< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

37/12/21

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الإستدلال على البراءة

وفيه ان هذا الكلام في غير محله لأن الرسول في الآية الشريفة كناية عن الحجّة فيعّم الرسول الباطني والرسول الظاهري. هذا وقد ردّ الفاضل التوني مقالة الإخباريين بأن أقصى ما تدل عليه الآية الشريفة هو نفي فعلية التعذيب قبل بعث الرسل والملازمة المدعاة إنما هي بين حكم العقل واستحقاق العقوبة ونفي فعلية العذاب لا تقتضي نفي الملازمة، فإنه من الممكن أن يكون الشارع قد حكم بحرمة ما استقل بقبحه العقل وكانت مخالفة الحكم الشرعي تقتضي استحقاق العقوبة ولكن الشارع تفضّل بالعفو وأخبر به.

ويرد على الفاضل التوني الذي استدل هو بالآية الشريفة على البرائة، بأنه لا يجتمع الإستدلال بها على البرائة مع القول بان مفادها نفي فعلية التعذيب لا استحقاقه لإن النزاع في البرائة إنما هو في استحقاق العقاب على إرتكاب الشبهة وعدم استحقاقه لا في فعلية العقاب فالإستدلال بها على البرائة يتوقف على أن يكون المراد من نفي العذاب نفي الإستحقاق، وذلك ينافي ردّ مقالة الإخباريين المنكرين للملازمة بما تقدم من أن المراد من نفي العذاب نفي الفعلية لا الإستحقاق.

ولقد أجاد المحقق القمّي حيث قال: (إن من جمع في الآية بين الإستدلال بها على البرائة وبين ردّ الإخباريين لإثبات الملازمة يكون قد جمع بين النقيضين ...الخ).[1]

ومن جملة الآيات التي استدل بها للبرائة قوله تعالى: ((لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا)). وجه الإستدلال بها هو أن المراد من الموصول التكليف والحكم، ومن الإيتاء الوصول والإعلام لإن الإيتاء عبارة عن الإعطاء، وحيث أن إعطاء كل شيء بحسبه فكان إيتاء التكليف عبارة عن الإعلام به، فيكون المعنى لا يكلف الله نفسا إلا بتكليف واصل إلى المكلف. وفي حال الشك لا يكون التكليف واصلا فلا تكليف حينئذ.

وفيه أنه كما يحتمل أن يراد من الموصول الحكم والتكليف ومن الإيتاء الإعلام يحتمل أيضا أن يراد منه خصوص المال ومن الإيتاء الملكية فيكون المعنى لا يكلف الله نفسا بمال إلا بما ملّكه وذلك بقرينة المورد، حيث صدر الآية الشريفة: (لينفق ذو سعة من سعته ومن قدر عليه رزقه فلينفق ممّا أتاه الله لا يكلف الله نفسا إلا ما أتاها سيجعل الله بعد عسر يسرا).[2]

وعليه فيكون المعنى بمقتضى سياق الآية الشريفة المتقدمة عليها الواردة في حكم إنفاق الآباء على أزواجهم أيام الحمل، ودفع الأجرة على الإرضاع، هو أنه يجب على الوالد دفع أجرة المثل إلى المرضعة، ويحتمل أيضا أن يكون المراد من الموصول مطلق الشيء ومن الإيتاء الإقدار أي لا يكلف الله نفسا بشيء إلاّ بما أقدرها ومكّنها عليه، فتكون المحتملات ثلاثة وهي تدل على البرائة بناء على الإحتمال الأول. ولكن لا ظهور لها فيه بل لعلها ظاهرة في الإحتمال الثاني أو الثالث.

وقد استظهر صاحب مجمع البيان الإحتمال الثالث قال: (وفي هذا دلالة على أنه سبحانه لا يكلف أحدا ما لا يقدر عليه وما لا يطيقه...الخ). [3]

وجعل الشيخ الأعظم هذا الإحتمال – أي الثالث – أظهر وأشمل. وذهب جماعة من الأعلام إلى أن الآية الشريفة مجملة لتساوي الإحتمالات الثلاثة ولا يمكن أن يراد من الموصول الأعم من التكليف والمال والفعل، إذ لا جامع بين المفعول المطلق والمفعول به - إذ على الإحتمال الأوّل يكون الموصول مفعولا مطلقا وعلى الإحتمال الثاني والثالث يكون مفعولا به – لأن نحو تعلّق الفعل بالمفعول المطلق يباين نحو تعلّقه بالمفعول به، فإنه على المفعول المطلق يحتاج في إضافة الفعل إلى الموصول إلى لحاظ كونه من شؤون الفعل وكيفياته على نحو يكون وجوده يعين وجود الفعل لإنه ليس للتكليف نحو وجود سابق على تعلّق التكليف به بل وجوده إنما يكون بنفس انشاء التكليف لأن المفعول المطلق من كيفيات الفعل، وأما على المفعول به فإنه يحتاج في إضافة الفعل إليه إلى لحاظ كونه موجودا في الخارج قبل الفعل ليكون الفعل موجبا لإيجاد وصف عليه بعد وجوده ومفروغية ثبوته كزيد في قولك اضرب زيدا. فإن زيدا كان موجودا قبل ورود الضرب عليه.

ومن هنا استشكل جار الله الزمخشري في قوله تعالى: (خلق الله السماوات)، وجه الإشكال أنه لا يمكن أن تكون السماوات مفعولا به لإنه لا وجود للسماوات قبل ورود الخلق عليها مع أن المشهور جعلوا السماوات مفعولا به. وعليه فبعد عدم تصوّر جامع بين المفعول المطلق والمفعول به فلا يمكن إرادة الجميع من الموصول إلا بنحو استعمال اللفظ في أكثر من معنى وهو مستحيل كما عرفت سابقا.

ولكن الإنصاف أنه يمكن حلّ الإشكال بوجهين وتكون الآية الشريفة حينئذ دالة على البرائة:

الوجه الأّوّل: إن الموصول في الآية الشريفة مستعمل في معناه العام الكلي وإرادة الخصوصيات - أي كونه مفعولا مطلقا ومفعولا به – من دوال أخر خارجية فلا محذور حينئذ لا من طرف الموصول ولا من جهة الإيتاء. أما من جهة الموصول فلم يستعمل إلا في معناه الكلي العام وإرادة الخصوصيات إنما كان من دوال خارجية فلا يكون اللفظ مستعملا في أكثر من معنى. وأما من جهة الإيتاء فلم يستعمل إلا في معنى واحد وهو الإعطاء غاية الأمر أن مصاديقه تختلف من حيث كونها تارة بمعنى الإعلام عند الإضافة إلى الحكم وأخرى بمعنى الملكية أو الإقدار عند الإضافة إلى المال أو الفعل.

الوجه الثاني: إن إرادة الحكم والتكليف من الموصول إنما يقتضي كونه مفعولا مطلقا لو كان المراد من التكليف في الآية الشريفة هو الحكم أيضا وإلا فلو فرض كونه بمعناه اللغوي أعني المشقة والكلفة فلا إشكال حينئذ ويكون الموصول عبارة عن المفعول به ويصبح معنى الآية الشريفة هكذا: إنه سبحانه وتعالى لا يوقع عباده في كلفة حكم ومشقته إلا الحكم الذي أوصله إليهم وأعلمهم به فيتم الإستدلال بالآية الشريفة على المطلوب.

والخلاصة أنه بناء على الوجه الأوّل من إمكان إرادة الأعم من الحكم والمال والفعل ولو بنحو تعدد الدال والمدلول أمكن التمسك بإطلاق الآية الشريفة على البرائة وأنه لا يجب الإحتياط عند الشك وعدم العلم بالتكليف.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo