< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الأصول

40/07/20

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: التعارض و التعادل و التراجیح، نقاط تمیهیدیة لمبحث التعارض

التمهید الثاني: الخلافان بین المتقدمین و المتأخري الأعصار

الخلاف الواحد: تعمیم التعارض إلی موارد التوفیق العرفي عند المتقدمین

کان الکلام في جملة من التمهیدات لبحث التعارض و النقطة التي انتهینا الیها هي أن بین المتقدمین و المتأخري الأعصار ظاهرة الإختلاف في أن المتقدمین یدرجون مطلق التنافي حتی البدوي القابل للتوفیق العرفي، في التعارض حتی الشیخ الصدوق في موارد عدیدة من العام والخاص یدرجها في التعارض حتی الشیخ الطوسي في التهذیبین، مع أن هذا من التوفیق العرفی. العام والخاص تخصیص و التنافي بین العام و الخاص تنافٍ بدوي واضح و له توفیق عرفی واضح، مع ذلک في جملة من الموارد الصدوق بل حتی الشیخ الطوسی یبنیان علی أنه یخیر بین العمل بالتخصیص أو العمل بعلاج التعارض. فإذاً هذا فارق کبیر بین أن المتأخري الأعصار یحصرون نظام التعارض الوارد في الأدلة في التعارض المستقر و یقسمون التنافي إلی التنافي البدوي و إلی التنافي المستقر.

هذه ظاهرة موجودة في التعارض في الإختلاف بین المتقدمین وا لمتاخرین. من ثم بحث التزاحم و الورود والحکومة وإنقلاب النسبة و بحوث الأصول العملیة فیما بینها و رتب الأدلة أو رتب الأدلة‌ الإجتهادیة فیما بینها و غیرها، عند متأخري الأعصار مندرجة کلها في التوفیق العرفي، بینما المتقدمین یدرجونها في التعارض. فأنواع کثیرة من التوفیق العرفي -التي بنی علیها المتأخري الأعصار علی أنها لیست من التعارض المستقر الذي حکمه العلاج و التعبد الخاص- یدرجه المتقدمون في التعارض. فهذه ظاهرة خلاف واضحة کبیرة بین المتقدمین والمتاخرین.

الخلاف الثاني: قاعدة «الجمع مهما أمکن أولی من الطرح»

ظاهرة اختلاف أخری بین المتقدمین والمتأخرین، هي أن المتقدمین یبنون علی قاعدة‌ « الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» و هذه القاعدة مهمة و حساسة ومتینة و سنبین متانتها علی خلاف المتأخري الأعصار.

«الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» مهما یعني بلغ ما بلغ، یعني الجمع بالتوفیق لاغیر العرفي و التاویلي المحض و الإحتمالي و سیأتي بیان هذه القاعدة المهمة جدًا و متانتها و متانة ما بنی علیه المتقدمون، بینما المتاخرون ما یبنون علیه و یعتبرونها من الجمع التبرعي و التکلف و هلم جرا هذا خلاف کبیر موجود بین المتقدمین و المتأخرین.

إثارة سؤال: هل المبنیین عند القدماء متناقض أم لا؟

قد یثار سؤال: إن هذا المبنی کأنما مناقض للمبنی الأول عند المتقدمین بإعتبار أن المتقدمین عندهم کثیر من موارد التنافي الإبتدائي البدوي الذي یسهل فیه التوفیق العرفي یدرجونه في التعارض بینما في جانب آخر، حتی في التعارض المستقر الموجود عند المتأخرین عندهم قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح. کیف یمکن؟ کأن فیه التنافي، بین الإفراط و الإفراط. بین أنهم یدرجون مطلق التنافي في التعارض و بین أن عندهم قاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح و هذه القاعدة تعني غیر التعارض.

کیف یمکن إفراط في نفی التعارض و افراط في إدراج التعارض؟ إذاً العام و الخاص یقولون انه التعارض من جانب و من جانب آخر «الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» تعني لیس بالتعارض. کیف یثبتون التعارض و ینفون التعارض؟ هذا تناقض.

سنبین أنها لیست بتناقض بل مبنی متین. لکن إجمالا هناک فرق بین المتقدمین والمتأخرین في هذه القاعدة « الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» بخلاف المتأخري الأعصار، یقولون هذه القاعدة تبرعي و تکلف بلاشاهد و بلادلیل.

نعم، في بدو الأمر کانما تناقض في مبنی المتقدمین لکن سنبین في النقاط التالیة أنه متین و لیس تناقضا عند المتقدمین.

النقطة التمهیدیة الرابعة: العلاج الموضوعي و العلاج المحمولي

نقطة أخری تمهیدیة و هي مهمة حساسة: التعارض فيه علاج محمولي و هناک علاج موضوعي. المحمولي اسمه فیه یعني مع وجود موضوع التعارض تُعالَج المحمول یعني الحجیة أو الحکم الذي کشف عنه الدلیل مثلا أو الحکم الفقهی الواقعي. فإما علاج محمولي بترجیح مضمونه بحسب صفات طریقه و سنده و المرجحات السندیة أو المرجحات الدلالیة أو المرجحات المضمونیة. هذا الذي ورد في الروایات العلاجیة للتعارض و یعبر عنه بالعلاج المحمولي مع بقاء التعارض علی ماهو علیه.

هناک العلاج الموضوعي یعني هناک علاج معیَّن یکتشفه الفقیه المجتهد المستنبط و ینتفي معه التعارض موضوعاً یعني بالتوفیق العرفي أو غیره من أنواع التوفیق المستدل علیه فیرتفع موضوع التعارض.

فاذاً في التعارض علاج محمولي و علاج موضوعي العلاج الموضوعي هو التوفیق العرفي أو غیر العرفي یعني التوفیق المدلل علیه بالدلائل و الشواهد بخلاف العلاج المحمولي.

الجواب عن السؤال المتقدم

هذه النقطة إذا نلتفت إلیها نلتفت للجواب علی الإعتراض علی القدماء بالتناقض في مبناهم. التناقض هکذا: من جهة یدرجون کل موارد التنافي حتی التنافي البدوي في التعارض و من جهة یبنون علی قاعدة واسعة جدا بنفي التعارض «الجمع مهما أمکن أولی من الطرح» و الجواب هو أن الجمع مهما أمکن علاج موضوعي و لیس علاجا محمولیا. من جهة یدرجون کلها في التعارض یعني بدواً وابتداءاً و یعالجونه بنفي موضوع التعارض و لایجعلونها من التعارض المستقر لمّا یعالجونه بقاعدة الجمع مهما أمکن أولی من الطرح.

قاعدة الجمع في زعم المتقدمین -وهو الصحیح- علاج موضوعي و توفیق موضوعي فإذا صار جمعا فإذاً أکثر التعارض هم یدرجونه في التعارض الغیر المستقر لافي التعارض المستقر. و هذا بإعتراف المتأخري الأعصار کل جمع بین الدلیلین المتنافیین يسبب ان التعارض و التنافي بینهما لایکون مستقراً، إذاً لم یتناقض المتقدمون في مبنییهم بأنهم من جهة یدرجون کل التنافیات في التعارض و من جهة یفرطون في قاعدة الجمع مهما امکن اولی من الطرح، یعني نفي التعارض و نفي موضوع التعارض بل لیس تناقضا یعني لم یدرجوه في المستقر و لم یدرجوه في العلاج المحمولی.

نعم بعضهم کالصدوق و الشیخ الطوسي في بعض الموارد کأنما یعالجونه بالعلاج المحمولي، لکن هذا قلّما یرتکبه و اکثر ما یرتکبون هو العلاج الموضوعي و لو بقاعدة الجمع مهما أمکن أو بعلاجات موضوعیة أخری سنتعرض بذکرها. هذه نقطة أخری مهمة حساسة جدا. إن العلاج بین التعارض هناک علاج موضوعي و هناک علاج محمولي.

النقطة التمهیدیة الخامسة: العلاج الموضوعي مقدم رتبتاً علی العلاج المحمولي

أیضا لابد أن نلتفت إلی نقطة أخری مرتبطة بهذه النقطة: أن العلاج الموضوعي لاریب أنه مقدم علی العلاج المحمولي لأن العلاج موضوعي و الموضوع مقدم رتبتا علی المحمول فمع وجود العلاج الموضوعي أصلا موضوع التعارض ینتفي فلاتصل النوبة إلی العلاج في المحمول الذي هو الروایات العلاجیة للترجیح و العلاجات الأخرى ذکرتها الروایات العلاجیة. مع أنا سنذکر أن الروایات العلاجیة واحد بالمأة أو نصف من واحد بالمأة في صدد العلاج المحمولي، یعني تسعة و تسعین بالمأة من الروایات العلاجیة في صدد العلاج الموضوعی و تعرض لها المتقدمون یعني طبقات علماء الإمامیة إلی زمن المیرزا القمي إلی العلاج الموضوعي بینما هذه بعد مدرسة الوحید البهبهاني و المتأخري هذا العصر أهملوا بحث العلاج الموضوعي و الروایات الواردة فیه تماماً في مباحث الأصول و أکثرا إشتغلوا علی العلاج المحمولي مع أن العلاج الموضوعي مقدم رتبتا و ورودا علی العلاج المحمولي.

النسبة بین العالج الموضوعي مع العلاج المحمولي مثل تقدم الأدلة الإجتهادیة علی الدلیل الأصل العملي و الأصل العملي لایثار إلیه مع الدلیل الاجتهادي لکن مع الأسف انتشر. مرارا و کرارا نقلنا عن المحقق العراقي -و لو هذا کشعار من المحقق العراقی لکن کعمل في الأصول هو الاخر رحمة الله علیه لم یبتعد عن منهج أعلام القرن الأخیر- الذي یتمسک بکثرة الأصول العملیة ‌في الإجتهاد و الإستنباط هذا عنده عجز فی الإجتهاد. إنتهی کلامه و صحیح و دقیق و متین و إن کان هو عملا و في الفقه أکثر الأصول العملیة‌. عنده شرح علی تبصرة المتعلمین کله أصول عملیة لکن مع ذلک کلامه کشعار منطقي. التمسک بکثرة الأدلة الإجتهادیة مقدم رتبتا علی التمسک بالأدلة الأصول العملیة. أیضا الحال کذلک بالنسبة إلی العلاج الموضوعي و العلاج المحمولي في التعارض.

بالصراحة - وما فیها إفراط وإجحاف بحق السید الخوئي رحمه الله- السید الخوئي کثیرا ما یتمسک بالعلاج المحمولي و العلاج الموضوعی شغل صاحب الجواهر و شغل کاشف اللثام و صاحب الریاض إجمالا و الشیخ جعفر کاشف الغطاء و صاحب المستمسک لکن العلاج المحمولي یکثر من السید الخوئي رحمه الله. نسبیا تؤثر السید محسن الحکیم باستاذه الآغاضیاءالدین العراقي و إن کان جواهري المشي.

فأکثر الفقهاء ذی الباء والعارض الفقهیة عندهم علاج موضوعي و قلما یتوصلون بالعلاج المحمولي لأن العلاج المحمولي مثل الأصول العملیة و آخر الدواء بلاشک، لأن منطقیا و رتبتا العلاج الموضوعي مقدم علی العلاج المحمولي و حقیقتا العلاج المحمولي کالأصول العملیة. هذه نقطة مهمة‌ و مسیریة و أصیلة في باب التعارض کانما النقاط السابقة کلها تمهید لهذه النقطة کما مر بنا ان تقریبا مأتین روایة یذکرها المجلسي في البحار في الجزء الثاني أعقد فیه الروایات و أحوال الروایات و تعارض الروایات و سننتعرض إلیها إجمالا قریب مأتین روایة ذکر المجلسی في العلاج الموضوعي و عشرین روایة باللتیا و التي واردة في العلاج المحمولي و المتأخرون إعتمدوا علی هذه الروایات و مع الأسف ما إعتنوا بروایات العلاج الموضوعي کثیرا. کذلک إذا تلاحظون الأبواب التي أعقدها الحر العاملی في بحث شئون الروایات -لیس بابا واحدا عدة أبواب في مجلد القضاء- أیضا إنما ذکر العلاج الموضوعي أضعافا من الروایات الواردة في العلاج المحمولي و النسبة قریب عشرین في المأتین ان لم یکن أکثر. فعشرین في المأتین لیس واحدا بالمأة بل نصف واحد بالمأة. سنبین شواهدها ان شاءالله.

هذا هو سبب مبنی السید الخوئي مع إحترام عظیم لمبانی السید الخوئي الأخری، مبنی السید الخوئي یرید الترکیز علی الطریق و السند و هو مبنی الأخباریین. انظروا. همّ الأخباریون هو ان الأخبار کلها صادرة عن المعصومین، مع أنه لیست غصة الصدور بل غصة الدرایة. حدیث تدریه خیر من ألف حدیث ترویه . تدریه یعني عندک فقاهة و فهم و لذلک مسلک المشهور مسلک العلاج الموضوعي بینما التمسک بالعلاج المحمولي غالبا یرتبط بالطریق و حجیة الصدور و هلم جرا. ففرق شاسع بین المنهجین و هذا دلیل علی أن مبنی المشهور مبنی الفقاهة و الإستنباط بینما أن مسلک السید الخوئي رحمه الله مع أنه أصولي کبیر لکنه أقرب من المحدثین لاکل مبانیه بل هذا المبنی.

یعني الترابط المنظومي بین الروایات لایرکز علیه السید الخوئي بینما المجتهدین کصاحب الجواهر العنتر في صناعة الفقهیة یرکز علی المضمون. لانها شيء واحد و مضمون واحد طرق متعددة هذه الإنضمام الذي مر بنا یعني الحجیة. کیف تنضم الحجیة مع بعضها البعض؟ بالمضمون لابالطریق. کیف یصیر تواترا؟ بالمضمون الواحد إما لفظا أو معنا أو إجمالا. فالترابط بالمضمون یعني الفقاهة والفهم لا بالطریق و الراوی عن الراوی.

فدائما المباني التي ترکز علی المضمون نهج فقاهة ‌وإجتهاد و أقرب من نهج الأصولي. لذلک جملة‌من کبار الأخباریین هم الأصولیین لانهم یرکزون علی المضمون و الأصول، بینما الترکیز علی الطریق و لاغیر، إن تم تم و ما تم لم یتم کل شيء هذه روایة ولیست بدرایة. شواهد کثیرة علی أن أی النهجین أمتن و أقوی.

النقطة التمهیدیة السادسة:

النقطة الأخرى المهمة: أن هذا العلاج الموضوعي علی مراتب و درجات أو أقلا التوفیق علی درجات، العرفي و الغیر العرفي فکیف نستقرء هذا المبحث؟ کیف أن العلاج المحمولي علی درجات و مراتب؟ هل المرجحات مراتب أو في عرض بعضها البعض؟ ما یثار في العلاج المحمولي یثار في العلاج الموضوعي و هو أهم بکثیر. هذا بحث حساس و ان شاءالله نتعرض إلیه في الجلسة اللاحقة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo