< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/19

بسم الله الرحمن الرحیم

كانَ الكلامُ فِي إِشْكَال المُحَقِّق الْعِرَاقِيّ & عَلَىٰ صاحب الكفاية أو الْمَشْهُور الَّذين أجروا أصالة البراءة عن وجوب الإعادة فِي موارد الشَّكّ فِي الإجزاء. وكان كلامه & متكوّناً من فرضين كان الفرض الأوّل منهما يتناول وفاء الفعل الاِضْطِرَارِيّ بالملاك وقد تقدّم الحديث عنه، كما أن الفرض الثَّانِي من كلامه يتناول ما إذا لم يكن الفعل الاِضْطِرَارِيّ وافياً بتمام الملاك ولكننا نحتمل فيه أَنَّ المقدار المُتَبَقَّىٰ من الملاك أو أصل الملاك فِي الوظيفة الاِخْتِيَارِيّة لا يمكن تداركها بعد الإتيان بالفعل الاِضْطِرَارِيّ. وقد أفاد & أن الأصل الْعَمَلِيّ فِي موارد الشَّكّ فيه هو الاشتغال دون البراءة؛ لأَنَّنَا نعلم بالملاك فِي الفعل الاِخْتِيَارِيّ وأَنَّهُ لا يحصل بِالاِضْطِرَارِيِّ، ونشك فِي إمكانه تحصيله بِالاِخْتِيَارِيّ بعدَهُ، وهذا شكّ فِي القدرة عَلَىٰ تحصيل الغرض الْمَوْلَوِيّ فَيَكُونُ بمثابة الشَّكّ فِي القدرة عَلَىٰ تحصيل المأمور به المُنَجّز وَالَّذِي هو مجرى أصالة الاشتغال.

وتوجه إلى كلامه ملاحظتان نذكرهما تباعاً:

     الملاحظة الأولى: هي أنَّ الشَّكّ فِي القدرة الَّذي أفاد بأَنَّهُ منجز ومجرى للاشتغال إِنَّمَا هو شكّ يرجع إلى فعل المُكَلَّف، لا إلى مُتَعَلَّق التَّكليف الْمَوْلَوِيّ، أي: لمّا يكون المأمور به أو مُتَعَلَّق الغرض اللُّزُومِيّ مَعْلُوماً، مثلما إذا علمنا أن المولى أوجب الصلاةَ متوضئاً أو أن غرضه اللُّزُومِيّ تعلّق بها، ولكن لا نعلم بأننا نقدر عَلَىٰ الإتيان بها أم لا؟ فهذا شكٌّ فِي القدرة عَلَىٰ الامتثال ومنجَّز عقلاً، ويجب عَلَىٰ المُكَلَّف أن يجرب قدرته ولا يمكنه الجلوس وإجراء البراءة. ولكن المقام لَيْسَ من هذا القبيل؛ لأَنَّ المُكَلَّف يعلم بأَنَّهُ قادر عَلَىٰ ذات الفعل الاِخْتِيَارِيّ سَوَاءٌ كَانَ مسبوقا بالفعل الاِضْطِرَارِيّ أم لم يكن، وأنه غير قادر عَلَىٰ الفعل الاِخْتِيَارِيّ غير المسبوق بالاِضْطِرَارِيّ؛ لأَنَّهُ قد أتى بالاِضْطِرَارِيّ سابقاً ويستحيل تغيير الحَدَث السَّابِق، ولٰكِنَّهُ لا يعلم أن الغرض الْمَوْلَوِيّ كامن فِي مطلق الفعل الاِخْتِيَارِيّ حتّى ذاك المسبوق بالاِضْطِرَارِيّ أو أَنَّهُ خاصّ بالفعل الاِخْتِيَارِيّ غير المسبوق بالاِضْطِرَارِيّ؟ وهذا شكّ فِي مُتَعَلَّق الأمر والغرض الْمَوْلَوِيّ، وليس شكّاً فِي القدرة عَلَىٰ الامتثال؛ لأَنَّ كلا من هذين الفعلين غير الآخر، وهذا الشَّكّ فِي تعلّق التَّكليفِ أو الغرض بهذا الفعل أو ذاك الفعل، وهو مثل سائر موارد الشَّكّ فِي التَّكليف، وكوننا نَشُكُّ فِي طول هذا الشَّكّ فِي قدرتنا عَلَىٰ تحصيل الغرض الْمَوْلَوِيّ لا ينفع؛ ؛ لأَنَّهُ ناشئ من الشَّكِّ التَّرديد فِي مُتَعَلَّق التَّكليفِ أو الغرض، بل هو مجرى لأصالة البراءة كسائر موارد الشَّكّ فِي مُتَعَلَّق التَّكليف أو الغرض الْمَوْلَوِيّ. وهذا مطلب واضح جِدّاً ونستغرب صدوره من مثله &.

     الملاحظة الثَّانية: هي أنَّ الغرض الْمَوْلَوِيّ يتنجَّز كالتكليف عَلَىٰ المكلفين فيما إذا كان لُزُومِيّاً ومعلوماً، أي: يعلم المُكَلَّف أن المولى لا يرضى بفواته. وفي المقام إذا كان الفعل الاِضْطِرَارِيّ مَأْمُوراً به فِي فرض عدم الوفاء بملاك الفعل الاِخْتِيَارِيّ. أي: يكون البِدار والإتيان بالفعل جائزاً شرعاً، فمعنى ذلك أن المولى لا يُلزمنا بتحصيل الملاك الفائت، وإلا (فيما إذا كان مفوتاً) كان عليه أن يلزمنا بتركه وأن يقيِّدَ الواجبَ الاِخْتِيَارِيّ بترك الفعل الاِخْتِيَارِيّ، ومعنى ذلك أَنَّنَا إن احتملنا جوازَ البِدار وتعلق الأمر بالفعل الاِضْطِرَارِيّ فَسَوْفَ نحتمل أن ملاك الفعل الاِخْتِيَارِيّ غير لُزُومِيّ.

إذن، فتعلّق الأمر به يساوق ترخيص الشَّارع فِي تفويت غرض الفعل الاِخْتِيَارِيّ، واحتماله يَسْتَلْزِم احتمال التَّرْخِيص المساوق لعدم إحراز كون الملاك لُزُومِيّاً، ولا يجب حفظ مثل هذا الملاك.

وبعبارة أخرى: إذا افترضنا أن الفعل الاِضْطِرَارِيَّ له ملاك يتدارك المقدارَ الفائت، نكون قد رجعنا إلى فرض الوفاء بتمام الملاك؛ لأَنَّ المقصود من الملاك أعمّ من الملاكات التداركية، وإذا كان المولى قد أمر بالفعل الاِضْطِرَارِيّ لرفع الحظر العَقْلِيّ عن التفويت (أي: يرخّص فِي تفويت الملاك المُتَبَقَّىٰ كما استظهره الْعِرَاقِيّ سابقاً من الأوامر الاِضْطِرَارِيّة) فلا يوجد للمولى ملاك لُزُومِيّ فائت.

إذن، مع احتمال جواز البِدار وكون الفعل الاِضْطِرَارِيّ مَأْمُوراً به، لا يبقى مَوْضُوع لأصالة الاشتغال بِالنِّسْبَةِ إلى تفويت الملاك المُتَبَقَّىٰ، حتّى يمكن الذهاب إلى الاحتياط بواسطة الشَّكّ فِي القدرة عَلَىٰ التحصيل.

طبعاً، بإمكان المُحَقِّق & أن يفترض أن الشَّكّ فِي الإجزاء فِي هَذَا الْفَرْضِ الثَّانِي أعمّ منه، بمعنى إمكانية اجتماعه مع العلم بعدم كون الفعل الاِضْطِرَارِيّ مَأْمُوراً به، بأن نحتمل أن الفعل الاِضْطِرَارِيّ وإن لم يكن مَأْمُوراً به يمنع عن إمكانية تحصيل الملاك الاِخْتِيَارِيّ. إذن، نشك فِي لزوم الإعادة وذلك لأَنَّنَا نحتمل فوات الملاك اللُّزُومِيّ الموجود فيه، ونعلم أن المولى لا يرضى بفواته فتثبت الاشتغال من باب الشَّكّ فِي القدرة عَلَىٰ تحصيل الغرض الْمَوْلَوِيّ اللُّزُومِيّ.

ولكن هذا البيان غير تامّ أيضاً؛ وذلك لأَنَّ معنى هذا الفرض هو أن المُكَلَّف يعلم بوجوب الصَّلاة الاِخْتِيَارِيّة عليه تعييناً لمن يرتفع عذره داخل الوقت، ولٰكِنَّهُ يشكّ فِي أن الواجب هل هو الصَّلاة الاِخْتِيَارِيّة المقيّدة بترك الصَّلاة الاِضْطِرَارِيّة أو أَنَّهُ مطلق الصَّلاة الاِخْتِيَارِيّة؟ إذ لعلّ الفعل الاِضْطِرَارِيّ لا يكون مفوتاً ويكون لغواً فقط، فَيَكُونُ مثل هذا الشَّكّ بِالنِّسْبَةِ إلى احتمال مَانِعِيَّة سبق الفعل الاِضْطِرَارِيّ مجرى للبراءة؛ لأَنَّهُ من الدَّوران بين الأَقَلّ والأكثر؛ لأَنَّ الشَّكّ فِي الشَّرْطِيَّة وَالْمَانِعِيَّة كالشك فِي الجزئية. أَمَّا بِالنِّسْبَةِ إلى امتثال الفعل الاِخْتِيَارِيّ فالواجب عليه هو الإتيان به، لكن لا من باب الشَّكّ فِي القدرة، بل من باب العلم الإِجْمَالِيّ بوجوبه، كسائر موارد الدَّوران بين الأَقَلّ والأكثر الارتباطيين، وكالشرط فِي الشَّرْطِيَّة أو الْمَانِعِيَّة حَيْث أَنَّ أصل الفعل معلوم الوجوب إما ضمن الأَقَلّ وإما ضمن الأكثر، وهذا العلم ينجزه، ومن الطَّبِيعِيّ توفر هذا العلم فيما إذا كان المُكَلَّف يعلم من البداية بارتفاع العذر أثناء الوقت، وأمّا إذا لم يكن عَالِماً به أو كان يتخيّل أن هذا العذر يبقى إلى آخر الوقت ولا يوجد لديه أمر اختياري، ثم ارتفع عذره بعد الإتيان بالفعل الاِضْطِرَارِيّ، فَسَوْفَ لا يكون هذا العلم الإِجْمَالِيّ مُنَجِّزاً، بل يتبدّل إلى شكّ بدوي، فتجري البراءة عن وجوب الفعل الاِخْتِيَارِيّ؛ لأَنَّ هناك فعلاً اختياريّاً غير مسبوق بالفعل الاِضْطِرَارِيّ وهو لو كان واجباً فلا يكون فعليّاً، بل يكون ساقطاً بالعجز، كما إذا ارتفع مَوْضُوع طرفٍ من أطراف التَّكليف المعلوم إجمالاً، مثلما إذا سكب الماء ثم حصل لديه علم بأَنَّهُ إما أن الماء المسكوب كان نجساً وإما أن هذا الماء الموجود نجس؛ إِذْ أَنَّ مثل هذا العلم الإِجْمَالِيّ لَيْسَ علماً بالتَّكليف الْفِعْلِيّ، بل هو شكّ فِي التَّكليف الْفِعْلِيّ وهو مجرى البراءة عِنْدَ الْجَمِيعِ.

وفي ضوء هذا تبين أن ما أفاده الْعِرَاقِيّ & فِي الفرض الثَّانِي (أي: الإجزاء من باب احتمال التفويت وعدم إمكان تدارك الملاك الاِخْتِيَارِيّ) لَيْسَ صحيحاً فِي جميع صوره وفروضه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo