< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

41/05/12

بسم الله الرحمن الرحيم

كنا في صحيحة عمر بن حنظلة أو مصححته أو مقبولته وفي الإشكال الأول في دلالة الرواية علی الترجيح وهو أن الرواية واردة في القاضيين والقضاء فكيف يتعدی من هذا المورد الی الروايات وتعارض الروايات؟

هذا السؤال الأساسي في دلالة الرواية يحتاج الی عدة نقاط لتوضيح الحال فيه:

النقطة الأولی: ما هي العلاقة بين الحكم القضائي والحكم الفتوايي والحكم الولايي والرواية؟ هذا البحث عن الأبواب الأربعة بحث حساس ومهم في جميع الأبواب الفقهية ولابد من الالتفات اليه.

اجمالا من الاقوال التي مرت بنا أن الأخباريين لايبنون علی أن للفقيه حجية في فتواه أزيد علی حجية الراوي في روايته بل لاتختلف أبدا، فعندهم أن الرجوع الی الفقيه في فتواه في الحقيقة بما هو راوي وناقل وطبعا هذا اختلاف جوهري بين المسلك الأصولي والمسلك الأخباري.

هذا التساؤل عبارة عن منظومة الفقه علی المسلك الأخباري، أن الفتوی في الفقيه عبارة عن حجية نقل الراوي.

المسلك الاصولي في قبال المسلك الاخباري يدّعي أن حجية الفقيه غير حجية الراوي وناقل الرواية ويستدل بآيات وروايات مستفيضة منها:

وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [1]

«نفر» بمعنی النفور والاستنفار لأجل الرواية عن المعصوم.

لطيف مادة نفر يدل علی أن طلب مصدر الوحي ومصدر العلم الوحياني والروايات طلب علی نحو الفور لاعلي نحو التراخي، نفر يعني النفور والاستنفار وهذه نكتة لطيفة في الاية أن التعلم وجوب فوري ولايقبل المهلة باعتبار أن به الحفظ وبقاء الدين.

طبعا هنا عدة وجوبات الی أن يصل الی نقل الرواية عن المعصوم، مثل طبع كتاب الحديث أو نشر كتاب الحديث كلها في هذا المصب. هذا نوع من الثغر من الثغور الكبيرة في الدين. ترويج علم حديث النبي والعترة يتضمن واجبات كثيرة يعبر عنه بالنفر، فهذا واجب ومقام حجية معينة.

«لولا نفر من كل فرقة منهم طائفة ليتفقهوا في الدين» الغاية هنا التعليم والتفقه، فبعد الرواية يجيء دور التفقه، التفقه في اللغة هو التفهم أي تفهم مايروونه.

هذا ثغر ثاني يختلف عن المقام الأول وهو تحصيل الروايات وتجميع الروايات وأخذ الروايات. مثل ما فعله الميرزا النوري أو صاحب الوسائل أو صاحب البحار أو الطوسي أو الراوندي وابن طاووس وغيرهم من طبقات العلماء والرواة، ألّفوا في الرواية وكانوا يقومون بمسئولية في الثغر الأول فهذا هو المحط الأول، النقل والنشر والإحياء والمدارسة والحفظ وإبقاء علم حديث أهل البيت.

بعد ذلك يأتي دور التفقه و تفهم مايروونه، فالمقام الثاني غير المقام الأول، المقام الثاني فيه عدة شعب وفيه عدة واجبات كما ان المقام الأول أيضا له عدة شعب وعدة واجبات. المؤاخذة علی الأخباريين هي أنهم دمجوا بين المقامين بينما صريح هذه الاية الكريمة والآيات الكثيرة الأخرى أنهما مقامان وعمليتان ومحوران وركنان وإن كان يتلو بعضهم البعض ويترابط بعضهم البعض، لكنهما ليسا شيئا واحدا وماهية واحدة.

نظير ما هو موجود في سورة الجمعة أو سورة البقرة ﴿يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة﴾[2] التلاوة هي رواية الآية، بعد ذلك يأتي دور التعلم يعني الفهم.

وكذلك الآية الثالثة بلسان آخر في سورة آل عمران ﴿ونزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات﴾[3] ، هذه القسمة من الاية تنزيل وبعد ذلك يقول «وما يعلم تأويله..» يعني نفس القران الكريم يذكر أن للقرآن مقامین، مقام تنزيل الكتاب و مقام تأويل الكتاب. التأويل ليس اللفظ والسماع بل التأويل من عالم المعاني وعالم المعاني قناطه وأداته الفهم والعلم، العلم يعني الفكر بينما أداة التنزيل السماع والرواية والنقل، فإذاً هذان مقامان يختلفان عن بعضهما البعض ماهية وصناعة.

وأيضا أحاديث مستفيضة لدينا بل متواترة دالة علی أن دراية الحديث غير رواية الحديث مما يدل علی أن هذين مقامان وليسا مقاما واحدا. وأيضا حديث رسول الله صلي الله عليه وآله في خطبته في حجة الوداع: «نَضَّرَ اَللَّهُ عَبْداً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا ثُمَّ بَلَّغَهَا إِلَى مَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَرُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ غَيْرُ فَقِيهٍ وَ رُبَّ حَامِلِ فِقْهٍ إِلَى مَنْ هُوَ أَفْقَهُ مِنْهُ»[4] هذا الحديث يدل علی أن رعاية العلم ووعاية العلم غير سماع العلم، رواة العلم كثير ورعاته ووعاته قليل. فإذا هناك شأنان واضحان مختلفان بين رواية الحديث ودراية الحديث.

وأيضا هكذا هذا الحديث المبارك الذي نحن فيه عن ابن حنظلة؛ «روی حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا» النظر غير الروایة، النظر يعني التفكر والمعرفة يعني الاستنتاج بعد ذلك حكم بحكمنا، فالمعرفة شيء والنظر شيء آخر، فواضح فيه عمليتان مختلفتان.

نفس الواقع العملي الذي بنی عليه الأعلام كصاحب الحدائق علی غيرية الرواية والدراية، هل كتاب الحدائق مثل الوسائل؟ بل فيه نكات وقرائن الفهم زيادة علی كتاب الرواية وهلم جرا. فإذا عملية الاستنباط والفهم تختلف علميا عن عملية الرواية، فدعوی أنهما عملية واحدة غير صحيح.

ما مر أن هذا مستند الی فهم خاطئ لمعنی مدرسة النص ومدرسة الوحي وهذه الذهنية الی الان معشعشة حتی في ذهن الأصوليين مع أن الأصوليين المفروض أنهم ينكرون الأخباريين، لكنهم وقع فيه صراحة كبار منهم أو المتوسطون. أما النص فليس معناها اللفظ فقط بل النص يشمل جميع الوحي وكل طبقات معنی الوحي، لذلك الفقهاء علی خلاف الأخباريين يسندون المعاني الی الله ورسوله والأئمة عليهم السلام والصلوة ولو بحسب الظاهر مع أن الشارع لم يتلفظ بهذه الألفاظ وليس افتراء ولاكذبا بل هو مبني علی ما مر أن هذا كله وحي لأن الوحي لايقتصر علی اللفظ والتنزيل. من آمن بالتنزيل وكفر بالتأويل كفر بالقرآن، هذا ليس شعارا فقط بل منهاج وبرنامج علمي.

لذلك مدرسة النص يعني الوحي سواء اللفظ أو التنزيل أو تأويل التأويل الی مالانهاية لكن بشرط أن يكون الترامي بموازين وضوابط لا بالتشهي والأهواء، علی خلاف مدرسة الرأي. لذلك المدرسة الأصولية إذا تتشبث بالألفاظ تصير مدرسة إخبارية أما إذا مشت علی هذا الشعار بأن الفقاهة غير الرواية تسير علی طبق الموازين.

هذه الصلاحيات من أهل البيت عليهم السلام، القضاء والإفتاء أعطيت للراوي لابما هو راوي، «أما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها الی رواة حديثنا» هنا ليس الراوي بما هو راوي ولا الفقيه الذي لايستند الی الروايات وانما الفقيه الذي أولا مصدر علمه روايات الثقلين ثم بعد ذلك يغوص بفهمه، لذا الحوادث الواقعة جزئية من الجزئيات وقد تكون مستجدة، فارجعوا فيها الی رواة حديثنا، من يعرف ويلتفت الی النسبة بين الرواية الكلية والحادثة الجزئية الغامضة. لو كنا نجمد علی لفظ الرواية هذه الحالة الجزئية غير موجودة في لفظ الرواية. إذاً من الواضح هنا أن عملية التفقه والتفهم كلها نظر مثل «نظر في حلالنا وحرامنا» وعملية الفقاهة في الرواية. الربط بين الحوادث المستجدة وبين الرواية وعملية الاستنتاج، ضم الصغری الی الكبری، هذا هو الذي يريده الأصوليون. فالصحيح إذاً حجية الفقيه تختلف عن حجية الراوي. هذا الجعل الشرعي يختلف ماهية عن مجرد حجية الراوي.

لم يقل أحد في حجية الراوي أن ينظر في الحلال والحرام أو يعرف أحكام الأئمة عليهم السلام سيما معرفة الأحكام كما قالوا به في باب الاجتهاد والتقليد، لأنه لايكفي معرفة بعض الأحكام بل «عرف احكامنا» يعني جل وكثيرا من الأحكام، هذا منصب للفقاهة والفقيه لاللمجتهد فضلا عن أن يكون للراوي. بين الراوي والفقاهة مسافة طويلة حتی الاجتهاد في وسط المسافة لايكفي فيه.

نكات لطيفة استخرجها الاعلام من هذه الرواية وأمثالها من الروايات، «نظر في حلالنا وحرامنا» ليس المعنی نظر في بعض حرامنا وبعض حلالنا، لأن الفقه منظومة مترابطة فيعني أن عنده عارضة فقهية وتتبعا وإحاطة وهذه زيادة علی الإجتهاد فحتی المجتهد لايكفي لابد من الفقاهة المعتد بها.

موضوع:باب التعارض، صحيحة عمر بن حنظلة، العلاقة بين الحكم القضائي والحكم الفتوايي والحكم الولايي والرواية. النزاع بين الاخباريين والاصوليين في معنی مدرسة النص وحجية الفقيه

 

كثير من الاعلام الكبار في علم الأصول أو في الصناعات الأصولية لايمارسون الاستنباط والفروعات لذلك لايصلون الی مرتبة الفقاهة، مجتهدون لكن لايقال لهم فقيهون. إذاً حتی المقام الثاني فيه شعب وفيه فصول وفيه درجات. فقول الأخباريين في غير محله والفتوی غير الرواية. حقيقة الفتوی إخبار يُعمل فيه الفهم.

لايتخيل الأخباريون أن الفهم بمعنی الرأي، بل الفهم بمعنی الانفعال والإدراك لاالإنشاء، لكنه مجهر إدراك أقوی من الأذن لأن هذا المجهر يحاول أن يصل الی المعاني فحقيقة الفتوی تختلف وأذن بها أهل البيت لعلماء تلاميذهم ورواتهم. «تجلس في المجلس وتفتي» تفتي غير تروي. الی ماشاءالله هذا موجود في روايات أهل البيت. مثل رواية صحيحة أن تلميذ أبي حنيفة تورط في مسئلة ونزاع قضايي فما عنده استدلال فاستمهل المتنازعين في مسجد الكوفة وخرج من الباب الخلفي وجاء الی بيت محمد بن مسلم، فطرق الباب، قال محمد بن مسلم: لخصوص هذه الجزئية ليس عندنا رواية لكن فيه كبری كلية إن تطبقها علی هذه القضية تصير معلومة. هذه عملية الاستنباط والفتوی وليست عملية الرواية وليس تطبيقا ساذجا بل اتفاقا تطبيق صناعي يحتاج الی فهم مارسه محمد بن مسلم رحمة الله عليه في هذا المورد. حتی محمد بن ابي عمير قال حصلت علی الجواب.

فالمقصود إذًا باب الفتوی يختلف عن باب الرواية. عملية التفقه تختلف عن عملية الحفظ والسماع، السماع يعقبها إخبار الراوي. مر بنا ان المقام الأول أيضا له فصول وشعب والمقام الثاني وهو مقام الفقاهة أيضا له شعب، التفهم والنظر والمعرفة وتغليب المطالب ثم الاستنتاج وينذروا يعني يفتوا، اللطيف أن التعبير في الآية الكريمة «ينذروا» وليس يرووا لهم، فإذاً الصحيح أن مقام الفتياء فضلا عن مقام القضاء ليس رواية و العجيب أن الاخباريين يظنون أن مقام القضاء أيضا هو الرواية مع أنه تطبيق جزئي مثلا هذا ملك زيد، ملك زيد ماذا ربطه بالرواية الكلية؟ ملك زيد استنتاج شخصي وفردي في موارد النزاع وليست رواية.

طبعا البحث أوسع من هذا يعني في الفرق بين الفتوی يعني الفقاهة والرواية والسماع والقضاء للرد علی دعوی الأخباريين وليس شعارا هذا منهاج وبرنامج في طول المسار، كثيرا عندما يعجز بعضهم أمام بعضهم يتركز بنهجية الأخباريين فيقول النص ما موجود فيه والمراد منه لفظ النص والحال أن البناء ليس علی لفظ النص. زيارة الأربعين ليس فيها نص، أي نص تقصد؟ النص يعني الوحي سواء المعنی أو معنی المعنی. كله وحي. إذا يتشبث بلابدية اللفظ في النص فعلی الدين السلام، يصير مسلك الوهابية والحنابلة والظاهريين والاخباريين. هذا المنهج والروية صراحة روية خطرة حتی الأصوليين في معاركهم العلمية مع بعضهم البعض يتشبثون بلابدية اللفظ في النص. النص ليس بمعنی اللفظ.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo