< قائمة الدروس

بحث الأصول آيةالله السيد محمود الهاشمي‌الشاهرودي

32/10/27

بسم الله الرحمن الرحیم

كانَ الكلامُ في الإجزاء، فذكرنا خطوات أربع كمقدمة للدخول فِي صلب البحث عن الإجزاء وقد آن أوانه. وقلنا: إن المقصود من الإجزاء هو سقوط الإعادة والقضاء خارجَ الوقت. وقد ورد فِي كلمات بعض الأُصُولِيِّينَ أن البحث عن الإجزاء:

تارةً يقع فِي إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر نفسه، أي: الإتيان بالمأمور به الواقعي الاختياري عن سقوط ذاك الأمر نفسه بعد الامتثال، وكذلك الأمر الاضطراري بالتيمم أو الأمر الظاهري بِالنِّسْبَةِ إلى ذاك الأمر الاضطراري نفسه أو الظاهري.

وأخرى يقع البحث فِي الإتيان بالمأمور به عن أمر آخر. أي: الإتيان بالمأمور به الاضطراري عن أمر اختياري (كالصَّلاة متيمماً عن الصَّلاة متوضئاً)، والمأمور به الظاهري عن الواقعي (كالصَّلاة بالطهارة الاِسْتِصْحَابِيَّة عن الصَّلاة بالطهارة الواقعية)، ومن هنا قسموا البحث إلى ثلاثة أقسام. ولكننا ذكرنا أنَّ إجزاء الإتيان بالمأمور به عن أمر نفسه، أمر بديهي ولا يحتاج إلى بحث وجدال، وإن بحث فيه الأصحاب قائلين: حينما يأتي الإنسانُ بمُتَعَلَّق أمرٍ مّا ويمتثله بجميع الشُّرُوط والقيود عَلَىٰ وَجهِهِ (وقد ذكروا أن المقصود من >وجه< هو القيود والشروط دون قصد الوجه)، يكون قد أسقط الأمر عقلاً.

ثم وقع البحث فِي أن هذا السُّقوط من أي نوع هو؟ هل هو من باب العلّة والمعلول المصطلحين والامتثال علّة لِلسُّقُوطِ؟ أو أَنَّهُ بمعنى أخذ عدم الامتثال فِي مَوْضُوع الأمر بقاءً؟ أي: أَنْ يَكُونَ الامتثال رَافِعاً للأمر ومن باب تحقّق الهدف وغاية الأمر.

وهناك بحث آخر فِي أن سقوط الأمر هذا، هل هو من باب سقوط الفعليّة أو من سقوط فاعلية الأمر ومحرِّكيّته؟

وهذه البحوث التحليلية لا تحظى بأهمية بالغة، وإنَّما المُهِمّ هُوَ أَنَّ مِنَ المتسالَم عليه، بل من البديهي والمقطوع به أن الأمر يسقط وينتهي بامتثاله ولا تتوجه إلى المُكَلَّف مسؤوليّة زائدة بالإعادة أو القضاء. ولا نقاش بين العلماء فِي هذا الْمَوْضُوع حتّى يحتاج إلى جعله مَوْضُوعاً لبحث الإجزاء.

أجل، قد يُبحث فِي المقام عن تبديل الامتثال وَالَّذِي أسلفناه مفصَّلاً؛ وهو لاَ عَلاَقَةَ لَهُ ببحث الإجزاء، كما هو واضح.

إذن، الصَّحِيح جعل البحث عما يُذكر من >إجزاء الأمر الاضطراري عن الاختياري< أو >إجزاء الأمر الظاهري عن الواقعي<.

وقد أضاف البعض بحثاً آخر لا مكان لدراسته فِي المقام؛ لوضوح حكمه وبداهته، وهو البحث عن إجزاء المأمور به الاعتقادي عن الواقعي؛ إذ قد يَتَيَقَّنُ المُكَلَّفُ بأَنَّهُ عَلَىٰ وضوء فيصلي بذاك الوضوء، ثم يتبين له أَنَّهُ لم يكن عَلَىٰ وضوء. فهنا لا يوجد أمر اضطراري كما لا يوجد أمر ظاهري، بل هو من باب القطع، والقطع لَيْسَ لا حكماً ظَاهِرِيّاً ولا اِضْطِرَارِيّاً.

طبعاً إذا لم يكن لدليل الأمر الواقعي إطلاق لمن امتثل ذاك العمل مع القطع بصحته، فَسَوْفَ لا تجب الإعادة ولا القضاء عليه، ولٰكِنَّهُ بالدِّقَّة لَيْسَ من باب الإجزاء، بل هو من باب قصور دليل الأمر الواقعي وَالَّذِي لا يبت بصلة إلى بحث الإجزاء.

إذن، الصَّحِيحُ جعلُ عنوان >البحث هو إجزاء الأمر الثانوي الاِضْطِرَارِيِّ أو الظَّاهِرِيِّ عن الأمر الأَوَّلِيّ الاِخْتِيَارِيِّ أو الْوَاقِعِيِّ<. أي: الأمر الثانوي يُرَاد به الأمرُ الاِضْطِرَارِيّ والأمر الظَّاهِرِيّ.

طبعاً، سوف نقول فِي إجزاء الأمر الاضطراري بأَنَّ المفروض أن يكون الأمر الاضطراري فعليّاً، أي: أَنْ المُكَلَّف المعذور فِي أوَّل الوقت قد توجّه إليه الأمر بالصَّلاة متيمّماً حقيقةً، وأمّا إذا كان الأمر الاضطراري مشروطاً من البداية ببقاء عذر المُكَلَّف إلى آخر الوقت واستمراره فحينئذٍ إذا ارتفع العذر يكشف عن عدم توجّه الأمر الاضطراري إليه، فهذا خارج عن بحث إجزاء الأمر الاِضْطِرَارِيِّ.

وإذا كان الْمُكَلَّفُ شَاكّاً فِي بقاء عذره إلى آخر الوقت واستصحب بقاءَهُ، كان من مصاديق إجزاء الأمر الظَّاهِرِيِّ (أي: البحث الثَّانِي).

وَأَمَّا إذا كان قَاطِعاً ببقاء عذره إلى آخر الوقت ثُمَّ انكشف خلافه فهو لَيْسَ داخلا فِي شيء من البحثين.

ومن هنا يجب أن نفترض أصل تعلّق الأمر بالفعل الاِضْطِرَارِيّ وَالظَّاهِرِيّ فِعْلِيّاً، وحينئِذٍ يُبحث عن إجزائه عن الأمر الْوَاقِعِيِّ أو الاِخْتِيَارِيّ.

ثُمَّ إِنَّ للإجزاء ملاكين ونكتتين يجب أن نرى هل يُستفادُ ملاك واحدٌ منهما من الأمر الاِضْطِرَارِيّ أو الظَّاهِرِيّ أم لا؟ فإذا لم نستفد شيئاً منهما فَسَوْفَ لا يصحّ الإجزاء.

     الملاك الأوّل منهما: هو أن نستفيد من الأمر الثَّانِي (الأمر الاضطراري أو الظاهري) أن المأمور به الأولي كان هو الجامع منذ البداية، لا خصوص المأمور به الأَوَّلِيّ. أي: لم تكن الصَّلاة مع الوضوء بالخصوصِ مأموراً بها من البداية، بل الصَّلاة بالطهارة كانت مَأْمُوراً بها، والطهارة لها فردان: الطَّهَارَة المائية والطَّهَارَة الترابية أو الطَّهَارَة الواقعية والطهارة الظاهرية. ففي هذه الحالة يكون المأمور به الأَوَّلِيّ محقَّقاً ومأتياً به فِي طول جعل الأمر الثَّانَوِيّ واقعاً (أي: يتحقق مصداقه).

ومن الطَّبِيعِيّ أن استفادة هذه التوسعة والأمر بالجامع يحتاج إلى إثبات، يحاول بعض الوجوه فِي الإجزاء أن يستفيدها من دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ أو الظَّاهِرِيّ، كما سوف يأتي.

     الملاك الثَّانِي منهما: هو أن نستفيد من دليل الأمر الاِضْطِرَارِيّ أو الأمر الظَّاهِرِيّ أنَّ الغرض من المأمور به الأولي يحصل بالمأمور به الثانوي (أي: أن الإتيان بالوظيفة الاضطرارية أو الظاهرية يفي بتمام أو ببعض غرض الأمر الأولي). وحينئِذٍ يُتعقل الإجزاءُ لتحقّق الغرض ومصلحة الأمر، سَوَاءٌ كشف ذلك عن أن الأمر الأَوَّلِيّ أ]ضا بالجامع بينهما أم لا؛ لأَنَّ إحراز الإتيان بتمام الغرض المولويّ من أمره يكفي عقلاً لسقوط الأمر الأَوَّلِيّ وإطاعته.

إذن، بالالتفات إلى هذين الملاكين لإجزاء الأوامر الاضطرارية والأوامر الظاهرية ندخل إلى صميم البحث عن الإجزاء للأوامر الاِضْطِرَارِيَّة عن الاِخْتِيَارِيَّةِ وَالظَّاهِرِيَّةِ عن الواقعيّة.

 

القسم الأوّل

إجزاء الأمر الاِضْطِرَارِيّ

 

في طليعة هذا البحث نذكر مقدّمة ذكرها المُحَقِّق الخُراسانيّ أيضاً، وهي ترتبط بالملاك الثَّانِي للإجزاء (أي: تحقّق الغرض). ولندرس هذه المقدّمة تحت عنوان >الصور الثُّبوتيّة لتحقّق الغرض فِي المأمور به الاضطراري<.

يقول صاحب الكفاية: إن هذه الصور تنحصر عقلاً فِي أربع صور، وذلك بعد افتراض أن تعلّق الأمر بالفعل الاضطراري يكشف عن وجود الغرض، وإلا فكان الأمر به لغواً. والمقصود من الغرض هو مطلق الغرض الَّذي يمكنه أن يقوم مقام تمام الغرض المأمور به أو بعض منه، سَوَاءٌ كَانَ من سنخه أو من سنخ آخر، ومن هنا فلا يجدر أن تذكر مناقشات لفظية.

صور الغرض الأربع فِي الفعل الاختياري:

1- الصُّورَة الأولى: أَنْ يَكُونَ الفعل الاضطراري وافياً بتمام الغرض من الأمر الاختياري.

2- الصُّورَة الثَّانية: أَنْ يَكُونَ وافياً بأهم الغرض منه أو بأكثره، عَلَىٰ أَنْ لاَّ يَكُونَ المقدار المُتَبَقَّىٰ لُزُومِيّاً.

3- الصُّورَة الثَّالثة: أَنْ يَكُونَ وافياً بحِصَّةٍ منه وأن تكون الحِصَّة المتبقية لزوميّة، مِنْ دُونِ أن يكون تداركها وتحصيلها بعد العمل الاضطراري ممكناً، كالماء المالح الَّذي إن سقي به الزرعُ لن يجدي من بعده الماء الحلو.

4- الصُّورَة الرَّابعة: هي الصُّورَة الثَّالثة نفسها مع افتراض إمكانية تداركها. أي: أن يَتُِمّ تحصيل الصَّلاة مثلاً بالإتيان بالفعل الاختياري.

وينبغي الآنَ أن ندرس ثبوتاً النَّتِيجَة المترتّبة عَلَىٰ كل واحدة من الصور الأربع بِالنِّسْبَةِ إلى الآثار الأربعة المرتبطة بالإجزاء وهي: 1- الإجزاء. 2- جواز المبادرة إلى العمل (جواز البِدار) وضعاً، أي: صحته. 3- جواز البِدار تكليفاً. 4- جواز الإلقاء المتعمد فِي الاضطرار.

فيجب دراسة هذه الأحكام الأربعة ثبوتاً فِي كُلّ واحدة من تلك الصور الأربع:

     أَمَّا الصُّورَة الأولى: وهي ما إذا كان الفعل الثانوي أو الفعل الاضطراري شاملاً لتمام الغرض من الأمر الاِخْتِيَارِيّ، يترتب عليه ما يلي:

1)- لهذه الصُّورَة حكم الإجزاء؛ لأَنَّ تمام غرض المولى ومقصوده من ذاك الأمر قد تحقّق وتدارك فِي هذا الفعل، سَوَاءٌ كَانَ من سنخ واحد أم لم يكن؛ فهذا يكفي لسقوط الأمر الأولي وعدم وجود الإعادة.

2)- كما أن الحكم الثَّانِي (وهو جواز البِدار الوضعيّ وصحة العمل) واضح فِي المقام؛ لأنَّ الإجزاء يَسْتَلْزِمه.

3)- وكذلك الحكم الثَّالث (وهو جواز البِدار التَّكليفيّ) ثابت فِي هذه الصُّورَة؛ لأَنَّهُ لا تمايز لأغراض المولى.

4)- وأمّا الحكم الرَّابع (وهو جواز الإلقاء المتعمد فِي الاضطرار) فيجب أن نرى ماذا نستفيد من أدلّة الاضطرار؟ فإن استفدنا عدم جواز الإلقاء فِي الاضطرار، مثلاً بِأَنْ يجب حفظ الماء لأجل الوضوء. فمعنى ذلك أن وفاء الفعل الاضطراري بتمام الملاك إِنَّمَا هو الاضطرار غير المتعمد وَالَّذِي لا يكون بسوء الاختيار، وإن كان واجبه تلك الوظيفة الاضطرارية بعد الوقوع فِي الاضطرار بسوء الاختيار. ولكن إن استفدنا أن العمل الاضطراري يفي بالغرض حتّى إن كان الاضطرار بسوء الاختيار، فحينئذٍ يجوز الإيقاع فِي الاضطرار.

     وأَمَّا الصُّورَة الثَّانية: فهي كالصورة الأولى؛ لأَنَّ المفروض فيها أن المقدار المُتَبَقَّىٰ من الملاك لَيْسَ لُزُومِيّاً. إذن، فهاتان الصُّورَتَانِ ليستا متساويتين فِي الآثار والأحكام الأربعة.

     وأَمَّا الصُّورَة الثَّالثة: (أن يكون المقدار المُتَبَقَّىٰ من الغرض لُزُومِيّاً يريده المولى، ولكن لا يمكن تداركه وتحصيله بعد الإتيان بالفعل الاضطراري) فَإِنَّهَا:

1)- تحتوي عَلَىٰ الحكم الأوّل (وهو الإجزاء)، أي: تسقط الإعادة؛ لأَنَّ المفروض أنَّ الغرض المُتَبَقَّىٰ اللُّزُومِيّ لا يمكن تداركه، إذن فالإعادة لغو وسوف لا يمتلك أمراً.

2)- وأمّا الحكم الثَّانِي (وهو جواز البِدار وَضْعاً، أي: صحَّة الفعل الاضطراري فِي أوَّل الوقت) فهو ثابت فيما إذا كان الفعل الاضطراري فِي أوَّل الوقت يحتوي عَلَىٰ حصّة من الغرض، وأن لا يكون تحصيله مشروطاً باستمرار العذر إلى آخر الوقت؛ لأَنَّ هذا هو المفروض، وإلا فلا يوجد أمر اضطراري. إذن، يجوز وَضْعاً؛ لأَنَّ المفروض أَنَّهُ قد حصّل حصّة من الغرض، وفاتت الحِصَّة الأخرى، ولكن لا يجوز تكليفاً؛ فإِنَّهُ لا يجوز له أن يأتي بالصَّلاة الاضطرارية إن كان يعلم بارتفاع عذره داخل الوقت، وكان عليه أن ينتظر حتّى يحصّل تمام غرض المولى، ولكن لا يكون باطلاً لو جاء به، بل يكون صحيحاً؛ ؛ لأَنَّهُ محقِّق لمقدارٍ من الغرض ولا يمكن أَنْ يَكُونُ باطلاً؛ ؛ لأَنَّهُ إذا لم يحمل فِي طيّاته أية حصّة من حصص الغرض الْمَوْلَوِيّ لا يكون فعله مفوِّتاً، ومعنى ذلك أن حكم البِدار الوضعيّ وحكمه التَّكليفيّ متعاكسان ومتقابلان. أي: إذا كان البِدار صحيحاً وضعاً يحرم تكليفاً وإذا كان باطلاً وَضْعاً يجوز تكليفاً؛ لأَنَّهُ لا تفويت فيه.

وقد يُلاحظ هنا أَنَّهُ كيف يصحّ البِدار مع افتراض عدم الجواز أو الْحُرْمَة أو المبغوضيّة؛ لأَنَّ مبغوضية العبادة وحرمتها توجب بطلانها. إذن، لا تتعقل الصُّورَة الثَّالثة من جواز البِدار وَضْعاً وحرمته التكليفيّة، حيث لا يمكن الجمع بينهما.

لكن الجواب عنها ما ذُكر فِي بحث >التَّرَتُّب والضّدّ< ومواضع أخرى؛ فَإِنَّهُ لَيْسَ معنى هذا التفويت أن يكون الفعل الاضطراريّ نفسه مفوِّتاً، بل هو من باب التمانع والتَّضَادّ بين ملاكيهما. أي: يوجد تَضَادّ وتناف بين الغرض الموجود فِي الوظيفة الاضطراري وبين الغرض الموجود فِي الوظيفة الاِخْتِيَارِيَّة وأنهما لا يجتمعان خارجاً، بحيث إنْ تَحَقَّقَ أحدُهما امتنع تَحَقُّقُ الطَّرفُ الآخر، وقد ثبت فِي باب الضِّدَّيْن أنَّ أحد الضِّدَّيْن لَيْسَ سبباً لانعدام الضد الآخر، بل لا يمكنه أن يجتمع معه. أي: سوف يأتي فِي بحث الضد أن الضد لَيْسَ متوقّفاً عَلَىٰ عدم الآخر، وَإلاَّ يلزم الدّور، بل إن أحد الضِّدَّيْن ملازم مع فعل الآخر، ودائما يلزم من أحد الضِّدَّيْن عدمُ الآخر، لا أن يكون علّة للآخر، وإذا لم يكن علّة بل كان ملازماً لعدم الآخر، فَسَوْفَ لا يسري الحُبّ والبغض والحكم من أحد المتلازمين إلى ملازمه. فعلى سبيل المثال إن أتى المُكَلَّف بالصَّلاة الَّتي هي ضدّ لإزالة النَّجَاسَة من المسجد فِي وقت الإزالة، لا تكون صلاته مبغوضة، بل تكون صحيحة بِالرَّغْمِ من عصيانه لتركه إزالة النَّجَاسَة من المسجد. وكذلك الحال فيما نحن فيه، أي: إذا كان المُكَلَّف يعلم فِي تركه للصَّلاة الاختيارية أن عذره سيرتفع، يكون عاصياً ومفوِّتاً للغرض، ولكن الفعل الاضطراري المأتي به لَم يكن مبغوضاً، بل كان صحيحاً وقد تعلّق به الأمر الاضطراري أيضاً.

وهناك جوابان غير صحيحين ذُكرا للإجابة عن هذا الإشكال:

1- استحالة حرمة البِدار؛ لأَنَّهُ فِي طول صحَّة العمل الاضطراري، وإذا كان محرَّماً ترتفع الصّحّة، إذن فترتفع الْحُرْمَة أيضاً، وهذا >يلزم من وجوده عدمه< و>كل ما يلزم من وجوده عدمه محال<، وَبِالتَّالِي جعلُ هكذا حرمة أو مَبْغُوضِيَّة محال فِي نفسه.

ويرد عليه بأن تعلّق الْحُرْمَة والمبغوضية إِنَّمَا هو فِي عالم ذهن المولى ومعروضه هو الفعل الاضطراري الصَّحِيح، وما يَنْتَفِي فِي طول هذا الجعل أو الْمَبْغُوضِيَّة لَيْسَ هو هذا الجعل نفسه وَالْمَبْغُوضِيَّة ذاتها، بل تحقّق ذاك المبغوض فِي الخارج. أي: يصبح الوجود الخارجيّ للفعل الاضطراري الصَّحِيح ممتنعاً، والوجود الخارجيّ لَيْسَ مَعْرُوضاً ومتعلقاً حقيقيّاً للجعل أو الْمَبْغُوضِيَّة، وهذا واضح.

2- استحالة هكذا نهي وحرمة؛ لامتناع تَحَقُّق مُتَعَلَّقه خارجاً فِي طول تعلّق الْحُرْمَة والمبغوضية، وَالنَّهْي عن الفعل الممتنع محال ولغو.

ويرد عليه أن ما يمنع عنه باللَّغْوِيَّة إِنَّمَا هو جعل الحكم الَّذِي هو فعل اختياري للمولى، لا الْمَبْغُوضِيَّة الَّتي هي أمر تَكْوِينِيّ موجود في نفس المولى قهراً، وقد تقدّم منا أن الْمَحْبُوبِيَّة وَالْمَبْغُوضِيَّة تتعلّقانِ بالأمور غير الاِخْتِيَارِيَّة. أضف إلى ذلك أَنَّهُ إذا كان تعلّق النَّهْي يُسَبِّبُ امتناعَ الْمَنْهِيّ عَنْهُ عَلَىٰ المُكَلَّف، فإِنَّهُ يصب فِي صالح غرض المولى، فلا إِشْكَال فِي جعله الَّذي هو فعل اِخْتِيَارِيّ أيضاً.

إذن، فهذان الجوابان عن حرمة الْبِدَار غير تَامَّيْنِ والصحيح ما ذكرناه آنِفاً. بالإضافة إلى أَنَّهُ حتّى لو تعلقت مبغوضية البِدار وحرمته بالفعل الاختياري، لكن الصَّحِيح أَنَّهُ لا يمنع عن الصّحّة والجواز الوضعيّ لكونه غَيْرِيّاً، وسيأتي تفصيله فِي بحوث التَّرَتُّب.

4)- وأمّا الحكم الرَّابع وهو الإيقاع فِي الاضطرار، فلا يجوز فِي الصُّورَة الثَّالثة؛ لأَنَّهَا تفوِّت حصّةً من الغرض اللُّزُومِيّ.

     وأَمَّا الصُّورَة الرَّابعة (وهي أن يكون المقدار المُتَبَقَّىٰ صالحاً لِلتَّحْصِيلِ والتدارك عن طريق إعادة الصَّلاة): فهي فاقدة للحكم الأوّل الَّذي هو الإجزاء، كما أنَّها تفتقد الحكم الثَّانِي (وهو الجواز الوضعي لِلْبَدَارِ، أي: الصِّحَّة)، إذا كان المقصود من الصِّحَّةِ الإجزاءُ، وإلا فتحظى بالحكم الثَّانِي وذلك فيما إذا كان المقصود من الصِّحَّةِ أصل كونه مَأْمُوراً به أو متعلَّقاً للغرض فِي ضمن الأكثر، وكذلك تحظى بالجواز التَّكليفيّ للبِدار وكذلك جواز الإلقاء فِي الاضطرار وذلك فيما إذا عَلِم أَنَّهُ لا يبقى مضطراً إلى آخر الوقت وأن اضطراره سوف يرتفع.

والآن، بعد أن تبينت هذه الصور الأربع واتضح حكم كل واحدة منها فِي عَالَمِ الثُّبُوتِ، ننتقل إلى الجانب الأَسَاسِيّ من البحث وهو البحث الإِثْبَاتِيّ عَمَّا تقتضيه الأوامر الاِضْطِرَارِيَّةُ وأنه هل يمكن أن يستفاد منها (إذا ثبت جواز الْبِدَار وَفِعْلِيَّةُ الأمرِ بالفعل الاِضْطِرَارِيّ فِي أول الوقت) الإجزاءُ بالملاك الأَوَّل (أي: توسعة الأمر الأَوَّلِيّ) أو بالملاك الثَّانِي (أي: الوفاء بالملاك بنحو يوجِب الإجزاء) أم لا؟

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo