات ولا يوجد في الخارج غير وجود واحد، فلا نبحث عنه في المقام ولم يتوهم أحد الوجوبَ الغيري للجنس والفصل؛ لأنه لا يوجد لدينا غير وجود وفعلٍ واحد وهو واجب نفسي. وعليه، فإن البحث خاص بالأجزاء للمركبات الخارجية كالصلاة والحج وأشباههما. ويوجد في المقام نقطتان لابد من دراستهما:

     النقطة الأولى: في أنه هل يصدق على عنوان المقدمة أو المقدمية على أجزاء المركب أم لا؟ وهذا في واقعه بحث عن أصل توقف الكل مع الجزء ومقدميّته للكلّ.

     النقطة الثانية: (وهي النقطة الرئيسية في البحث) في أنه هل يوجد لكل جزء من أجزاء المركب الخارجي وجوب غيري (لو آمن الأصولي بالتلازم بين وجوب شيء ووجوب المقدمات ) أم لا؟ أي: هل يترشح وجوب غيري على مثل هذه المقدمات كما هو الحال في المقدمات الخارجية أم لا؟ لتكون النتيجة ثبوت الوجوب الغيري للركوع والسجود في مثل الصلاة.

     أما النقطة الأولى: فترتبط بكيفية تفسيرنا للمقدمية والتوقف، فإن كان المقصود مطلق توقف فرض وجود شيء على وجود شيء آخر، فهذا التوقف موجود في الكل والجزء أيضا؛ لأن وجود الكل متوقف على وجوب الجزء، دون العكس. وأما إذا كان المقصود من المقدمية والتوقف هو العلية والسببية بأَنْ يَكُونَ وجود مُتَوَقّفاً على وجود آخر، فلا تكون الأجزاءُ مقدمةً.

وبعبارة أخرى: يمكننا أن نفسر التوقف بتفسيرين:

التفسير الأول: أَنْ لا يمكن افتراض وجود شيء إلا بافتراض وجود آخر، سواء كانا في وجود واحد أم كانا في وجودين وقد يعبر عن ذلك بالتقدم والتأخر في الوجود.

التفسير الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ وجود شيء متوقفاً عَلَىٰ وجود شيء آخر.

فعَلَىٰ التفسير الأَوَّل تُعتبر الأجزاءُ مقدماتٍ؛ لأَنَّ فيها التقدم والتأخر الطبعي، وعلى التفسير الثَّانِي لا تكون للأجزاء مُقَدِّمِيَّة؛ لأَنَّ وجود الكل حِينَئِذٍ عينُ وجود تمام الأجزاء، لا أَنْ يَكُونَ وجوداً آخر مسبَّباً عنها.

     وأما النقطة الثانية: وهي نقطة مهمة يبحث فيها عن سريان الوجوب الغيري إلى الأجزاء، وأنه هل يكفي هذا النَّحْو من التَّوَقُّف بين الكل والجزء لسريان الوجوب الغيري إلى الأجزاء (بناءً عَلَىٰ قبول الملازمة) أم لا؟ فقد نفى الأصوليون ذلك وقالوا بأننا حتَّى لو قلنا بالملازمة بين الوجوب النَّفْسِيّ ووجوب المقدمات الغيري لا نقول بها فِي الأجزاء، وَإِنَّمَا نقول به فِي المقدمات الخارجية فحسب، أي: فيما إذا كان وجود الْمُقَدَِّمَة مختلفاً عن وجود ذي الْمُقَدَِّمَة، وقد ذكروا دليلين بهذا الصدد:

     الدليل الأول: نفي مقتضى الوجوب الغيري في الأجزاء، أي: لا يوجد في المقام ملاك للملازمة.

     الدليل الثاني: امتناع وجوب الأجزاء بالوجوب الغيري أيضاً،وإن شئت قلت: إنهم تمسكوا بدليل وجداني ودليل برهاني عَلَىٰ عدم وجوب المقدمات الداخلية.

     أما الدليل الأول: فهو ما أفاده الخراساني في حاشيته على الكفاية حيث يقول فيها: لما كان أجزاء المركب عين المركب ومجموع الأجزاء هو الكل نفسه، فحينما يطلب المولى المركبَّ تصبح الأجزاءُ مطلوبةً ومأموراً بها ضمن الْمُرَكَّب المطلوب وتقع متعلقة للإرادة النَّفْسِيَّة، وإذا كانت متعلقاً للإرادة النَّفْسِيَّة لا يمكن أن تقع من جديد متعلقاً للإرادة الغيرية؛ وذلك لَيْسَ من أجل اللغوية حتَّى يقال: لا تجري اللغوية فِي الإرادة والحب والبغض وَإِنَّمَا تجري فِي الجعل والإنشاء، وَإِنَّمَا لأجل انعدام نكتة الملازمة فِي المقام؛ لأَنَّ ملاك الملازمة وسريان الوجوب والإرادة الغيرية إلى الْمُقَدَِّمَة هو أن المولى يرىٰ أَنَّهُ إذا طلب ذا الْمُقَدَِّمَةَو الْمُقَدَِّمَة فعل آخر لا يدخل فِي نطاق أمره النَّفْسِيّ، فحَيْثُ أَنَّ ذا الْمُقَدَِّمَة متوقف عَلَىٰ تَحَقُّق الْمُقَدَِّمَة، فمن الطبيعي أن يطلب الْمُقَدَِّمَة أَيْضاً. وهذا إِنَّمَا يصح فيما إذا لم يكن فعل الْمُقَدَِّمَة بنفسه متعلقاً للإرادة والطلب النَّفْسِيّ ولم تكن الإرادة النَّفْسِيَّة منبسطة عليها. وهذا مطلب وجداني وواضح.

     أقول: ما أفاده الخراساني صحيح و أن ملاك الوجوب الغيري هو أن الواجب النَّفْسِيّ حيث أَنَّهُ متوقف عَلَىٰ شيء خارج عنه، فإذا التفت الآمر إليه فمن الطبيعي أن يطلب ذاك الشيء الآخر أَيْضاً، وهذا إِنَّمَا يصح فيما إذا لم يكن ذاك الشيء متعلقاً لتلك الإرادة النَّفْسِيَّة بينما الأجزاء تتعلق بها الإرادة النَّفْسِيَّة، ومعنى ذلك عدم توفر مُقْتَضَىٰ الوجوب الغيري وملاكه فِي الأجزاء، وهكذا يصبح هذا البيان برهانياً أوأكثر وضوحاً إن قلنا فِي الوجوب الغيري بما اختاره صاحب الفصول من أن مُتَعَلَّق الوجوب الغيري خَاصّ بالحصة الموصلة من الْمُقَدَِّمَة، كما سوف نثبت ذلك، أي: فِي البحث عن وجوب الْمُقَدَِّمَة نبحث عن مسألة أخرى وهي أَنَّهُ هل الوجوب الغيري ثابت لمطلق الْمُقَدَِّمَة أو أَنَّهُ ثابت لخصوص الْمُقَدَِّمَة الموصلة؟ وهذا هو النزاع الشهير بين صاحب الفصول وصاحب كفاية الأُصُول، وقد اختار المتأخرون مختار صاحب الفصول، وقالوا: لو وقعت الملازمة مورد القبول، يتعلق الوجوبُ والإرادة الغيرية بالمقدمة الَّتِي يرافقه تَحَقُّقُ ذي الْمُقَدَِّمَة، ولكن إذا حقق الْمُقَدَِّمَةَ ولم يأت بذي الْمُقَدَِّمَةِ فَسَوْفَ لا يكون موجِداً للمحبوب الغيري أَيْضاً.

وحينئذ نقول، لو آمنا بمبنى الخراساني من وجوب مطلق المقدمة وأن لكل مقدمة وجوبٌ غيري مستقل عن المقدمة الأخرى، فسوف يكون هذا البيان بياناً وجدانياً وليس برهانيّاً؛ إذ لقائل أن يقول: لقد أوجبتم مطلق المقدمة والجزء الذي هو مأمور به بالأمر النفسي جزءٌ مقيَّد بأجزاء أخرى وفي ضمن الكلّ، وأنتم الذين تقولون بأن الْمُقَدَِّمَة غير الموصلة واجبة أَيْضاً فلماذا لا تقولون هنا أيضاً بأننا حينما نرى ونلاحظ ذات الجزء والذي وجوده أقل من وجود الكل، بإمكانها أن تقع متعلقاً لإرادة أخرى غيرية أي لحاظ الجزء ضمن الكل في الواجب النفسي غير لحاظ الجزء لا بشرط ووحده فيمكن أن يكون أحد اللحاظين مصبّ الوجوب النفسي والآخر مصبّ الوجوب الغيري، وإن كان هذا مخالفاً للوجدان؛ لأَنَّ الملحوظ فِي لحاظ الجزء اللابشرط عن سائر الأجزاء متحد مع الملحوظ فِي لحاظ الكل وجميع الأجزاء، وهذا المقدار يكفي فِي أَنْ تَكُونَ الإرادة النَّفْسِيَّة قد تعلقت بذاك الجزء الملحوظ من خلال الكل أَيْضاً. وبعبارة أخرى: إن الضَّابِط وحدة الملحوظ وليس وحدة اللِّحَاظِ، والجزء ملحوظ فِي الكل أَيْضاً، تنبسط الإرادة النفسية عليه (لا بشرط عن الانضمام).

وأما إذا آمنا بمبنى صاحب الفصول من أن الْمُقَدَِّمَة الموصلة واجبة، فَسَوْفَ لا نملك إلا وجوباً غيرياً عَلَىٰ مجموع المقدمات المتواجدة مع ذي الْمُقَدَِّمَة؛ لأَنَّ مجموعها هي ما ترافق ذي الْمُقَدَِّمَة لا كل فرد فردٍ منها، ومجموع الأجزاء الذي هو مجموع المقدمات الداخلية الموصلة إلى المركب هو عين المركب لحاظاً وملحوظاً وهي متعلق للوجوب والإرادة النفسية وعدم تعلق الإرادتين به أوضح لعدم وجود شيئين حتى لحاظاً ليتوقف أحدهما على الآخر.

وبعبارة أخرى: وَفْقاً لمبنى الْمُقَدَِّمَة الموصلة القائلة بأن مجموع المقدمات الموصلة إلى ذي الْمُقَدَِّمَةهو الواجب الغيري الواحد، يتبرهنُ بطلانُ وجوب المقدمةٍ الداخلية، إذ أن الْمُقَدَِّمَة الداخلية الموصلة هي عين الكل حتَّى اعتباراً ولحاظاً، فتزول الثنائية والازدواجية والتوقف حتَّى بمعناه الأعم. هذا بيان بُرْهَانِيّ عَلَىٰ عدم وجود ملاك الوجوب الغيري ومقتضيه فِي المقدمة الداخلية (أي: فِي أجزاء الْمُرَكَّب).

وقد ورد فِي بعض التقريرات أن الْمُقَدَِّمَةَ الدَّاخِلِيَّةَ والأجزاء تختلف عن الكلّ وَالْمُرَكَّب؛ ذَلِكَ لأَنَّ مجموعَ الأجزاء هو الْمُرَكَّب وما هو الْمُتَعَلَّق للوجوب النَّفْسِيّ هو مجموع الأجزاء، وما هو الجزء والمُقَدَِّمَة داخلية هو كل جزء جزءٍ ولا بشرط عن انضمام سائر الأجزاء، وهذا غير الكل اعتباراً ولحاظاً ووجوداً وخارجاً أَيْضاً، إذن بإمكانه أن يقع متعلقاً للإرادة والوجوب الغيري، وما هو مُتَعَلَّق للوجوب النَّفْسِيّ غير ما هو مُتَعَلَّق للوجوب الغيري حقيقةً واعتباراً. وهكذا حاولوا مناقشة الدليلين اللذين استدل بهما عَلَىٰ عدم وجوب الأجزاء الغيري.

     ولكن هذا التقريب غير صحيح؛ ذَلِكَ ؛ لأَنَّهُ:

     أوَّلاً: سوف يأتي (بناءً عَلَىٰ مبنى صاحب الفصول القائل بأن الْمُقَدَِّمَة الموصلة واجبة) أن مجموع المقدمات تكون موصلةً ولا توجد عندنا أكثر من مُقَدَِّمَة موصلة واحدة وواجب غيري هو مجموع المقدمات الموصلة إلى ذي المقدمة وبالتالي سوف يكون مجموع الأجزاء الموصلة في ما نحن فيه عين الكل لحاظاً وملحوظاً واعتباراً وحقيقةً.

     وَثَانِياً: لِكُلّ مُقَدَِّمَة (وَفْقاً لمبنى الخراساني) وجوبٌ غيريٌّ مستقل ومطلق، ولحاظ كُلّ جزء لا بشرط يختلف عن لحاظ الْمُرَكَّب ومجموع الأجزاء، ولكن ملحوظ اللحاظين واحد والفارق بينهما فِي قلة ملحوظ الجزء وكثرة ملحوظ الكل، وهذه الوحدة الملحوظية تكفي فِي أن لا تتعلق بالجزء إرادةٌ غيرية أخرى وتكفي تلك الإرادة النَّفْسِيَّة المتعلقة بملحوظ الكل، كما أن هذا المطلب سوف يكون سبباً لاجتماع المثلين فِي الدَّلِيل الآتي، ولا يكون تغاير اللِّحَاظِ الاعتباري مجدياً كما سوف يأتي.

     وأما الدليل الثاني من دليلي الخراساني فهو وجود المانع؛ لأَنَّ الأجزاء إذا كانت واجبة بوجوب غيري مع ما لها من الوجوب النَّفْسِيّ الضمني فذلك يسبب اجتماع وجوبين وإرادتين، أي: اجتماع المثلين عَلَىٰ شيء واحد تحت عنوان واحد؛ لأَنَّ عنوان الْمُقَدَِّمَة حيثية تعليلية لكي يقع واقع الْمُقَدَِّمَة الدَّاخِلِيَّة أي الجزء بعنوانه الحقيقي متعلقاً للإرادة الغيرية للمولى، أَيْ: أَن الركوع والسجود متعلقان للإرادتين النَّفْسِيَّة والغيرية للمولى، وهذا هو اجتماع الضدين عَلَىٰ عنوان واحد والَّذِي اتفق الكل عَلَىٰ استحالته.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo