< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

41/03/04

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع:قاعدة تبييض الأموال _ النوع الثالث ( بيع ما لا منعة فيه ) المكاسب المحرمة.

كان أصل البحث في التعاوض على ما لا منعة له ولكن بمناسبة هذا البحث استدل بأحد الأدلة وهي قاعدة ( لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل )، وهذه القاعدة أهم حتى من مبحث التعاوض على ما لا منفعة له، فدخلنا في قاعدة أحد مصاديق وصور وأنواع الأكل بالباطل والتعامل بالأموال الحرام أو ما يعرف في العصر الحديث بتبييض الأموال أو غسيل الأموال، وهذا المبحث مهم جداً وله صور واقسام وأنواع مرت بنا، لأنه يدخل بحث المضاربة ويدخل في بحث التصرف في أموال اليتيم ومال القصّر أو التصرف في المال العام بحوث كثيرة مرت بنا، ووصلنا في جملة من هذه الأقسام والصور إلى ما ورد في الأدلة من الاتجار بمال اليتيم وقد قرأنا أكثر الروايات ولو بقيت روايات أخرى سنقرؤها.

وقبل أن نواصل نريد أن نبين هذه النكتة الصناعية المهمة:- في موارد روايات الاتجار بمال اليتيم وردت روايات مستفيضة متى بها وحتى في باب الزكاة هي أيضاً مفتى بها مفادها أنَّ هذا الذي يتاجر بمال اليتيم إن ربح فكل الربح لليتيم أو للزكاة أو قل للخمس وإن خسر فهو ضامن لأصل مال اليتيم او أصل مال الزكاة أو أصل مال الخمس، ( إن ربح فلليتيم وإن توى المال فهو ضامن )، وحاول والأعلام أن يبينوا أن مفاد الروايات هل هو تعبد خاص أو هو على القاعدة ، وفي ذلك ثمرة عظيمة سنبينها، فإن كان تعبّداً خاصاً فيلتزم به في مال اليتيم والزكاة والخمس وهلم جرا، وإن كان حتى بناء على التعبد الخاص قد مر أنه قد ستظهر أن كل مال عام أو مال خاص أذن فيه الشرع هو وليّه بسبب قصور اليتيم وليس له ولي أو أن نه بسبب أن المال العام في الأصل ولايته بيد الشارع أي مورد يأذن فيه الشرع هذا من باب الحسبة والاحسان فإن ربح في التجارة فلذلك المال الذي وليه الشارع وإن خسر فهو ضامن ، حتى لو بنينا على أنَّ هذه الروايات خاص وهي تعبّد خاص وليست على مقتضى القاعدة وغير ذلك مع ذلك نستطيع التعميم وهذا بحث ابتلائي في أبواب عديدة أن المال الذي وليه الشرع سواء ككان مال خاص أو مال عام وليه الشرع الشارع في الاتجار بذلك المال ولو من غاصب أو غير غاصب يأذن فيما إذا كان هناك في البين ربح والبرح يكون للمال العام أو الخاص والشارع يُضمِّن العامل إن تلف ذلك المال سواء كان خاصاً أو عاماً في كل مورد كان ولي المال الخاص أو المال العام هو الشارع فحتى في المال الخاص إذا كان وليه الشارع يأذن حسبةً واحساناً وهذه قاعدة ، فإنه حتى بناءً على كون هذه الروايات تعبد خاص نخرج بهذه القاعدة المفيدة جداً، ولكن إذا استطعنا أن نحلل هذا النص بأنه ليس تعبداً خاصاً فقط يرسم منه قاعدة جديدة وإنما هو قاعد قديمة بين الأبواب وهو من القواعد الأولية في الأبواب إذا استطعنا أن نخرج بتحليل وافٍ عنها سيكون هذا البحث أحد الحلول العجيبة بديلاً عن الربا وهذا نعتمده وسنبينه، ولو ربما ذكرته في البدائل الجديدة عن الربا، وقد كنت بانياً عليه قديماً ولكن لعلي نسيت أن ألحقه في هذا الكتيب الذي ذكرت فيه أجوبة عن أسئلة حول بدائل عن الربا.

كيف بأن هذه قاعدة أولية على مقتضى القواعد في الأبواب؟

مرّ بنا هذا البحث أن عامل المضاربة هو وكيل والكيل ليس من الضروري أن يتقاضى أجراً، يعني عدم اشترط اجرة لا معينة ولا نسبية من الربح للوكيل - أي عامل المضاربة - هذا ليس من موجبات بطلان المضاربة، فإذا ربح فكل الربح لليتيم او ملا الزكاة أو لمال الخمس ولا مانع من ذلك، وهذا بالنسبة إلى الوكيل فيه ثمرة لأن الوكيل إما أن يكون عنده مال آخر وتعاضد المالين يوجب قوة الاستثمار، أو أنه لا يوجد عنده مال آخر ولكن حينما يعمل بهذا المال يجد لنفسه اعتبار مالي في السوق وهذ الاعتبار المالي في عالم السوق والتجارة له قيمة لأنه فيما يستطيع أن يعزل هذا المال جانباً ويعمل هو باعتباره هذا، فعدم تقاضي عامل المضاربة أو الوكيل الذي نعبر عنه لا مانع منه - لا أجرة نسبية ولا أجرة معية -، ولماذا الضمان فهل هو ضمان ؟ كلا ، وإنما توجد تخريجة ذكرها متأخري العصار للضمان في ابواب عديدة كباب الاجارة وباب الوكالة وباب العارية فهو بحث كلّي سيّال، وما هو تخريج الضمان فإنَّ هذا ليس قرضاً إذ لو كن قرضاً لكان الربح لعامل المضاربة لأنه اقترض المال والحال أنا نريد أن نبقي الربح لصاحب المال وليس لعامل المضاربة المتّجر بالمال فإذاً لا يمكن ان نفسره من باب القرض، فإذاً من اين الضمان ؟ قالوا إن الضمان له وجه وهو وجه صناعي وهو أن الإذن من صاحب المال- إذا كان صاحب المال ليس بقاصر - أو ولي المال - إذا كان صاحب المال قاصرا كما في الطفل اليتيم - أو من له الإذن في المال لا يأذن في التجارة أو المضاربة إلا التي فيها عدم خسارة أما إذا كان في المضاربة أو التجارة خسارة فهو لا يأذن بذلك فيمكن تقييد الإذن بالمضاربة والتجارة بما فيه عدم واقعي للخسارة - وليس ظاهرياً - يأذن صاحب المال أو من له الإذن في التجارات التي ليس فيها خسارة فإذا ما أقدم على تجارة ولو من دون تقصير ولو من دون علمه ولكن في القواع فيها خسارة فهو يس مأذوناً فيكون ضامناً لأنه أتلف مال الغير من دون إذن.

فلاحظ كيف هذه الفذكلة وهذه التخريجة البديعة جداً فمن جهة أثبتانا الضمان عند التلف من دون شرط الضمان، ففي أصل العقد لا يوجد ضمان كي يستشكل المستشكل بأن هذا قرض وليس مضاربة ، كلا وإنما ضيّق الإذن بالتصرف في الاتجار والمعاملة بموارد عدم الخسارة أما في تلك الموارد الأخرى إذا أتلف يصير ضامناً، فهو ضامن من باب عدم الإذن فإنَّ اليد هي مقتضي للضمان وليس القرض، فسبب الضمان هو اليد غير المأذونة وليس سبب الضمان هو عقد القرض كي يقال هي زيادة ربوية، وإنما اليد غير مأذونة ، فجمعنا بين قاعدة اليد غير المأذونة سبب لضمان وبين أن الربح كله لصاحب المال إذا ربح وليس من باب المضاربة وإنما من باب الوكالة والإذن المجاني.

فإذاً كان الأمر بهذا التصوير فهو ليس مختصاً بمال اليتيم والمال العام من الخمس والزكاة وإنما هذا يمكن أن يوقعه في السوق كل طرفين صاحب مال وغيره من العاملين فيقول له إن كان هناك ربح فالربح كله للمال وإن كانت خسارة فأنت ضامن لأصل المال لأني لم آذن لك وهذا ليس من باب شرط الضمان ولا من باب القرض وإنما أنا صاحب المال أريد ان أتعاقد معك أيها التاجر فأنا فقط آذن لك في التجارة بمالي في موارد عدم الخسارة وحتى في موارد الربح ليس لك أجرة أما في موارد الخسارة أنت ضامن لأني لم آذن لك، فجمعت ببين الضمان الربح ولكنه ليس ربا، وهذه قاعدة لطيفة وهي حل لمشكلة الربا وليست هذه الزيادة ربوية.، وبيان ذلك بثلاث فوارق إن لم يكن أكثر:-

الأول: - هنا الربح لم يشترط ضمانه على العامل كما في القرض الربوي فإن القرض الربوي يشترط ضمان أصل المال كما يشترط الزيادة، أما هنا فلا يشترط ضمان الربح، وهذا فارق جوهري أول بين هذه الحيلة الشرعية وبين الربا القرضي.

الثاني: - إنه في القرض الربوي أصل الزيادة مضمونة ولا محالة موجودة رَبِحَ المقترض أو لم يربح وإنما هو يصير مديونًا لأصل المال ومديوناً للزيادة، بينما هنا أصل الربح ليس من الضروري وجوده فقد يوجد وقد لا يوجد، وتستطيع أن تجعل هذا الفارق الثاني أو الأول وتجعل الفارق الأول ثانياً أفضل، فأصل الربح غير ضروري الوجود في هذه الحيلة الشرعية، والفرق الذي ذكرناه أولاً نأتي به ثانياً فإنه حتى على فرض وجود الربح فهو في القرض الربوي مضمون أما هنا فليس مضموناً.

الثالث: - وهو جوهري حتى لا يتخيل شخص أنَّ هذا قرض ربوي وهذا يعزّز على الفذلكة هي فذلكة صناعية حلال أوّلية يمكن اجراؤها في سوق المال ولعلي نسيت ذكرها في حلول الربح مع أنه قديماً قد نقحناها من كلمات الأعلام، الفارق الثالث هو أنه في القرض الربوي الزيادة الربوية معينة كعشرين بالمائة من رأس المال بينما الربح هنا غير معيّن فقد يزيد وقد ينقص بينما في القرض الربوي معين، وهذا فارق جوهري مهم جداً وهو يميزه ماهوياً عن القرض الربوي.

الرابع: - هو أنه في القرض الربوي يوجد معدّل تصاعدي فكلما يؤخر التسديد تزداد الفائدة أما هنا فسواء أخر التسديد أم لم يؤخره فالربح لا يزيد وإنما هو باقٍ على حاله وهو ربح المعاملة، وهذا فارق جوهري مهم، أصلاً ما هو الفارق الجوهري بين باب المضاربة والقرض الربوي؟

هذه الفوارق الأربع التي ذكرناها هي بالدقة الفارق الجوهري بين باب المضاربة جوهرياً وباب القرض الربوي لذلك هذه حيلة - بالاصطلاح الفقهي - ووجه من وجوه التخلص عن الربا قويم وليس مختصاً بباب مال اليتيم أو مال القُصَّر أو المال العام، بل نستطيع أن نستعرضه في سوق المال، والفرق هو أنَّ صاحب المال لا يجعل لعامل المضاربة نسبة فإذا جعل له نسبة فذاك بحث آخر، أما إذا لم يجعل له نسبة فكل الربح لصاحب المال إذا كان في البين، ويمكن أيضاً أن نتصور له نسبة كأن يقول له إن حصل ربح فالربح بالنسبة بينننا كالنصف بالنصف أو عشرين بالمائة وإن حصلت خسارة فلست آذناً لك، فالضمان يكون من باب عدم الإذن، فيمكن تصوريه، فهذا التخريج إذا كان على القاعدة نستطيع إذاً أن نصور ضمان المال من دون ضمان لأصل الربح ومن دون كون الربح معيناً ومن دون تصاعد الربح بتطاول التأخير، فذها وجه صناعي جيد لجعل الضمان في باب المضاربة وليس مختصاً بمال اليتيم بل هذه تخريجة للضمان فأنا إنما آذنٌ لك في التجارات التي فيها عدم خسارة لا حسب علمك وقدرتك وإنما بحسب الثبوت والواقع علمت أو لم تعلم فرّطت أو لم تفرّط لا يهمني ذلك وإنما أنا فقط آذن لك فيما هو في علم الله في الواقع بتلك المعاملات التي ليس فيها خسارة أما التي فيها خسارة فلا يوجد إذنٌ من الأصل ولا مانع من ذلك، فإن كان في المعاملة خسارة فيدك ليست يد أمانية فتكون ضامناً، فالموجب للضمان هو اليد، شبيه باب الوديعة والعارية، أليس الودعي أمين فيقول له أنت أمين في غير موارد قاعدة التلف أما في موارد قاعدة التلف فأنت لست أذوناً، أو العارية بأن يقول أعيرك هذا الشيء ولكن إنما آذن لك في الاستفادة منه في غير موارد التلف أما في موارد التلف فليس لك إذن وإنما يدك ضمانية، أَوَليس المستعير أميناً؟ نعم هو أمين ولكن في حدود الإذن من المالك، أما في موارد عدم الإذن فليس أميناً ويده تكون يد ضمان، ولا مانع من ذلك، وبهذه الطريقة استطعنا أن نصور أنَّ هناك ضماناً وهناك استفادة للربح، ولكن توجد أربعة فوارق جوهرية بين هذه المضاربة الصحيحة والقرض الربوي.

وأكثر الكبار المنظّرين في الاقتصاد الدولي اعترفوا بأنَّ الوجوه الشرعية للتخلص من الربا جوهرها غير الربا القرضي لأن الربا يتصاعد أما هذه فلا تتصاعد، فقد يتساير الوجه للتخلص من الربا مع الربا إلى وسط الطريق ولكنه لا يساير القرض الربوي إلى نهاية الطريق، وهذا فارق ماهوي جوهري بين وجوه التخلص عن الربا وبين الربا القرضي، فإذاً بحمد الله استفدنا من هذه الروايات المباركة.

فلاحظ أنَّ هذا المبحث يولد منه مبحث ويولد من هذا مبحث آخر ..... وهكذا ولكها واعد جحفلية مهمة، هذا المنهج التحليل في مفاد الروايات أعظم من الجمود على سطح دلالة الرواية في موردها وكيف هو السند فإنَّ هذا ليس مسلكاً فقهياً وإنما هو مسلك رواة وهذه نكتة مهمة، هذه مناهج الفحول من الأعلام يستفاد منها.

ثم إنه وصلنا إلى باب مستحقي الزكاة وهو الباب الثاني والخمسون، فلاحظوا أنه توجد روايات متشتتة في أبواب تجمعها قاعدة واحدة وهذا يتم معرفته بالتحليل الفقهي، فالفقيه هو الذي يستطيع معرفة ذلك أما الراوي فلا يستطيع أن يعرف ذلك، فالراوي يعتقد أنَّ هذا في مورده الخاص فيلاحظ ما هو سنده، ولكن هذا السند ليس سنداً واحداً للرواية وإنما هذا المفاد له أسانيد عديدة لا يفهمها الراوي وإنما يفهمها الفقيه لأنه ينطلق من المضمون، المضمون المطوي وراء حجب يستخرجه الفقيه فيعرف أنَّ هذه الرواية مستفيضة وليست رواية آحاد، أما الراوي فلا يستطيع أن يفهم أنَّ هذه الرواية هي رواية آحاد أو أنها رواية مستفيضة، فلاحظ الأمر كيف يكون ، علم الفقه هو العلم بالمضمون، فبملكة الفقه والتحليل يستطيع أن يلتفت إلى أنَّ هذه الرواية مستفيضة أو لا لأنَّ هذا تواتر نظري استنباطي وليس تواتراً سطحياً لفظي في سطح ظاهر العبارة وإنما لا يبصره إلا الفقيه، هنا تكمن ركنية المضمون أعظم من محورية السند، يعلم حال السند والطريق من المضمون لا العكس، وهذا هو الذي نكرره دائماً ونُصِرُّ عليه، وهو منهج الفقهاء الفحول ككاشف الغطاء وكاشف اللثام والجواهر وغيرهم، فأنت تعرف الرواية آحاد أو مستفيضة أو متواترة من المضمون ولكن ليس جمود سطح ظاهر المضمون وإنما باطل المضمون وهذا المنهج يكاد ينقرض كلا بل سيحيا ويحيا إن شاء الله أكثر وأكثر.

ولا بأس أن نعيد قراءة الرواية التي وصلنا إليها: - ( سألته عن الزكاة تجب علي في موضع لا يمكنني أن اؤديها؟ قال: اعزلها فإن اتجرت بها فأنت لها ضامن ولها الربح وإن تويت ... فأنت لها ضامن ) يعني إن تلفت فأنت لها ضامن وإن بقيت ولم تتلف فلها الربح، وهذا تخريجه كما مر بنا هو على القاعدة.

فإذاً انتهينا من هذا الباب.

وتوجد أبواب أخرى وموارد أخرى لو التفتنا إليها نجد فيها نفس المطلب.

وأذكر لكم الأبواب الأخرى نسجلها ثم نستعرضها في المحاضرات اللاحقة لأنَّ هذه القاعدة إذا خرجنا بها كما ذكرت لكم فهي تكو حلاً عظيماً في بحوث أبواب متعددة وحلاً عظيماً للتخلص من الربا، الأبواب التي بقيت هي اللباب السادس والثلاثون من الوصايا الحديث الخامس، وبواب ما يجب فيه الخمس الباب السادس الحديث الأول، أبواب الأنفال الباب الرابع الحديث العشرون، أبواب زكاة الأنعام الباب الثاني عشر الحديث الأول، هذه أبواب بقيت سوف نستعرضها إن شاء الله تعالى كي نختم الكلام في هذه القاعدة المهمة الثمينة التي ولّدت لنا قواعد متعددة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo