< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ محمد السند

بحث الفقه

41/01/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: قاعدة تبييض الأموال _ النوع الثالث ( بيع ما لا منعة فيه )/ المكاسب المحرمة.

أمس كنا نقرأ الروايات الواردة في أبواب الدين وليس أبواب القرض والباحث الفقهي إذا لم يتدبر التحليل الماهوي لماهيات المعاملات فلن يبصر حقائق أبواب الفقه، التحليل الماهوي نهج تميز به المحقق الحلي الأول صاحب الشرائع، والمحقق الكركي، هذان المحققان وصفا بوصف واحد وكأنما تقارب مبنيهما، مثلاً العلامة الحلي قيل عنه العلامة الحلي ولم يقل عنه المحقق والكركي أيضاً سمي المحقق، الشهيد الثاني له منهج آخر والشهيد الأول أيضأ له منهج آخر، فتميز الحلي والمحقق الكركي بمنهجية تحليل العناوين الفقهية عناوين الأبواب، فلاحظ هذه الخطوة الدين يساوي القرض والقرض يساو الدين أو لا ؟ الدين أعم من القرض ففي علم الرياضيات الدين أكبر من القرض فلابد أن تضع علامة أكبر للدين، ولا يصح أن تجعل للسن علامة مساوية للقرض، فالدين كمعادلة بجبرية أمكبر من القرض، وكم هذه الخطوة مهمة، لأجل أن الروايات الأحكام والواردة في الدين تشمل كل دين وغير مختصة بالقرض، وبالتالي سنخرج بقواعد عامة في العقود على أثر أحكام الدَين، فلاحظوا كم هو مهم، الآية الكريمة في آخر سورة البرقة ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾[1] ، وأيضاً بعدها ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا﴾[2] ، تعبير الآية الكريمة ( إذا تداينتم بدين فلو فسّرنا الدين بالقرض كيف يستثني الباري تعالى التجارة الحاضرة لأنه توجد تجارة ليست حاضرة وإنما تجارة نسيئة وغير ذلك، فإن التجارة تنقسم إلى أقسام فاستثنى منها خصوص التجارة الحاضرة ﴿إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا﴾[3] مثلاً ﴿فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ﴾[4] أو شيء آخر، فالمقصود أنَّ استثناء التجارة دليل على أنَّ معنى ( تداينتم ) ليس المراد منه خصوص القرض وإنما المراد من كل ما يكون أحد العوضين فيه نقداً - أي يقبض نقداً ناجزاً - فإذا لم يكن البتاني على القبض الاقباض في أحد العوضين فهذا يصير مثل الدين، فإذاً المراد في الآية الكريمة ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾[5] ليس المراد به القرض وإنما كل العقود والمعاوضات، إذاً الدين أصبح جنساً ماهوياً لجملة من العقود والماهيات وليس نوعاً في مقابل بقية أنواع العقود بل هي ماهية نسية للعقود والمعاوضات، حينئذٍ أحكام التي تأتي في الدين تعم كل العقود منها هذا الحكم الذي عنونه صاحب الوسائل وهو باب وجوب نية قضاء الدين مع العجز عن القضاء بل في الروايات عجز أو لم يعجز فمادام يوجد تأجيل في الدين يجب نية اداء الدين في وقته، فمن الآن تنوي أداءه وإلا فقد ورد في الروايات يكون بمنزلة الشرقة أو الغصب واستفدنا من هذا أنه حين العقد يلزم نية الأداء للدين كما دلت عليه الروايات وتقول هذه الرواية «من استدان ديناً» يعني من تبايع أو استأجر أو تصالح أو تعاقد بأي عقد تولد منه ديناً لكه يقال له استدان، المتعاقدان إذا كان عوض أحدهما ليس نقداً وإنما كان ديناً كالمتعاقدين بالإجارة أو الصلح أو النكاح أو بالمضاربة أو بأي عقد من العقود إذا كان عوض أحد المتعاقدين ليس نقداً فالطرف كأنما استدان من الآخر، لأن هذا العوض يصير ديناً في ذمته فهو مديون وذاك دائن، فهنا لاحظ هذه العبارة «من استدان» وليس من استقرض بل «من استدان ديناً فلم ينو حين قضاءه كان بمنزلة السرقة» لأنه لم يكن عنده قصد جدي للعقد.

ونقرأ بقية الرواية حتى نبين كيف هي الخلاصة لها وارتباط صميمي بما نحن فيه وهو الاتجار بالمال الحرام وقد بيناه أمس ولكن نتمم تفصيل بيانها فيما بعد، ودعونا نقرأ بقية الروايات حتى صورة الحكم المستفاد من هذه الروايات نستخرجه قالباً ثم نلاحظ كيف هو مرتبط بما نحن فيه، الرواية الثالثة في الباب وهي معتبرة، يعني الكلين عن عدة من أصحابنا وعدة الكليني أجلاء، عن أحمد بن محمد وسواء كان البرقي أو الأشعري فهما في طبقة واحدة ومشايخهم وتلاميذهما مشتركين إلا ما قل وكليهما من الجلاء عن عبد الرحمن بن أبي نجران وهو من الأجلاء، عن الحسن بن علي بن رباط ولعل يقال عنه أنه فطحي ولكنه من الثقات، «قال:سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله حافظان يعينانه على أدائه عن امانته»[6] ، فلاحظ النية شيء عظيم ، وقد مرّ مراراً كعبرة أخلاقية أن الكثير منا نحن البشر أن النية لا قيمة لها فانو ما شئت كلا بل النية مصنع جوهر يولّد جواهر، نية السوء يخرج منها رائحة كريهة من روح الانسان يشمها الملكان فيتأذيان أما نية الخير فهي تولّد عطر برزخي عطر ملكوتي لا يشمه الانسان ولكن الملكان يشمانه فالنية شيء عظيم، النيات والخواطر يستسهل بهما الانسان والحال أنهما مصدر واستثمار عظيم لآخرة الانسان ( يوم تبلى السرائر )، فلذلك يقول عليه السلام ( من كان عليه دين .. ) فهنا الامام بين النية الملكوتية ولكنها واجبة عند الفقهاء ( من كان عليه دين ينوي قضاءه كان معه من الله حافظان يعينانه على الأداء عن أمانته فإن قصرت نيته عن الأداء ) أي قصرت لم تنتفٍ فإن النية فيها قصور وفيها كمال وهذه نكتة لطيفة، في دعاء الامام زين العابدين عليه السلام ( اللهم وفرّ حظي من النية ) قريب من هذا المضمون، يعني نفس النية فيها شدة وضعف مثل الارادة فيها شدّة وضعف والعرم فيه شدة وضعف، ( إن قصرت نيته عن الاداء ) ، حتى مقامات الانسان بقدر نيته عل الخير ، ( فإن قصرت نيته عن الأداء قصر عن من المعونة بقدر ما قصر من نيته ).

فالمهم أنَّ هذه الرواية وإن كانت في صدد بيان آثار النية ولكن نية الأداء واجبة حين العقد وتستمر إلى الأداء، وعجيب حتى في الروايات التي سنقرأ بعضها استمراراً لا حين العقد إذا نوى عدم الاداء بقاءً يصير كالغاصب وكاللص لأنه يريد أن يأكل هذا الدين الذي في ذمته فهو بقاءَ ينوي أكل مال الغير، هو هذا معناه فلذلك حتى بقاءً النية واجبة فضلاً عن كونها حين العقد.

الرواية الرابعة:- وهي عن الكليني أيضاً عن شيخه علي بن محمد وهو لا بأس به عن إبراهيم بن اسحاق الأحمر وهذا وإن لم يوثق ولكن توجد قرائن على توثيقه وهو لعله ديلمي ولكنه قابل لاستحسان الحال، عن عبد الله بن حماد وهو لا بأس به عن عمر بن يزيد وهو من الفقهاء الأجلاء الذي ورد حوله أنه ( منّا أهل البيت ) وهو من الفقهاء الكبار، وهو مثل الفضيل بن يسار حيث ورد فيه ( منّا أهل البيت )، «قال: أتى رجل أبا عبد الله عليه السلام يقتضيه وأنا عنده فقال له ليس عندنا اليوم شيء ولكنه يأتينا خِطرٌ[7] ووسمةٌ »[8] ، الامام الصادق عليه السلام توجد روايات عديدة تشير إلى أنه رغم امامته كان يدير تجارة لنفسه ليس مباشرة وإنما يوكّل عامل مضاربة بين مصر والحجاز وهذا موجود في روايات عديدة وكان عنده بستان يستثمره فالمهم الوارد في الروايات انه كانت توجد مشاريع تجارية للإمام الصادق عليه السلام مع أنه إمام ولا مانع من ذلك، كما أنَّ أمير المؤمنين عليه السلام هكذا، وكل الأئمة كانت عندهم استثمارات وأقل شيء هي المزارع والحدائق وحتى التجارة، فقال له هذا الدائن يعني اتى ليستأدب ويطلب من الامام الصادق أن يستوفيه الدين فقال له: «ليس اليوم عندنا شيء ولكنه يأتينا خِطر ووسمة فتباع إن شاء الله، فقال له الرجل: عدني، فقال: كيف أعدك وأنا لما لا أرجو أرجى مني لما أرجو»[9] ، وهذه الرواية أجمالاً تدل على وجوب البناء على أداء الدين، فإنَّ فعل الامام عليه السلام وسلوكه على أنه موطن نفسه على أداء الدين، يعني أنه يوجد عنده عزم ونية على أداء الدين.

وهذا هو الفرق بين الأصول العملية والأمارات، الأصول العملية هي ليس وظائف عمل البدن فقط وإنما هي وظائف للبناء النفساني ( هو لك حلال ) ( هو لك طاهر ) ( كل شيء فرغت منه ثم شككت فهي فامضه كما هو ) ( كلما خرجت من شيء ودخلت في غيره فامضه كما هو )، ( لا تنقض اليقين بالشك ) فكل لسان الأصول العملية هي البناء النفساني مقدمة للعمل البدني، لذلن يعبرون عن الأصول العملية سواء كان في الشبهة الموضوعية أو في الشبهة الحكمية أنها بناء يعين بناء نفساني، والفقه أيضاً هكذا بينه أداء الدين هو نية وعزم ومعنى ذلك أنَّ النية النفسانية محل للأحكام الفقهية أو الأصولية الشرعية.

الرواية الخامسة: - بإسناد الصدوق عن أبي خديجة سالم بن أبي مكرم عن ابي عبد الله عليه السلام قال: «أيّما رجل أتى رجلاً فاستقرض منه مالاً وفي نيته أن لا يؤدي فذلك اللّص العادي»[10] وسندها معتبر، لأنَّ هذا ليس قرضاً وإنما هو تحايل ونصب واحتيال لأكل ومصادرة مال الغير.

في هذه الروايات التي انتهينا منها نلاحظ الروايات تبيّن أن الخلل في نية الأداء حين العقد سواء كان قرضا أو غير قرضاً يخل بالإرادة الجدية لإنشاء العقد، فصار هذا العقد صورياً ولكنه ليس لديته قصد جدي، وهذا البحث تنفتح من ابحاث مهمة، ينفتح منه البحث الذي نحن فيه وهو أنه يتّجر أي عقود كلية ولكن من نيته حين العقد أن يدفع من المال الحرام فهذا يخل بالنية الجيدة لأنه حينما ينوي أن يؤدي الثمن من المال الحرام فهذا يعني أن لا يريد الأداء لأنَّ الأداء اللازم في العقود أن يكون الوفاء من المال الحلال أما ملك الغير فهو لا يستطيع أن يملّكه للمتعاقد معه، فالأداء وإن كان ليس شرط صحة في أكثر العقود فالبيع الأداء ليس شرط في صحته وكذلك الاجارة والصلح وغير ذلك نعم بعض العقود القبض والأداء شرط في صحتها الهبة والصدقة والوقف ولكن أكثر العقود ليست كذلك إلا أنَّ نية الأداء شرط في صحة العقود، لأنه إذا لم يكن ناوياً للأداء لم تكن عنده ارادة جدية للعقد نفسه، فالعقد هل هو العهد الاستهزائي أو العهد الجدي ؟ إذا كان يعاهد كذباً فهذا ليس عهداً، العقد قائم بالعهد والتعهّد فإذا كان من نيته ان لا يؤدي فإذا ليس لديه التزام إنشائي جدي بالعقد، فعدم نية الأداء يخلّ بالإنشاء والالتزام، ( أوفوا بالعقود ) العقود هي ارتباط العهدين كل طرف من المتعاقدين يتعهد للآخر فإذا كان تعهده صوري وليس جدياً فهذا ليس عقداً وإنما هو تحايل ونصب احتيال فالداء وإن لم يكن شرطاً لصحة العقود إلا بعضها كالوقف والصدقة والهبة والقرض إلا أنَّ نية الأداء حين العقد شرط صحة لأنه لابد من وجود ارادة جدية، هذا هو مفاد هذه الروايات المتقدمة أنه إذا لم يكن من نيته الأداء حين العقد فهو لص عادي يعني يسرق ويتحايل بصورة عقد.

فلاحظ كيف الارتباط الصميمي بين هذه الروايات التي هي ليست مخصوصة بعقد حيث مرّ بنا أنَّ الدين في كل العقود وما نحن فيه وهو الاتجار بالمال الحرام فهذا الذي يتاجر بالمال الحرام من حين العقد كان من نيته أن يعطيه من المال الحرام يعني ليس من نيته الأداء فحينئذٍ إما أن يحكم بأن كل هذه العقود صورية وباطلة، أو يقال إنَّ العقد صحيح لكن ينعقد لصاحب المال ولو فضولاً وليس للمتعاقد، فهو إما أن ينعقد لصاحب المال أو أنه لا ينعقد لأن هذا العاقد ليس لديه نية جدية في العقد إذا كان من نيته الأداء من المال الحرام ولو كانت نية ارتكازية لأنه لا يوجد عنده أموال إلا أموال الغير الموجودة عنده.

فإذاً ربط هذه الروايات بما نحن فيه واضح، وهو ارتباط صميمي، لذلك السيد اليزدي في بحث المضاربة عامل المضاربة وكيل، فأنت أيها العامل تريد أن تجري التجارة لنفسك وليس لصاحب المال ولكن من نيتك أن تدفع من مال صاحب المضاربة وبالتالي لا تنعقد العقود لك وإنما لصاحب المال، وهنا تقع ضابط صناعية مهمة مرتبطة بهذا البحث.

فإذاً استخلصنا أنَّ نية الأداء دخيلة في صحة العقد، فإذا نوى الأداء من مال الغير العقد يقع للغير ولا يقع لنفسه فيصح للغير ولا يصح لنفسه، لأنَّ نية الأداء دخيلة في صحة العقد، فهو نوى الأداء من مال الغير يعني أنه نوى الأداء للغير ومعنى ذلك أنه نوى العقد للغير من حيث لا يشعر، ونؤجل بقية البحث إلى غد.


[7] الخِطر نبات يختضب به.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo