< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/11/03

بسم الله الرحمن الرحیم

كانَ الكلام فِي إجزاء الأوامر الاضطرارية للأداء فِي داخل الوقت، مثل الَّذي يصلي بالتيمم فِي أوَّل الوقت لكونه معذوراً عن الوضوء، أو الَّذي يصلي عن جلوس لكونه عاجزاً عن القيام وأمثالهما، ثم يرتفع عذره داخل الوقت. فهل يُستفاد الإجزاءُ من الأمر الاضطراري فلا تجب عليه الإعادة، أم لا. وقد افترضنا أن إطلاق دليل الأمر الاضطراري يشمل المُكَلَّف المضطر فِي أوَّل الوقت. أي: أن الأمر الاضطراري لَيْسَ مقيَّداً ببقاء عذره إلى آخر الوقت، وإلا فإن ارتفع عذره يُكتشف بأن أمره لم يكن اضطرارياً وهو خارج عن محلّ البحث. كما أن المفروض فِي الأمر الاختياري هو أن يكون لدليله إطلاق فِي نفسه، ويشمل من كان قادراً عَلَىٰ الوضوء من أوَّل الزَّوال (الظهر) إلى المغرب. أي: أن كلا الإطلاقين (إطلاق الأمر الاختياري وكذلك إطلاق الأمر الاضطراري) تَامَّانِ فِي نفسيهما وبحسب لسان دليليهما. وحينئِذٍ يبحث عن أَنَّهُ هل يُستفاد الأمر الاختياري من إطلاق دليل الإجزاء الاضطراري وسقوط إطلاق الأمر أم لا؟!

تقدّم أن هناك وجوهاً ذُكرتْ للاستفادة من الإجزاء، وكان الوجه الأوّل منها المسلكُ الثُّبوتيّ وهو ما أفادته مدرسةُ الميرزا النائيني & من أَنَّهُ يستلزم من عدمِ الإجزاء وفعليّة الأمر الاختياري عَلَىٰ المُكَلَّف بعد ارتفاع عذره فِي الوقت التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر وهو محال.

وبعبارة أخرى: قد تقدّم سابقاً أن للوظيفة الاضطرارية أربع صور؛ فإِنَّهُ إما 1- وافٍ بتمام الملاك للوظيفة الاختيارية. 2- وإما وافٍ بالقسم الأكبر منه مع عدم لزوميّة المتبقّى. 3- وإما وافٍ بقسم منه مع لزوم المتبقى، ولٰكِن لا يمكن تحصيله وتداركه بعد الإتيان بالوظيفة الاضطرارية. 4- وإما يمكن تداركه.

وقد تقدّم آنِفاً أن الصور الثَّلاث الأولى تستلزم الإجزاء، أي: لا يوجد فيها التخييرُ بين الأَقَلّ والأكثر، بل التَّخْيِير بين المتباينين، بمعنى أَنَّهُ إذا كان البِدار إلى الوظيفة الاضطرارية فِي أوَّل الوقت جائزاً وهو المأمور به، يُكتشف أن الأمر الاختياري لا يصبح فعليّاً، والمكلَّف فِي الواقع مخيَّر بين أن يأتي بالصَّلاة الاضطرارية فِي أوَّل الوقت وبين الصَّلاة الاختيارية فِي آخر الوقت، وهذا تخيير بين المتباينين وهو معقول وممكن.

ولكن تستلزم الصُّورَةُ الرَّابعة عدمَ الإجزاء، ولازمها فعليةُ كلا الأَمْرَيْنِ: 1- الأمر الاضطراري الْمُوَسَّع وَالتَّخْيِيرِيّ بالوظيفة الاضطرارية فِي أوَّل الوقت مع 2- الأمر التَّعْيِينِيّ بالوظيفة والفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر أثناء الوقت. وهذا معناه التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر، أي: أن الاختياري واجب عَلَىٰ كل حال، ولكن بإمكانه أن يأتي بالاضطراري كما يمكنه تركه.

إذن، إن افتراض الصُّورَة الرَّابعة (وهي افتراض عدم الإجزاء) تستلزم التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر. وحينئِذٍ بناء عَلَىٰ عدم معقولية التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر، يقال: إن الصُّورَة الرَّابعة (الَّتي هي الصُّورَة الوحيدة المستلزمة لعدم الإجزاء) غير معقولة. إذن، فإن مقتضى فِعْلِيَّة الأمر الاضطراري فِي أوَّل الوقت (ولو بنحوٍ موسع وتخييري) هو صحَّة إحدى الصور الثَّلاث الأولى، وَالَّتِي كانت تستلزم كُلّهَا الإجزاءَ والتخييرَ بين المتباينين وسقوط الإعادة. وهذا هو البيان أو الدِّلاَلَة الْعَقْلِيَّة للأمر الاضطراري عَلَىٰ الإجزاء.

وقد أورد سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد & إشكالين عَلَىٰ هذا البيان:

الإشكال الأوّل: أن المولى لَيْسَ مجبراً ثبوتاً (بناء عَلَىٰ الصُّورَة الرَّابعة المستلزمة لعدم الإجزاء) بجعلِ أمر تخييري بين الأَقَلّ والأكثر حتّى يقال بأَنَّهُ غير معقول، بل فيما يحصل قسمٌ من الغرض من الواجب الاختياري مع الفعل الاضطراري، والقسم الآخر منه لُزُومِيّ وصالح للتدارك، يجعل أَمْرَيْنِ: أحدهما أمر تخييري بالجامع بين الفعل الاضطراري فِي أوَّل الوقت أو الفعل الاختياري بعد ارتفاع العذر، والآخر أمر تعييني بأحد فردي ذاك الجامع، أي: الفعل الاختياري لكل من يصبح قادراً عليه داخل الوقت. وهذان أَمْرَانِ مستقلان عن بعضهما وموضوعهما هو >كل مُكَلَّف قادر<. وقد ذكرنا فِي البحث عن التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر أن جعل مثل هذين الأَمْرَيْنِ معقول، ولا يَسْتَلْزِم منه مَحْذُور اللّغوِيَّة أو سقوط الأمر وعدم تحقّق الامتثال بالفعل الأكثر وَالَّذِي يُذكر فِي التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر. أي: أن الأمر بالجامع مع الأمر بفرد منه، لَيْسَ لغواً وليس غير معقول، بل كلاهما معقولان وحافظان لأغراض المولى وصالحان للمحركيّة؛ لأَنَّ الأمر بالجامع يحافظ عَلَىٰ ذاك القسم من الغرض الْمَوْلَوِيّ الَّذي هو مشترك وموجود فِي الجامع، والأمر التَّعْيِينِيّ بالفرد يحافظ عَلَىٰ قسم آخر من الغرض الموجود فِي خصوصِ ذاك الفرد. وفائدة هذين الأَمْرَيْنِ ومحركيتهما هي أَنَّهُ إذا لم يرد مُكَلَّفٌ (بأيّ سبب) أن يأتي بذاك الفرد الْمُعَيَّن، يمكنه أن يُحصِّل للمولى ذاك الجامع والغرض الموجود فيه، بحيث أَنَّهُ إذا لم يكن الأمر بالجامع متوفراً وكان الأمر قد تعلّق بذاك الفرد الْمُعَيَّن، كان يفوت ذاك القسم من الغرض أيضاً.

إذن، فليس الأمر بالجامع لغواً مع وجود أمر آخر بالفرد الْمُعَيَّن من ذاك الجامع، وإنَّ جعلَه معقولٌ وعقلائي. وإذا أراد المُكَلَّف أن يحصِّل كلا الغرضين وأن يطيع إطاعةً كاملة، بإمكانه أن يأتي بذاك الفرد الْمُعَيَّن حتّى يكون ممتثلاً للجامع وللفرد وآتياً بكلا الآمرين.

إذن، فليس لازم الصُّورَة الرَّابعة (= عدم الإجزاء) التَّخْيِير بين الأَقَلّ والأكثر حتّى يقال باستحالته وبإنكاره، وبالتَّالي تبقى إحدى تلك الصور الأخرى ثبوتاً، وَالَّتِي تقتضي كُلّهَا الإجزاء، وإنَّما الصُّورَة الرَّابعة وفرض عدم الإجزاء تلائم جعلَ الأَمْرَيْنِ بالنحو المتقدّم آنِفاً، كما أنَّها ممكنة وَعُقَلاَئِيَّة. وعليه، فلا يمكن نفي الصُّورَة الرَّابعة من منطلق فِعْلِيَّة الأمر الاضطراري فِي أوَّل الوقت حتّى يثبت الإجزاء ويكون إطلاق الأمر الاختياري ساقطاً، وإنَّما مقتضى القاعدة هو الأخذ بكلا الإطلاقين وإثبات وجود أَمْرَيْنِ بالنحو المتقدّم آنِفاً، وهو معقول؛ لأَنَّ إطلاقات أدلّة الأحكام حجّة ويجب الأخذ بها بقدر ما تكون صالحة للأخذ ومحتملة صحتها. فلم يَتُِمّ الوجه الثُّبوتيّ للإجزاء.

ثم يقول سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد &: إِن قيل بأن لازم هذا التَّصْوِير هو تعدّد الأمر وتعدُّد الجعل؛ لأَنَّ لازمه أن يكون لدينا جعلان وأمران، أحدهما وجوب الجامع بين الصلاتين الاضطرارية والاختيارية، وهذا هو الأمر بالجامع وهو تخييري وموسع. والآخر أمر تعييني بخصوص الصَّلاة الاختيارية فِي آخر الوقت، وَالَّذِي هو فرد من ذاك الجامع لمن ارتفع عذره في الوقت، وَهَذَا خلف للفرض ولظاهر الأَدِلَّة؛ لأَنَّهُ لا يوجد لدينا فِي كل وقت من أوقات الصَّلاة إلاَّ فريضة واحدة.

ثم يقول &: الجواب عن هذا الإشكال هو أَنَّنَا عَلَىٰ أي حال نحتاج إلى تعدّد الجعل ووجود أَمْرَيْنِ فِي الأوامر الاضطرارية، أحدهما للمضطر والآخر للقادر عَلَىٰ الفعل الاختياري داخل الوقت، وإذا كان غرض المولى من الفعل الاختياري من الصُّورَة الرَّابعة، فلا بُدَّ له من أن يكون لديه جعلان، يمكن للمولى أن يجعلهما عَلَىٰ نحوين:

1- أحدهما أن يجعل الأمر الاضطراري بلحاظ الْمَوْضُوع عَلَىٰ من لا يرتفع عذره داخل الوقت. وأن يجعل الأمر الاختياري عَلَىٰ من يكون قادراً أثناء الوقت وإن لم يكن قادراً فِي قسم من الوقت ولذلك أتى بالفعل الاضطراري. وهذان جعلان يتمايزان عن بعضهما بلحاظ التعدّد وَالتَّغَايُر الموجود في موضوعهما.

2- والنحو الآخر من تعدّد الجعل هو أن يجعل المولى لكل مُكَلَّف قادر أَمْرَيْنِ:

الأوّل: أمر تخييري بالجامع بين الفعلين الاضطراري والاختياري.

الثَّانِي: وأمر تعييني بخصوص الفعل الاختياري. وهذان الأَمْرَانِ مُتَّحِدَانِ مَوْضُوعاً. أي: >كل مُكَلَّف قادر< مَوْضُوع لكليهما. وتعددهما إِنَّمَا هو بلحاظ مُتَعَلَّق الأمر (وهو الفعل المأمور به). إذن، فالمولى بحاجة إلى جعل أَمْرَيْنِ وتكليفين فِي موارد التكاليف الاضطرارية، ولا فرق من هذه الناحية بين النحوين من الجعل، ولا يحمل أيًّ منهما مؤونة (أي: جعلاً زائداً) عَلَىٰ المولى، حتّى يقال: إِنَّه خلف الفرض أو خلف لظاهر أدلّة التكاليف الاضطرارية.

إذن، يجب الأخذ بإطلاق كل من دليل الأمر الاختياري ودليل الأمر الاضطراري، وبالتَّالي يثبت أن الجعلين عَلَىٰ النَّحْو الثَّانِي، لا عَلَىٰ النَّحْو الأوّل، وَالنَّتِيجَة هي عدم الإجزاء.

وبعبارة أخرى: نحن بحاجة إلى جعلين، ونفهم تعدّد الجعل من الأوامر الاختيارية والأوامر الاضطرارية. والكلام إِنَّمَا هو فِي كيفيَّة هذين الجعلين، هل أنهما جعلان مستقلان عن بعضهما ومتباينان مع بعضهما بلحاظ الْمَوْضُوع، أو أنهما جعلان متباينان مع بعضهما بِلِحَاظِ الْمُتَعَلَّقِ؟ ومقتضى التَّمسُّك بإطلاق دليلي الأمر الاضطراري فِي حال الاضطرار والاختياري بعد ارتفاع العذر داخل الوقت، هو تعين النَّوْع الثَّانِي الَّذي ينسجم مع فِعْلِيَّة كل من الأَمْرَيْنِ. إذن، فلا وجه لرفع اليد عن أحد هذين الإطلاقين وتقييده، وعليه فينهار ذاك البرهان الثُّبوتيّ للإجزاء.

نحن لنا عَلَىٰ إِشْكَال سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد & هذا، ملاحظة إثباتيّة لا ثبوتيّة. أي: أن رأيه من الناحية الثُّبوتيّة فنيّ جِدّاً وصحيح ويُهشِّمُ أساسَ ذاك البرهان الثُّبوتيّ. ولكن من الناحية الإثباتيّة لقائل أن يقول: النَّحْو الثَّانِي من تعدّد الأمر وإن كان معقولاً وَعُقَلاَئِيّاً ولٰكِنَّهُ مخالف لظاهر أدلّة المركبات الارتباطية كُلّهَا، أو بعضها كالصَّلاة؛ فإِنَّ من الممكن أن يُستظهر فقهيّاً أن ترابط الأجزاء وشروط تلك المركبات ثابتة بِالنِّسْبَةِ إلى عالم الغرض وتحقّق الامتثال أيضاً، وليس أَنَّ قسماً من غرض الْمُرَكَّب الاِرْتِبَاطِيّ يتحقّق مستقلاًّ حيث يكون كل المركب مَأْمُوراً به والمكلَّف قادراً عليه وقد تركه عامداً، والحال أن لازم تعدّد الأمر عَلَىٰ النَّحْو الثَّانِي، استقلاليةُ قسم من الغرض الموجود فِي الجامع، بحيث يكون بإمكان المُكَلَّف أن يأتي به فقط ويترك القسم الآخر الموجود فِي الفرد الاختياري فِي آخر الوقت عامداً.

وَبِعِبَارَةٍ أُخْرَى: إِن من يترك الوظيفة الاختيارية مع فعليّة وجوبها فِي آخر الوقت عامداً مع القدرة عليها، يكون عاصياً لأصل الفريضة، لا أن يكون عاصياً لقسم منها، وفعله الاضطراري باطل وفاقد للأثر. وهذا لَيْسَ عَلَىٰ خلاف القول بالتخيير بين الأَقَلّ والأكثر وَالَّذِي هو أمر واحد، لأَنَّهُ إذا أتى المُكَلَّف بالفعل الاضطراري فقط، وترك عامداً الفعل الاختياري الَّذي هو الأَقَلّ فِي آخر الوقت، فَسَوْفَ لا يكون ممتثلاً أصلاً. أي: أنَّ الاضطراري الموجود ضمن الأكثر يكون صحيحاً ومحققاً للغرض مع الفعل الاختياري الَّذي بعده، ومعنى ذلك أَنَّهُ تَمَّ الحفاظ عَلَىٰ الترابط فِي الغرض من الفريضة.

وَالْحَاصِلُ أَنَّ الأمر التَّخْيِيرِيّ بين الأَقَلّ والأكثر إذا كان معقولاً فَسَوْفَ يحافظ عَلَى ارتباطية المركبات بلحاظ الغرض وتحقّق الامتثال والصحة، خلافاً لتعدُّد الأمر بالنحو الَّذي تصوّره هو سيدنا الأستاذ الشهيد &. وحينئِذٍ إذا ثبتت ارتباطية الغرض من الفريضة والمركبات الشَّرعيَّة فقهيّاً، وبعبارة أخرى لغويّة وبطلان الفعل الاضطراري لوحده بِالنِّسْبَةِ إلى من ترك عامداً الفعل الاختياري المتوجب عليه، فَسَوْفَ لا يرد إِشْكَال سَيِّدنَا الأُسْتَاذ الشَّهِيد & عَلَىٰ الميرزا &؛ لأَنَّ بإمكانه أن يدعي أن عدم الإجزاء يجب أن يكون بشكل يحتفظ به عَلَىٰ ارتباطية غرض المولى فِي المركبات الارتباطية وأن يكون الفعل الاضطراري لوحده باطلاً، وهذا مستحيل إلاَّ في فرض جعل أمر واحد تخييري بين الأَقَلّ والأكثر وهو مستحيل أيضاً.

إذن، فبناء عَلَىٰ عدم الإجزاء فإن الملائم مع الارتباطية والنُّكتة الفقهيّة المذكورة (إن ثبتت فقهيّاً) هو جعل أمر واحد تخييري بن الأَقَلّ والأكثر الَّذي هو مستحيل، وما هو معقول وممكن لا يتناسب مع تلك النُّكتة الإثباتية الفقهيّة فِي المركبات، ومن هنا فلا يتعقل فرض عدم الإجزاء مع فِعْلِيَّة كل من الأَمْرَيْنِ الاضطراري والاختياري داخل الوقت. وبالتَّالي تَتَعَيَّنُ صورة أخرى من تلك الصور الأربع الَّتي تستلزم ثلاثتها الإجزاء.

1610 كلمة

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo