< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

41/10/10

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: - المسألة الثامنة من النوع الرابع ( الرشوة ) - المكاسب المحرمة.

كنّا في صدد استعراض ما استخلصناه من نتائج في مبحث الرشوة، ومرَّ أنه من النتائج التي استخلصت مما مرَّ في بحث الرشوة قاعدة السحت فهي لها صلة بما نحن فهي، وهذه القاعدة في نفسها هي قاعدة خطيرة أهم من باب الرشوة، حيث لا تختص بباب الرشوة، فهي قاعدة مهمة في كل أبواب المعاملات، فحرمة السحت كما مر يمكن أن نعبر عنها بأنها الحرمة النابعة من حق المشرّع وليست الحرمة النابعة من حق المالك أو المالكية - المتعاقدين - وهذه نكتة مهمة في ماهية العقد وماهية العقد مرت بنا أمس ومرت أيضاً في أبواب عديدة أنه هناك في العقود المعاملية حق الله وهو غير حق الناس، وليس الأمر فقط منوط بحق الناس بل بحق الله تعالى، وهذا ليس فقط في باب المعاملات المالية وهو قاعدة السحت من هذا اللحاظ، فإنَّ قاعدة السحت قاعدة مرتبطة بالمعاملات والمعاوضات المالية، بل أعم فإنه في كل معاملة كما مرَّ أنَّ الحكم السياسي والسلطة السياسية والسلطة القضائية لا يمكن كتنظير ديني الدين يقول لا يوجد حق الله وإنما يوجد فقط حق الناس محضاً فإن هذا لا يمكن بل هناك حق الله، والآن يوجد جدل في أنَّ حق الله هو الأصل وحق الناس فرع أو انهما في عرض واحد فهذا بحث آخر، ولكن بالتالي حق الله لابد منه في السلطة القضائية أو السلطة السياسية أو في أي باب من العقود ولا يختص بالمعاملات، وهذا ليس تنظيراً فضفاضاً بل هو داخل في اعماق يوميات البحوث القانونية والفقهية، فإذاً السحت بالدقة هو حرمة ناشئة من حق الله في المعاملات المالية، وليست ناشئة من حق الناس في المعاملات المالية، والحرمة التي تنشأ من حق الناس تأتي في بحث الغصب، طبعاً حق الناس أيضاً يرجع إلى حق الله، باعتبار أنَّ الله تعالى أمر بمراعاة حق الناس، نعم حق الناس هو بمعنى حق الله لأنَّ الله تعالى أمر برعاية حق الناس، ولكن المراد من حق الله في مقابل حق الناس في الأبواب الفقهية العديدة يعني ما تمحّض في حق الله وليس فيه لوناً من حقوق الناس، اجتمعا في موضوع واحد وفي معاملة واحدة جنبة من هذا الموضوع حق اله المحض وجنبة منه هي حق الناس، فالمقصود أنه حينما يقال حق الله وحق الناس ليس المراد بذلك أنَّ حق الناس ليس في حق الله، وإنما المراد من حق الله في مقابل حق الناس يعني حق الله متمحض فيه وليس فيه شائبة حق الناس.

فبالتالي إذاً حق الله في مقابل حق الناس هو بهذا المعنى، والسحت هو قاعدة موضوعها ناشئ من المعاملة المالية بلحاظ حق الله وليس حق الناس، فإذاً حرمة الغصب تختلف عن السحت، وأيضاً وجوب الوفاء بالعقد يعبر عنه الفقهاء بأنه حق حقوقي متعاقدين، فعليك أن تفي بالتزامك، وهذا ليس حق الله وإنما هو حق الناس لأن الطرف الآخر لو أقالك فليس عليك التزام في أيّ عقد من العقود إلا عقداً جعله الشارع ليس مخولاً للطرفين مثل النكاح، فإن النكاح لم يخول الله عزّ وجل الطرفين في الفسخ، فإنَّ النكح في العقد الدائم لم يخول الله عزَّ وجل الطرفين في الفسخ ولو تقايلا، مع أنه التزام ولكن جعل له طرق خاص وهو الطلاق فإن الطلاق هو فسخ النكاح أما التقايل يعني رضا الطرفين بالفسخ لم يجعله الله عزَّ وجل، ولذلك يقولون عن النكاح من قديم الأيام في البحث الفقهي والقانوني حتى عند المسيحين وحتى عند أتباع الديانات السماوية الأخرى أنَّ النكاح هو عقد ناموسي، يعني فيه جبنة تعبّد أو توقيف بهذا المعنى، وليس مجعولاً من حقوق الناس، فوجوب الوفاء كل طرف للآخر هو حق الناس، حق وضعي وتكليفي ولكنه حق الناس، ومخالفته فيها حرمة ولكنها حرمة نابعة من حق الناس في البيع والاجارة والصلح والعقود الأخرى فالغصب أو نكث الالتزام بالعهد هو حق الناس وفيه حرمة تكليفية ووضعية ولكنه ليس يرتبط بالسحت، السحت حرمة تكليفية ترتبط بحق الله في المعاملات المالية، هذه هي قاعدة السحت، ولذلك في بحث الرشوة إذا دققنا لماذا تكون الرشوة سحت؟ لأنَّ مواطن تحريم الرشوة هو أنه تراضي بين الطرفين، يعني حق الناس فقد يكون هذا الراشي قابل بأن يعطى هذا المرتشي ولكن الشارع حرمها، فتحريمها من قبل الشارع هو حق الله وليس حق الناس، ولذا الفقيه في مباحث المعاملات المحرمة يجب أن يفرّق بين حق الله وحق الناس، الحرمة سواء كانت وضعية أو تكليفية الناشئة من حق الله هذه ليست منوطة بالرضا وبين الحرمة الوضعية أو التكليفية الناشئة من حق الناس فتلك منوطة بالناس فإنَّ رضي الطرف فبها وإلا فتصير حرمة، ( لا يحل مال امرئ مسلم إلا بطيبة نفس منه ) يعني حق الناس، الآن إذا كان هذا المال مال ولكنه نجس فيكون حراماً ولا يحل بطيبة نفس المالك لأنه هنا يوجد حق الله لأن النجاسة لا يمكن تناولها، لأن حرمة تناول أو الأكل من المتنجسات وبعض الأمور كالميتة والخمر أو أي شيء آخر، ففي الخمر صحيح أنه له حق الاختصاص وربما تكون له مالية كما لو استعمل في الأدوية أو غير ذلك ولكن حرمة أكله أو شربه ليست منوطة بحق الناس وإنما منوطة بحق الله عزّ وجل.

إذاً أنواع من الحرمة على موضوع واحد ولكن بعضها حق الناس وعضها حق الله وحق الله ليس منوطاً برضا الناس، وطبعاً الفقيه والباحث في أبواب المعاملات يهمه أن يميز بين أن يكون الحكم حق الله أو هو حق الناس والثمرة هنا واضحة لأنه إذا حق الناس فهو منوط برضا الناس أما إذا كان حق الله فهو منوط برضا الله عزّ وجل، فلاحظوا هنا الآن في عمومات باب المعاملات ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ هذه لست مرتبطة بحق الناس ولو كان يوجد جدل علمي عند الفقهاء والمفسّرين أنه هنا ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ﴾ ما هو المراد بذلك فهل المراد هو المعاملات الفاسدة التي أفسدها الشارع فهنا يكون حق الله، أما إذا فسّرناها بأنه لا تأكلوا النهب فهنا يكون حق الناس، ومرَّ بنا أنَّ الصحيح هو أنَّ الآية الكريمة تعم الاثنين معاً ولا تختص بواحد منهما، إذاً بالتالي الآية الكريمة إذا لم تكن مختصة بحق اله عز وجل فهي شاملة لحق الله وحق الناس، لاحظ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ فإنها وجوب الوفاء بالعقد يعني هي مرتبطة بحق الناس لأن أوفوا بالعقود والعقد يعني ربطه والربط هو التزام بين الملتزَم له والملتزِم يقالب الالتزام من الطرف الآخر وترابط الالتزامين يمسى عقداً أو ربطاً، فـ ﴿ أوفوا بالعقود ﴾ في الحقيقة الأصل فيه يعني حق الناس، أما ﴿ أحلَّ الله البيع ﴾ فهذا حق الله عزَّ وجل ولا ربط له لبح الناس رضي الناس أو لم يرضوا فالبيع صحيح - وكلامنا في حق الله في مقابل حق الناس حق اله غير الناشئ من حق الناس -، فإنَّ ﴿ أحل الله البيع ﴾ مرتبط بحق الله، وأيضاً ﴿ وحرّم الربا ﴾ مرتبط بحق الله ليس بحق الناس، لأني ذكرت لكم أنه ربما بعض الأعلام صارت عنده غفلة أنه يمكن تخريج تحليل الربويات لا من جهة العقود وإنما من جهة تراضي الطرفين ولكن نقول إنه ليس له ربط بتراضي الطرفين إذ هو ليس بحق الناس، فالمقصود هو هذا المطلوب وهو أنه إذاً تشخيص الحكم سواء كان وجوباً أو حرمة وأنه من حق الله أو من حق الناس أمر مهم، لاحظ قوله تعالى ﴿ لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم ﴾ فهنا أنيط برضا الطرفين، فهو حق الناس، فإجمالاً هذا المقدار كاف من قاعدة السحت وإن كانت هي قاعدة مهمة غير مختصة بالرشوة وإنما تأتي في أبواب عديدة من المعاملات، إذاً عنوان السحت صحيح أن أصله لغوي ولكنه اصطلاح شرعي في هذا المطلب، وطبعاً هذه زاوية من زوايا البحث، هذا مطلب.

وهناك مطلب آخر مرَّ بنا من النتائج السابقة في الرشوة: - وهو أنَّ الهدية التي تعطى باللغة العصرية للمسؤولين ذوي المسؤولية العامة وبالتعبير التقليدي القديم يعبرون عنها بالهدية للولاة فالهدية التي تعطى للولاة حكم الشارع بأنها غلول، هذه الهدايا التي تعطى سواء كانت المسؤولية مسؤولية قضائية أو تنفيذية ومر بنا أن الرشوة تحريمها في باب السلطة القضائية الشارع فيها شديد وبعبارة عصرية أن تنزيه السلة القضائية عن الفساد المالي الشرع متشدد فيها أشد من السلطة التنفيذية، وتشدد الشارع في تنزيه السلطة التشريعية او قل الفتوائية عن الفساد المالي أشد من السلطة التنفيذية، فأوّل شيء القضائية ثم التشريعية ثم التنفيذية، وهذه نكات من المهم ترجمتها بالقوالب العصرية ولنأخذ على عهدتنا دوماً هذه البحوث أن نجد قوالبا العصرية، فحسب الأدلة التي مرت بنا أنَّ تشدد الشارع في باب السلطة القضائية أشد منه في السلطات الأخرى ثم تأتي السلطة التشريعية ثم تأتي السلطة التنفيذية ثم تأتي المسؤوليات العامة الأخرى، وهذا أحد المناشئ الذي سبَّب أنَّ الحرمة عند المتأخرين أو غيرهم أو طبقات من الفقهاء خصّت بالسلطة القضائية ولكن الأمر ليس بصحيح فإنها ليس مختصة بالسلطة القضائية وإنما هي تعم مطلق المسؤولين غير جائزة بالنسبة إلى المسؤول الآخذ أما بالنسبة إلى المعطي ففيه تفصيل وهذا بحث آخر، فالهم أنَّ الهدية للمسؤولين سواء كانت السلطة القضائية أو السلطة التشريعية أو السلطة التنفيذية ما هو حكمها، وإذا كان يوجد كلام في الهدايا فماذا عن غير الهدايا؟!، يعني كأن يأتي مسؤول ويتعاقد على صفقة لأجل الدولة أو لأجل الوزارة أو لأجل الشعب مع طرف أجنبي مثلاً استيراد أدوات كهرباء أو شراء أسلحة لوزارة الدفاع فهو يتعاقد قبل هذا أنه أوقع الصفقة مع الشرة من البلد الأجنبي الفلاني لا من البلد الفلاني الآخر مقابل أجرة، هذه العملية إذا كانت فيها هدية فهذه الهدية لا يملكها المسؤول وإنما تكون ملكاً لبيت المال وهذا هو الصحيح وهو ما ذهب إليه المشهور، فالهدية للمسؤولين ولو كان مخولاً الهية للمناصب العامة لا يتخيل أنها ملكاً له وإنما هي ملكاً للمنصب أي أنها ترجع إلى بيت المال، وهذا بحثناه سابقاً، فضلاً عن الجعل الذي يجعل بتعاقد وتراضي وتوافق من هذا المسؤول مع الطرف الأجنبي في معاملة مالية تحت ذريعة أنه أيضاً تاجر وعنده شركات وهذا بحثناه مفصلاً ولا نحتاج إلى ذكر الأدلة أيضاً، والحال أن قيمته ورصيده صارت من بي المال، فضلاً عن هذا الجعل لا يملكه، وما أكثر وقوع هذه الأمور، فلاحظ هنا الشارع لم يعبّر عن هذا بأنه سحت، وإنما عبر بقاعدة فقهية أخرى، فالتحليل الفقهي الصناعي يجب على الباحث أن يفهمه من النصوص، فإنَّ النصوص عملاقة، فهنا عبّر عنه الشارع بأنه غلول، أي غلّ من بيت المال، ولم يعبر عنه بأنه سحت، لماذا عبّر عنه بأنه غلول ولم يعبّر عنه أنه سحت؟ هنا لابد أن نلتفت إلى النكتة الصناعية، فهو عبَّر عنه بأنه غلول لأنَّه هنا ليست الحرمة حق الله كما لو كانت رباً أو قماراً وإنما الصفقة كانت صحيحة ، فهي كأن كانت شراء أسلحة أو شراء معدات كهربائية أو زراعية أو صناعية أو غير ذلك فالمعاملة ليست فها حرمة من نوع حق الله وإنما فيها حرمة من جهة تعاقد الطرفين، لأنَّ هذا ليس لك سلطة عليه بما أنك زيد بن أرقم وإنما هذا بلحاظ المنصب فطرف التعاقد هو المنصب، فإذاً أخذت ما هو للمنصب فقد سرقت من بيت المال، وقد عبر عن ذلك الشرع بالغلول يعني أنها سرقة خفية من بيت المال، وهي خيانة لبيت المال، فقاعدة الغلول غير قاعدة السحت فلاحظ كيف هو تعبير دقيق وقالب دقيق يختف عن السحت، وقد تقع الرشوة غلولاً وقد تقع الرشوة سحتاً، ولذلك مرَّ بنا فيما سبق كنتائج أن الرشوة مدرك ومنشأ حرمتها قد تكون عدة مناطات وليس على سبيل الجمع بل حتى على سبيل جامعة الخلو، وهذا مبحث ابتلائي، وهو لا يختص بالسلطة العامة، وإنما مرَّ بنا أنه يشمل حتى المتولّين على الأوقاف، والبحث طويل.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo