الموضوع: باب التعارض، القول المختار في مقتضی القاعدة و أدلته، الدليل الثامن و قاعدة التعريض

سبق هذا الوجه وتوقفنا عنده وهو أن الحجية في الخبرين المتعارضين ليست أوحادية بل الحجية في كل الخبر تتركب من عدة حجج تنضم بعضها إلی البعض فتشكل الحجية المجموعية، فليست الحجية في الحقيقة حجية أوحادية بل هي حجية مجموعية مركبة من حجية الصدور و هي تتألف من أصل الكتاب و صحة الكتاب و صحة النسخة و صحة الطريق فهذه ثلاث حيثية و الدلالة تتشكل من أربع دلالات بالدقة ثم جهة الصدور ثم ملاحظة المضمون في نفسه يعني ذات المدلول بغض النظر عن وصف المدلولية و الدلالة، هذه جهة أخری ثم ملاحظة المعارضة ثم موافقة الكتاب و السنة الغير المخالف ففي الحقيقة تتصاعد جهات الحجية أو الحجج في نفس الخبر الواحد تتصاعد إلی جهات عديدة فليست هي بالحقيقة جهة واحدة أو ثلاث جهات كما قد يتخيل بل هي مركبة. نعم بينها جهات طولية.

علی هذا عند التعارض حصر التدافع بين الصدور دون بقية أجزاء الحجية، هذا نوع من التحكم لاسيما أن أصل التعارض قائمة علی التنافي و التدافع و التناقض فإذا عولج هذا التنافي بلحاظ الأجزاء الأخرى موضوعا يرتفع، سيما أنه في أجزاء الحجية الأخرى كثير من نظم و قواعد و ضوابط، الحجية لها ضوابط ففي التعارض بمجرد التعارض البدوي -طبعا التعارض المستحكم بالتصور المعين إلی أفق معين- فرض التساقط في غير محله و هذا مبني كأنما علی أن الحجج أو الخبر الواحد اوحادي الحجية، بل هو منظومة شبيه الأقراص كل قرص له أسنان تتركب بشكل ظريف و تترابط بشكل ظريف الان من ليس خبيرا في الساعة لايعرف ربطها مع أن لها ارتباطا و نوعا من الملائمة. من هذا القبيل كثير من الأمور في موارد عديدة جدا. أيضا هكذا الخبرين المتعارضين بالدقة فيهما مجموعة من الأجزاء إذا كان هناك فقيه حاذق و متضلع يلتفت إلی أن هذا الحديث في باب و جهة و حيثية معينة و الحديث الآخر في حيثية أخری و هذه أيضا نكتة أخری وشاهد آخر يدعم علی أنه مع التعارض ليس مقتضی القاعدة التساقط بل مقتضی القاعدة هو الفحص عن وجه الجمع بين هذين الأمارتين وعدم التفريط فيهما.

ما ورد من الوجه الأول من أن تعارض البينات في القضاء لايبنی علی التساقط بل عموما في باب القضاء هكذا بني بل حتی في غير باب القضاء في تعيين القيمة وغيرها، هذا ليس تعبدا إستثنائيا، بل هذا علی مقتضی القاعدة لنفس النكات التي مرت بنا.

نتعرض إلی قاعدة أخری هي من أدلة هذه القاعدة -الجمع مهما أمكن أولی من الطرح- طبعا قبل أن نذكر تلك القاعدة نعاود شرح هذا المدعی. قاعدة الجمع مهما أمكن أولی من الطرح منعكس في أذهان المتأخرين أنها تحكم في الجمع و تكلف و تبرع بل المراد بها كما مر مرارا هو نستطيع أن نعبر عنها هكذا عدم الخروج عن إطار المفاد الإجمالي للخبرين بالعمل بأحد محتملات أحد الخبرين مع وجود شاهد عليه ولو من خارج مع الأخذ بعين الاعتبار فمثل هذا القدر المتيقن هذا الشاهد يتوصل إليه في نهاية المطاف.

وجه آخر لقاعدة الجمع قاعدة أخری و هي قاعدة التعريض و الإلحان باللحن بالدلالة الخفية. البعض من تلاميذ الناييني و السيد اليزدي مؤسس مدرسة التفكيك في المشهد عنده رسالة أو كتاب في هذه القاعدة وهي يعبر عنها المعاريض أو التعريض.

ماذا فرق المعاريض عن باب الكنايات؟ باب التعاريض غير باب الكنايات. التعريض باب من أبواب الدلالات أوسع من الكنايات و أقسامها. الفرق الثاني، في الكناية المتكلم يعتمد علی كلمة يكني بها عن المراد خفية أو جلية أما في التعريض بالدقة لايعتمد المتكلم علی لفظة دالة. لايعتمد علی كلمة يكني بها أو يستعين بها مجازا، التعريض أشبه مايكون شمشمة المراد من بعيد، تلويح المراد من بعيد بحيث أن الطرف الآخر لايقدر أن يؤاخذ مستمسكا علی السامع حجة بأي كلمة.

أذكر لكم مثالا. في امرأة وجيهة الامام الباقر عليه السلام حضر عندها في العدة، فقال عليه السلام: أنا من تعرفين، محمد بن علی كذا كذا. قالت: يابن رسول الله أنت ممن يأخذ عنك العلم و كذا و تخطب إمرأة في عدتها؟ قال: أوقد فعلت؟ ما خطبتك. هو يعرض بنفسه شريفة صلوات الله عليه من دون أن يكني فضلا عن أن يصرح. ليس لفظا في البين دالا علی كناية عن خطبة. هذا يعبر عنه القرآن «لاجناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء» المرأة التي تكون في العدة التعريض جائز و التصريح حرام. التعريض لاتجيء بالإستعمال المجازي و لاالاستعمال الكنايي و لاالاستعمال الحقيقي. تلوح من بعيد شمشمة.

مثال آخر: إنسان جاء إلی الإمام عليه السلام و قال إن المديون لايعطيني ديني، قال: يوميا إذهب واجلس علی دكانه، نفس جلوس هذا في دكانه و يريه نفسه تعريض لالها كناية و لا لها استعمال، هذا تعريض يعني من بعيد يشير إلی المطلوب. أو في القرآن الكريم لفظة التعريض استعمل في القرآن الكريم. في المعتدة التعريض بالنكاح جائز و التصريح والكناية غير جائز. التعريض إشارة من بعيد مما يدل علی أنه نوع و قسم من أقسام الدلالة و الكلام و إلا لايفصل القرآن الكريم. في المعتدة البائن يفصل بين التعريض بها في النكاح و بين التصريح أو الكناية.

أطعموا القانع و المعتر هذا نوع من التعريض. المعتر لاتكلم معك لكن واضح جهة مجيئه و لسان الحال أبلغ من القال. فهذا نوع من التعريض. التعريض ليس فيه استعمال بل تلويح بالشيء من بعيد و لاريب أنه نوع من الدلالة. باب التعريض باب عظيم جدا. عادة أحد أسباب خفاء الوحي هو أن الوحي فيه دلالة دائما خفية من نمط التعريض أو أخفی. و لذا يعتمد علی القدرة العلمية في الموحی اليه من الأنبياء والاوصياء يعني الوحي عالم من الأحجية و الحذورة. حتی يمتحن الله به انبياءه و رسله بحسب مقاماتهم فباب التعريض باب عظيم.

مثلا قصة هابيل و قابيل «فبعث له غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال ياويلتي عجزت أن أكون مثل هذا الغراب» هذا يسمی التعريض هو وحي من الله إلی قابيل و لو كان القابيل عاصيا و جانيا لكن يرسل اليه رسالة فالوحي يشمل التعريض فالتعريض إذاً باب واسع جدا.

غالبا اهل المعنی ينبهون الطرف الاخر بالتعريض، إذا كان عنده قابلية يفهم و إذا ما عنده قابلية هو شأنه. هذا يسمون التعريض لأن التعريض فيه أسلوب تربوي أعظم بكثيرمن التصريح بل أعظم من الكناية، إذا قالوا الكناية أبلغ من التصريح فالتعريض أبلغ من الكناية. لأن التعريض فيه تعرض بالشيء بهدوء والملاطفة بدون التشنط وبدون الإشمئزاز، لذا من أعظم آليات الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي يستخدمها الوحي الإلهي و يستخدمها أنبياء الله و أهل المعنی هو عبارة عن التعريض من بعيد. مثلا واحد يشوف واحدا علی معصية يتنحنح.

التعريض ليس كلها خفي بل فيه أخفی فأخفی. فالمقصود باب التعريض باب كبير جدا، علم تأويل الأحاديث و التعبير و تعبير الرؤيا يعتمد علی علم التعريض بشيء كثير حتی الإستخارة بالقرآن الكريم أو غيرها. حتی في اليقظة علی كل باب واسع جدا.

أيها الفقيه و المفسر والمتكلم الذي تری تعارض التنافي بين الدلالة التصورية و الاستعمالية و التفهيمية أو الجدية، رويدا و لاتستعجل و لاتقل هذا تعارض، لعل ما وصلت اليك الدلالات الخفية و قد هذا نوع من الدلالات الخفية بأسلوب التعريض الخفية، عمدا يلقي اليك التعارض لكي تتنبه أو تلتفت مثل كأنما جرعة منبهة. تلتفت إلی الدلالات الخفية أان العدو لاتصطادها وأنت الولي تصطادها. فنفس التعارض منبه. فربما يعبرون عنه بقاعدة الدلالة الخفية هذا التعريض دلالة لفظية لايمكن تجاوزها في علوم اللِغة ظاهرة لفظية اقر بها علماء الادب ظاهرة لفظية لايمكن التجاوز عنها لترتيب الآثار عليها، هذه القاعدة قد يعبر عنها بتعبير ثالث قاعدة اللحن و الفحوی و دليل الخطاب في الكتب الأصولية القديمة يعنونون عنها بهذا العنوان. بحثوها في الكتب الأصولية القديمة أكثر من الان. سواء كتاب القوانين أو الفصول أو الوافية يعبرون عنها دليل الخطاب. بالإلتزام أو الأولوية أو شيء آخر. لحن الكلام و فحوی الخطاب يعبرون عنها. طبعا إختلف الاصوليون في هذه الدلالة دلالة التعريض دلالة لحن الكلام و فحوی الكلام أسماء عديدة.

اختلف الاصوليون و البلاغيون فيما بينهم في أن هذه الدلالة هل هي دلالة لفظية أو عقلية أو ممزوجة؟ تستطيع أن تقول صناعي. المظفر رحمه الله في أصول الفقه بربما أقل من صفحة أو صفحتين تعرض إلی هذا البحث. هذا البحث يحتاجه الفقيه و المفسر و الباحث في علم الاخلاق من النظرة الوحيانية و العلوم الدينية أشد إحتياج.

هذه الدلالة يرتبط بقاعدة الجمع مهما أمكن. هذه الدلالة لأنها خفية و الكثير يأنسون بالمراتب الأولی من السباحة في الدليل أما المراتب التي فيها غوص و عمق غير مانوسين بها، يقولون هذا تكلف و تحكم و تبرع. بل هي خفية علی كثير من الأذهان، الاذهان الصناعية لاعموم الناس. لانها تحتاج إلی الغوص و العمق. فلذلك البعض يسمونها بالدلالة العقلية التحليلية. هذا إسم آخر لدلالة التعريض. بعضهم سماهم قاعدة التلويح و الإبهام عن المقصود. يعني يأتي به لكن بشكل مبهم وملفوف. فقط إطلع عليه ذوي النباهة. بعضهم يعبرون عنه ايهام عن المقصود. تسمية أخری عن هذه القاعدة المشهورة في القدماء قد يعبر عنها بدلالة الرمز أو الترميز أو الايماء و الإشارة. الحروف المقطعة قد تكون من هذا. المظفر في أصول الفقه عبر عنها بدلالة الايماء و الإشارة و الاقتضاء. ثلاثة أسماء عنونها المظفر في أصول الفقه و ان كان بينها فارق، ثلاث عناوين دلالة الايماء ودلالة الإشارة ودلالة الاقتضاء.

هذا بنية أساسية في علم أصول الفقه و التفسير المفسر الذي لايفهم هذه المباحث ليس مفسرا و الان نسيا منسيا.

إن شاءالله ندخل فيها مفصلا أدلتها و شواهدها و ماذا رابطتها بقاعدة الجمع مهما أمكن أولی من الطرح.