< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/27

بسم الله الرحمن الرحیم

مُقْتَضَىٰ الأصل الْعَمَلِيّ

 

كانَ الكلامُ فِي إجزاء الأوامر الاضطرارية عن القضاء فيما يستوعِب العذرُ تمام الوقت، وقد تَقَدَّمَ البحث عن مُقْتَضَىٰ الأصل اللَّفْظِيّ فيه والبحث هنا عن مُقْتَضَىٰ الأصل الْعَمَلِيّ:

وقد ذكر صاحب الكفاية أن الأصل الْعَمَلِيّ فِي المقام هو البراءة وأن جريان البراءة فِي المقام أولى من جريانها فِي الشَّكِّ فِي إجزاء الأمر الاضطراري عن وجوب الأداء والإعادة داخل الوقت.

ولعلّ مقصوده من الأَوْلَوِيَّة هو أن الشَّكّ فِي القضاء خارج الوقت إِنَّمَا هو بنحو الشُّبهَة البدوية، بينما الشَّكّ فِي وجوب الإعادة داخل الوقت شكٌّ بين الأَقَلّ والأكثر أو دوران الأمر بين التّعيين والتخيير، وأن جريان البراءة فِي الشُّبهَة البدوية من الواضحات والمسلمات لدى الجميع، خلافاً لموارد الدَّوران بين الأَقَلّ والأكثر الارتباطيين أو الدَّوران بين التّعيين والتخيير.

     ولكنَّ الصَّحِيحَ هو القول بالتفصيل بين مبنيين.

     المبنى الأوّل أن يكون الأمر بالقضاء أمراً مستقلاًّ، بِأَنْ يَّكُونَ موضوعه مثلاً فوات الفريضة أو تركها داخل الوقت. فحينئذٍ إن شكّ فِي تحققه، يصبح من الشُّبهَة البدوية. مثلاً لا نعلم أن موضوع القضاء هل هو فوات الوظيفة الأولية أو تركها داخل الوقت أو أَنَّهُ هو فوات الوظيفة الفعليّة وتركها؟ فعلى الأوّل يجب القضاء وعلى الثَّانِي لا يجب القضاء. وهذا من الشَّكّ فِي أصل التَّكليف عَلَىٰ نحو الشُّبهَة البدوية الحكمية حيث تجري البراءة فِي الشُّبهَات البدوية، وليس المقام من الشَّكّ فِي الأَقَلّ والأكثر ولا من الدَّوران بين التّعيين والتخيير، خلافاً للشك فِي الأداء حيث كان فِي بعض الفروض من الدَّوران بين الأَقَلّ والأكثر فِي عِدل الواجب التَّخْيِيرِيّ، أو فِي دوران الأمر بين التّعيين والتخيير، ولا يُستبعد أن يكون الخُراسانيّ يريد الإشارة إلى هذا المبنى.

     والمبنى الآخر: أَنْ لاَّ يَكُونَ القضاء بأمر جديد وأن يُستفاد من أدلّة القضاء أن الأمر بالمركب الشَّرْعِيّ مقيِّدٌ بالوقت عَلَىٰ نحو تعدّد المطلوب حيث يرجع إلى أَمْرَيْنِ ثبوتاً. أي: أن لدى الشَّارع مطلوبٌ أو أمر مطلق ومن دون قيد الوقت قد تعلّق بذات الفعل، كما أن لديه أمر آخر وهو عبارة عن وجوب الإتيان بالمركب داخل الوقت، فإن لم يَمْتَثِلُهُ داخل الوقت لا يزول الأمر الأوّل؛ لأَنَّهُ مستقلّ عن الأمر والمطلوب الثَّانِي، كما أَنَّهُ كان مطلقاً ولم يكن مقيِّد بالزمان. إذن يبقى مستمراً ويجب امتثاله، ومعنى ذلك تَبَعِيَّة القضاء للأداء، أي: بقاءً ذاك الأمر والمطلوب الأوّل خارج الوقت، لا أمر جديد آخر.

وَفقاً للمبنى الأخير لا يحظى جريان البراءة بالأولوية، بل عَلَىٰ العكس من ذلك يكون جريان البراءة فِي الشَّكّ فِي الإجزاء عن الإعادة هو الأولى. وهنا لا تجري البراءة وَفقاً لبعض المباني كمبنى الخُراسانيّ والمحقق الْعِرَاقِيّ؛ لأَنَّهُ من موارد الدَّوران بين التّعيين والتخيير؛ لأَنَّ مرجعه إلى أن الأمر والمطلوب الأوّل ما هو؟

إن كان هو الإجزاء فمعناه أن المطلوب الأوّل لم يكن فعلاً اختياريّاً خاصّاً، بل أن الجامع بين الفعل الاختياري أو الفعل الاضطراري كان مقيّداً بِأَنْ يَّكُونَ داخل الوقت.

وإن لم يكن هو الإجزاء فمعناه أن المطلوب والأمر الأوّل كان خصوص الفعل الاختياري وَالَّذِي يجب الإتيان به، وهذا هو الدَّوران بين التّعيين والتخيير.

إذن، الشَّكّ - وَفقاً للمبنى الثَّانِي - فِي أَنَّهُ ما هو مُتَعَلَّق الأمر الأوّل؟ هل هو التَّخْيِير أو التّعيين؟ وهذا هو الشَّكّ فِي دوران الأمر بين التّعيين والتخيير. فلَيْسَ جريان البراءة عن وجوب القضاء له الأَوْلَوِيَّة بل أن من يحتاط فِي دوران الأمر بين التّعيين والتخيير (مثل الآخوند الخُراسانيّ) يجب أن يحتاط فِي المقام أيضاً. نعم، إن كان القضاء بأمر جديد يصبح من الشُّبهَة البدوية ويكون جريان البراءة فيه أولى من وجوب الإعادة داخل الوقت.

وبذلك ينتهي البحث عن إجزاء الأوامر الاضطرارية، ولكن قبل الدخول فِي البحث عن إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي يجدر بنا الإشارة إلى عدّة نقاط:

     النُّقْطَة الأولى: تحصّل مِمَّا تقدّم أن أكثر الوجوه الاستظهارية المذكورة لإجزاء الأمر الاضطراري الخاصّة بلسان دليل الأمر الاضطراري، لا يشمل جميع الأوامر الاضطرارية فِي الفقه، ومعنى ذلك أن إجزاء الأمر الاضطراري لَيْسَ قَائِماً عَلَىٰ نكتة ثبوتيّة واحدة حتّى يقال كقاعدة أصوليّة عامّة: إن كل أمر اضطراري يقتضي الإجزاء.

أجل، إن تَمَّ الوجه الثُّبوتيّ الَّذي يذكره السَّيِّد الأُسْتَاذ الْخُوئِيّ & كان بإمكانه أن يُطرح كقاعدة كلية خاصّة بالإجزاء عن الأداء فِي الواجبات التي لا يحتمل فيها تَعَدّد الواجب عَلَىٰ المكلفين فِي الوقت.

وما يتحصل من إجزاء الأوامر الاضطرارية (الَّذي هو بحث كلي أصولي) هو عدم الملازمة وعدم اقتضاء الأمر الاضطراري الإجزاءَ، لا داخل الوقت بِالنِّسْبَةِ إلى الإعادة ولا خارج الوقت بِالنِّسْبَةِ إلى القضاء.

أَمَّا استفادة الإجزاء من الألسنة الخاصّة لبعض الأوامر الاضطرارية فهي مرتبطة بتلك النكات الاستظهارية الَّتي يجب أن تُدرس فِي الفقه. وفي الواقع تطبيق النكات الكلّيّة للحكومة أو الإِطْلاَق المَقَامِيّ أو الجمع الْعُرْفِيّ عَلَىٰ أدلّة الأوامر الاضطرارية، راجع إلى الفقه.

     النُّقْطَة الثَّانية: أَنَّهُ لَيْسَ جميع الموارد الفقهيّة الَّتي يقال فيها بنفي الإعادة والقضاء بشأن ذوي الأعذار، خاصّاً بقاعدة إجزاء الأمر الاضطراري، بل إن نفي القضاء أو الإعادة فِي بعض الموارد مرتبط بنكتة فِقْهِيَّة أخرى، وتلك النُّكتة عبارة عن قصور دليل جزئية القيود المتعذرة أو شَرْطِيَّتهَا، أو ورود دليل عَلَىٰ نفي قَيْدِيَّتها فِي حال العذر، كقاعدة >لا تعاد< الفقهيّة الَّتي ترفع واقعاً شرْطِيَّةَ وجزئيةَ القيود غير الركنية عن الصَّلاة فِي حال النسيان أو الجهل، ولا علاقة لهذا المطلب بإجزاء الأمر الاضطراري أو جواز البِدار، بل الأمر يَتَعَلَّقُ ابتداءً بتحديد الْمُرَكَّبِ والواجب الأولي بأَنَّهُ يحتوي عَلَىٰ أي قيد من القيود؟ وأنها فِي أي حالة تكون قيوداً وفي أي حالة تفقد قيديّتها؟ وكذلك إذا ثبت بعض قيود المركب الواجب بواسطة دليل منفصل لا يكون مطلقاً شاملاً للعاجز والمضطر أو الناسي والجاهل، حيث تُنفى قيديّتُها بالرجوع إلى إطلاق دليل الأمر بالمركب الأوليّ، كما أَنَّهُ إِنْ لَمْ يوجد لدينا إطلاق فِي الأمر بالمركب الأوّليّ سوف يكون مُقْتَضَى الأَصْلِ الْعَمَلِيِّ هو نفي القيد الزَّائِد أيضاً.

وما ورد أعلاه لا يرتبط بالدِّقَّة بإجزاءِ الأوامر الاِضْطِرَارِيَّةِ، بل يرتبط بقصور إطلاق دليل القيد وعدمه، وقد تقدمت الإشارة إلى أن المرجع فِي هذه الحالة هو إطلاقات الأمر بالمركب، أو الأصل الْعَمَلِيّ وَالَّذِي ينفي التَّقْيِيد.

     النُّقْطَةُ الثَّالثةُ: أن البحوث المتقدّمة تَتَعَلَّقُ باضطرار المُكَلَّف، دون الإيقاع فِي الاضطرار وَالَّذِي هو بحث آخر، فإن ورّط المُكَلَّف نفسَه فِي الاضطرار بأن سكب الماء مثلاً حتّى لا يجد ماء للغُسل أو الوضوء، وبالتَّالي أصبح مضطراً إلى ترك الوضوء أو الغُسل. وهذا ما يعبر عنه بالاضطرار بسوء الاختيار، ففيه بحثان:

     البحث الأوّل: عن جواز الإيقاع والإلقاء فِي الاضطرار وعدمه.

     البحث الثَّانِي: فِي معرفة تكليفه بعد إيقاع نفسه فِي الاضطرار.

     أَمَّا البحث الفقهيّ الأوّل: فيجب أن نقول فيه بالتفصيل بين الاضطرار النّاشِئ من التقية فِي الصَّلاة وبين سائر موارد الإيقاع فِي الاضطرار. أَمَّا الاضطرار النّاشِئ من التقية فِي الصَّلاة فيجوز الإيقاع فيه؛ لأَنَّ الْمُسْتَفَاد من الأوامر الْمُتَعَلَّقَة بالصَّلاة معهم تقيةً (الأمر بالذهاب إلى المسجد والإتيان بالصَّلاة معهم) هو جواز الإلقاء فِي التقية فِي خصوص الصَّلاة، بل ترجيح ذلك، وبالتَّالي لا يكون من سوء الاختيار، والواجب هو الجامع بين الصَّلاة تقيةً معهم ولو اختياراً وبين الصَّلاة مِنْ دُونِ تقية.

أجل، الإيقاعُ فِي الاضطرار فِي سائر الموارد غير جائز، إلاَّ إذا لم يكن التَّكليف فعليّاً، مثلاً قبل دخول وقت الصَّلاة أو قبل شهر رمضان يقوم المُكَلَّف بتورط نفسه فِي العجز عن الإتيان بالصوم أو الوضوء.

اللهم إلاَّ إذا كان من المقدّمات المفوِّتة وَالَّتِي يأتي فِي البحث عن مقدّمة الواجب عدم جواز تفويتها حتَّى قبل الوقت ولكن سيأتي أن وجوب المقدّمات المفوِّتة بحاجة إلى دليل خاصّ.

أَمَّا البحث الفقهيّ الثَّانِي: بأَنَّهُ ما هو واجبه إن أوقع نفسه فِي الاضطرار بسوء اختياره وهل أَنَّهُ كالمضطر الابتدائي الَّذي لَيْسَ اضطراره بسوء اختياره، أم لا؟

يُذْكَرُ أنَّ مُقْتَضَىٰ القاعدة فِي الاضطرار بسوء الاختيار هو سقوط الواجب بالعصيان، ومن هنا يُعاقب أيضاً؛ لأَنَّهُ قد ترك الواجب الْفِعْلِيّ باختياره، كما إذا تعمّد ترك الصَّلاَةِ.

إذن، يسقط التَّكليف إذا كان مقيّداً بالوقت، وإن كان له قضاء يصبح قضاؤه واجباً، وإن لم يكن أصل الواجب مقيّداً بالوقت، مثل وجوب الْحَجّ؛ فإِنَّهُ إن ورّط المُكَلَّف نفسه بسوء اختياره فِي العجز عن الْحَجّ فِي السنة الأولى - مَعَ أَنَّ وجوبه فوريّ - سقط وجوبُهُ بالعصيان فِي تلك السنة ولكن يستقرّ أصلُ الْحَجّ فِي ذمّته ويجب عليه الإتيان به فِي السَّنَةِ الثَّانيةِ بِمُقْتَضَىٰ أدلة كتاب الحجّ.

نعم، هناك موارد خاصّة يثبت فيها وجوبُ الأجزاء الباقية لِلْمُرَكَّب فِي الوقت فتجب وينتفي القضاء كوجوب سائر الأجزاء المقدورة من الصَّلاة بدليل قاعدة >الصَّلاة لا تسقط بحال< (فِي الإيقاع بسوء الاختيار)، كما فِي مثال >سكب الماء<؛ فَإِنَّهُ تجب الصَّلاةُ متيمماً، ويثبت الإجزاء عن القضاء بواسطة أدلّة بَدَلِيَّة التَّيَمُّم وهذا ما يرتبط بموارد خاصّة من الفقه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo