< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

33/01/22

بسم الله الرحمن الرحیم

كان الكلام فِي تبدل الحكم الظَّاهِرِيّ لدى الْمُكَلَّف إلى حكم ظاهري آخر حيث قلنا: إن هذا الحكم الظَّاهِرِيّ الثَّانِي إما هو أمارة فلوازمها حجة، فإذا اقتضت لوازمُها الإعادةَ أو القضاء يثبت ذلك، وَإِمَّا هو أصلٌ فقد ذكر سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ & أربع صور فِي المقام تَقَدَّمَ شرح الصورتين الأولى والثانية منها، بأن يكون تبدل الحكم الظَّاهِرِيّ الأَوَّل بالاستصحاب (وهو أصل شرعي) وأنَّ الاستصحاب فِي الصُّورَة الأولى استصحاب فِي الشبهة الموضوعية كما أَنَّهُ استصحاب فِي الشبهة الحكمية.

ويجدر بنا أن نعلِّق عَلَىٰ المقام ونشرح العنوان؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ صحيحاً بهذا الشكل ويجب استبدال العنوان؛ فَإِنَّ الضَّابِط والمعيار لَيْسَ عبارة عن كون الاستصحاب في الشبهة الموضوعية أو فِي الشبهة الحكمية؛ فَإِنَّ هذا لا يُعَدُّ ضابطاً؛ إذ من الممكن فِي كلتا الصورتين أَنْ يَكُونَ الاستصحاب استصحاباً فِي الشبهة الموضوعية كما يمكن أَنْ يَكُونَ استصحاباً فِي الشبهة الحكمة.

والنكتة فِي أن سَيِّدَنَا الأُسْتَاذَ الشَّهِيدَ & ذكر فِي >تبدّل الحكم الظَّاهِرِيّ الأَوَّل إلى الاستصحاب الإلزامي< صورتين هي إمكانية إثبات موضوع وجوب القضاء (حتَّى فيما إذا كان الْمَوْضُوع عنوان >الفوت< الوجودي) فِي الصُّورَة الثَّانية بناءً عَلَىٰ التركيب فِي الموضوعات، وذلك عن طريق ضم الوجدان إلى التعبد. أَيْ: أَن نقول بأن الْفِعْل الَّذِي تركه الْمُكَلَّفُ قد فاته قطعاً، وَحِينَئِذٍ إن ثبت بالاستصحابِ الوجوب وكونه فريضةً فيثبت موضوعُ وجوب القضاء (وهو فوت الفريضة) ويثبت القضاء خِلاَفاً للصورة الأولى الَّتِي لا يثبت فيها عنوان >الفوت< باستصحاب عدم الإتيان بالواجب كالصلاة مع الطهور داخل الوقت، حتَّى بناءً عَلَىٰ التركيب؛ لأَنَّ فوتها لَيْسَ محرَزاً بل هو اللازم العقلي لاستصحاب >عدم الإتيان<.

أقول: لَيْسَ الضَّابِط فِي هذه النكتة كون الشبهة فِي الاستصحاب مَوْضُوعِيَّةً أو حكميةً، وَإِنَّمَا الضَّابِط فيها والتعبير الصَّحِيح والدقيق فيها هو أن الشَّكّ فِي تَحَقُّق قيود الواجب قد يكون فِي الخارج وهو فِي واقعه شك فِي الامتثال أو فِي المحصل، وقد يكون الشَّكّ فِي ما هو الواجب وهو فِي واقعه شكٌّ فِي ما هو القيد، حيث أن الْمُكَلَّف عَادَةً يأتي بأحدهما ويترك الآخر، ويمكن أَنْ يَكُونَ جريان الاستصحاب فِي كليهما بعد تبدل الحكم الظاهري الأول فِي شبهة حكمية كما يمكن أَنْ يَكُونَ فِي شبهة موضوعية.

وتوضيح ذلك: أَمَّا أَنَّهُ يمكن أَنْ يَكُونَ الاستصحاب فِي الصُّورَة الثَّانية من الشبهة الحكمية أو الموضوعية فواضح.

ومثال الشبهة الحكمية هو المثال السابق بأنه يكون الحكم الظَّاهِرِيّ لاقتضاء وجوب الظهر من يوم الجمعة موجوداً لدى الْمُكَلَّف منذ البداية، ولكن بعد ذلك تبدل هذا الحكم الظَّاهِرِيّ وسقط ليقتضي الاستصحاب مثلاً بقاء الوجوب التعييني للجمعة فِي عصر الغيبة كزمان الحضور، فهذه شبهة حكمية؛ فَإِنَّ وجوب إعادة الجمعة (فِي حال بقاء وقت الجمعة) وقضاءها (فِي خارج الوقت) يثبت بهذا الاستصحاب بناءً عَلَىٰ التركيب.

ومثال الاستصحاب فِي الشبهة الموضوعية أَنْ يَكُونَ الْمُكَلَّف مسافراً مِنْ دُونِ أن يقصد العشرة، ففي هذه الحالة يصلي صلاته قصراً إلى ثلاثين يوماً، وَحِينَئِذٍ إذا شك بأن هذا اليوم مثلاً هو اليوم الحادي والثلاثين أو لا؟ وقامت لديه البينة أو أخبره الثِّقَة بأن اليوم هو اليوم الحادي والثلاثين فصلّى صلاة تامةً، ثُمَّ علم بخطأ ذاك الخبر أو عثر عَلَىٰ معارض له، فيسقط الخبر أو البينة عن الْحُجِّيَّة، ومن الطبيعي حِينَئِذٍ أن يشك فِي أن الواجب عليه هو القصر أو التمام؟ فيجري استصحاب بقاء حكم القصر أو عدم اكتمال ثلاثين يوماً له، وهذا الاستصحاب يَدُلّ عَلَىٰ بطلان صلاته وأن الصَّلاَة الواجبة عليه كانت عبارة عن الصَّلاَة قصراً وَالَّتِي فاتته (بناءً عَلَىٰ التركيب). وهذا الاستصحاب فِي شبهة موضوعية يماثل مثال الجمعة والظهر، فيجب عليه أن يعيد صلاته داخل الوقت قصراً، أَمَّا فِي خارج الوقت فهو مصداق للصورة الثَّانية من البحث والذي يقال فيه بإمكان إثبات موضوع فوت الفريضة بناءً عَلَىٰ التركيب باستصحاب عدم مضي ثلاثين يوماً المثبت لكون القصر الذي فاته قطعاً كان هو الفريضة.

وفي ضوء هذا تبين أَنَّهُ لَيْسَ الضَّابِطُ فِي هذه النكتةِ كون الاستصحاب حُكمياً، بل الضَّابِط فيها أَنْ يَكُونَ الشَّكّ فِي ما هو الواجب وأن ما لم يُمتثل يقيناً هل كان وَاجِباً أم أن المأتي به كان وَاجِباً؟

وبعبارة أخرى: أَنْ يَكُونَ الشَّكّ فِي ما هو القيد والخصوصية للواجب بأنه هل الواجب الجمعة أو الظهر أو الصلاة قصراً أو تماماً؟ سَوَاء كانت هذه الشبهة والشك عَلَىٰ نحو الشبهة الحكمية الكلية كمثال الجمعة والظهر، أم كان عَلَىٰ نحو الشبهة الموضوعية كمثال القصر والتمام من منطلق الشَّكّ فِي تَحَقُّق موضوعه الخارجي.

طَبْعاً إن لشبهة القصر والتمام الحكمية مثال أَيْضاً، كما إذا استقر رأي المجتهد عَلَىٰ أن الخروج من بلد الإقامة يوجب قصر الصَّلاَة حتَّى قبل الوصول إلى حد الترخّص؛ لأَنَّهُ مسافر وخارج عن مكان إقامته، ثُمَّ تغير نظره وأجرى استصحابَ بقاء حكم التمام إلى الخروج من حد الترخّص، وهذه شبهة حكمية تُثْبِتُ وجوب التمام، وَحِينَئِذٍ إذا كان قد صلى قَصْراً داخل حد الترخص فيقتضي هذا الاستصحاب أن يعيدها داخل الوقت كما تجري شبهة القضاء خارج الوقت بناء عَلَىٰ التركيب، أي: سوف يكون من مصاديق الصُّورَة الثَّانية.

إذن، عنوان الصُّورَة الثَّانية بالدقة هو ذاك العنوان الَّذِي افترضناه، لا العنوان الَّذِي افترضه سَيِّدُنَا الأُسْتَاذُ الشَّهِيدُ &، وهذا العنوان أعم من أَنْ يَكُونَ الاستصحاب فِي شبهة حكمية أم فِي شبهة موضوعية، كما أن الصُّورَة الأولى أعم من تبدل الحكم الظَّاهِرِيّ إلى الاستصحاب فِي شبهة حكمية أو موضوعية، وقد تَقَدَّمَ مثال الاستصحاب فِي الشبهة الموضوعية.

وَأَمَّا مثال الاستصحاب فِي الشبهة الحكمية فمثاله أَنْ يُثْبِتَ فقيهٌ بالأمارة والدليل أن الماء الكر يطهر بزوال تغيره ولا يحتاج إلى الاتصال بالكر أو بالماء الجاري، فيتوضأ بهذا الوضوء ويصلي، ثُمَّ يتراجع عن هذا المبنى وذلك بسقوط ذاك الدَّلِيل عن الْحُجِّيَّة مثلاً، فيستصحب بقاء نجاسةَ ذاك الماء. وهذا استصحاب فِي شبهة حكمية و يُثْبِتُ بطلان الصَّلاَة المأتي بها.

وعليه، لَيْسَ الضَّابِطُ فِي المسألة كون الشبهة حكميةً أو مَوْضُوعِيَّة، بل الضَّابِط بالدقة هو أننا نَشُكُّ في:

     الصُّورَة الأولى فِي تَحَقُّق المأمور به المعلوم، واستصحاب نفي تحقق ذاك القيد (كالطهور- سَوَاء فِي الشبهة الحكمية أم فِي الشبهة الموضوعية) يُثْبِتُ الإعادةَ فِي الوقت، ولٰكِنَّهُ لا يُثْبِتُ موضوعَ القضاء.

     وَأَمَّا في الصُّورَة الثَّانية فشكُّنا فيها إِنَّمَا هو فِي ما هو قيد للواجب، حيث أن الْمُكَلَّف عَلَىٰ أحد التقديرين قد امتثله وعلى التقدير الآخر تركه. والاستصحاب يُثْبِتُ أن القيد أو الْعَمَل المتروك كان وَاجِباً (سَوَاء فِي الشبهة الحكمية أم فِي الموضوعية).

هذا هو الإصلاح الَّذِي كان يجدر بنا ذكره للصورتين الأولى والثانية.

إذن، تتميز الصُّورَة الأولى عن الثَّانية بأن الْمُكَلَّف قد يشك فِي التَحَقُّق الخارجي للمأمور به وقيوده المعلومة بالتفصيل، وهذه هي الصُّورَة الأولى الَّتِي ينفي الاستصحابُ تحققها.

وقد يكون الشَّكّ فِي ما هو القيد أو المأمور به؟ فيثبت الاستصحابُ وجوبَ القيد أو الْعَمَل الَّذِي لم يأت به الْمُكَلَّف، سَوَاء كان مجرى هذا الاستصحاب شبهة حكمية أو شبهة مَوْضُوعِيَّة.

الصُّورَة الثَّالثة: من الصور الأربع لتبدل الحكم الظَّاهِرِيّ إلى الأصل الْعَمَلِيّ الإلزامي هي الصُّورَة الَّتِي لا يتبدل فيها الحكم الظَّاهِرِيّ الأَوَّل إلى حكم ظاهري شرعي، بمعنى أنه لا يكون الأصل الجاري بعد الحكم الظَّاهِرِيّ لا استصحاباً ولا أصلاً شَرْعِيّاً، بل يكون أصلاً إِلْزَامِيّاً عَقْلِيّاً، وهذا له فرضان أَيْضاً:

     الفرض الأول وهو الصُّورَة الثَّالثة جريان أصالة الاشتغال العقلية فِي أطراف العلم الإجمالي أو مُنَجِّزِيَّة العلم الإجمالي، وأمره دائر بين متباينين، ويمكن ذكر مثال للعلم الإجمالي بين المتباينين فِي الشبهة الحكمية كما يمكن ذكر مثال له فِي الشبهة الموضوعية.

أَمَّا الشبهة الحكمية فيمكن أن نمثّل له بصلاة الجمعة أو بصلاة الظهر من يوم الجمعة الَّتِي أتى بها الْمُكَلَّف لقيام دليلٍ عَلَىٰ إجزائه، ثُمَّ سقط الدَّلِيلُ عن الْحُجِّيَّة، فمن الطبيعي حِينَئِذٍ أن يحصل لديه علم إجمالي بالوجوب التعييني لصلاة الظهر أو الجمعة (بناءًعَلَىٰ أن لا يُحتمل التَّخْيِير).

ويمكن أن نمثل له بكثير السفر الَّذِي يبني عَلَىٰ أن كثرة السفر نفسها كافية لمن أتى بالصلاة تماماً (ولا يجب أَنْ تَكُونَ الكثرةُ لأجل المهنة والعمل، فإذا كان يسافر كثيراً للسياحة يجب عليه أن يصلي تماماً) ثُمَّ شك فِي صِحَّة هذا المبنى واحتملَ صِحَّةَ مبنى المتأخرين القائلين بأنه يجب أَنْ يَكُونَ السفر مهنته أو عمله فِي السفر، ولم يجد دليلاً أو إطلاقاً يُثْبِتُ وجوب التمام أو القصر لكثير السفر الَّذِي لَيْسَ عمله فِي السفر، فمن الطبيعي حِينَئِذٍ أن يحصل لديه علم إجمالي بوجوب القصر أو التمام لمن يسافر كثيراً للسياحة، وهذا علم إجمالي بين متباينين فِي الشبهة الحكمية وهو مُنَجِّز أَيْضاً.

وأما الشبهة الموضوعية فمثاله مَن جعل الكثرةَ موضوعاً ولكن شكَّ فِي حصول كثرة السفر، أو أَنَّهُ شكَّ أن هذا السفر هل كان لأجل الْعَمَل أم كان لأجل السياحة، فمن الطبيعي حِينَئِذٍ أن يحصل لديه علم إجمالي وهو شبهة موضوعِيَّة، والضابط فِي هذه الصُّورَة الثَّالثة أن يحصل لديه علم إجمالي بين متباينين والعلم الإجمالي بين المتباينين مُنَجَّز، سَوَاء فِي الشبهة الحكمية أم فِي الشبهة الموضوعية. وهذا العلم الإجمالي إن حصل قبل الْعَمَل فيجب عليه يقيناً الإتيان بكلا الطرفين من باب الاحتياط، وهذا واضح. والبحث هنا فِي فروض ثلاثة أخرى:

     الفرض الأَوَّل: أن يحصل العلم الإجمالي بعد الْعَمَل بالحكم الظَّاهِرِيّ الأَوَّل وفي داخل الوقت، أَيْ: أَن يحصل بعد الإتيان بصلاة الجمعة أو الظهر، أو القصر أو التمام. فهنا قد يقال بأنه لطالما حصل لديه العلم الإجمالي فيجب عليه الإتيان بالطرف الآخر أَيْضاً، ولكن هذا المطلب غير صحيح؛ لأَنَّهُ قد امتثل طرفاً من طرفي العلم الإجمالي ثُمَّ حصل لديه العلم الإجمالي، وهكذا علم إجمالي لَيْسَ مُنَجَّزاً؛ لأَنَّهُ لا يوجد لديه علم إجمالي بالتكليف الفعليّ؛ لأَنَّهُ إن كانت وظيفته ما أتى به فقد امتثلها وسقط التكليفُ فِعْلاً، وَبِالتَّالِي يشك فِي التكليف، والشك فِي التكليف لَيْسَ مُنَجّزاً، ولا يجب الإتيان بالطرف الآخر، ولا تأتي مُنَجِّزِيَّة العلم الإجمالي (وَالَّتِي هي الاحتياط العقلي) فِي المقام. نعم، إن كان قبل الْعَمَل لم يكن العلم الإجمالي منحلاً، ولكن حيث حصل بعد الْعَمَل بأحد الطرفين فلا يكون مُنَجّزاً، كما لا يجري استصحاب عدم التكليف أَيْضاً؛ وذلك لما تَقَدَّمَ تفصيله فِي مناقشة كلام الخراساني فِي مسألة الشَّكّ فِي السَّبَبِيَّة من أن استصحاب بقاء الوجوب إن كان لواقع الوجوب فهو من الاستصحاب فِي الفرد الْمُرَدَّد، وإذا كان استصحاباً لجامع الوجوب فَسَوْفَ لا يكون من الفرد الْمُرَدَّد، وَإِنَّمَا يكون من استصحاب الكلي من القسم الثَّانِي، ولٰكِنَّهُ (سَوَاء كان من الفرد الْمُرَدَّد أم من الاستصحاب الكلي) جامع بين حكمين أحدهما لَيْسَ صالحاً للتنجيز، واستصحاب التكليف الْمُرَدَّد بين ما يقبل التنجيز وما لا يقبل التنجيز لا يكون مُنَجّزاً، نعم سوف يحصل العلم الإجمالي التدريجي لِلْمُكَلَّفِ إذا كان هذا التكليف المعلوم بالإجمال تكرارياً وكان يعلم بأنه سوف يبتلي به فِي المستقبل.

ومثاله أن يعلم بوجوب صلاة الظهر فِي يوم الجمعة هذه، أو يجب عليه أن يصليها فِي الجمعة المقبلة؟ فهذا العلم الإجمالي التدريجي إِنَّمَا هو فِي عمود الزمان وهو مُنَجِّز.

ومثاله الآخر أن يعلم بأَنَّهُ سوف يبتلي بالسفر لعدة أيام، ففي هذه الحالة يحصل لديه علم إجمالي تدريجي يؤدي إلى وجوب الاحتياط داخل الوقت، مِنْ دُونِ أَنْ يَكُونَ لذاك العلم الإجمالي الَّذِي انقضى وامتثل طرفٌ من أطرافه دخلٌ فِي وجوب الاحتياط. ولكن هذا العلم الإجمالي لَيْسَ مَوْجُوداً فِي جميع الموارد كما هو واضح.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo