< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

37/04/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: الإستدلال بالإجماع على حجّية خبر الواحد

الوجه الرابع: سيرة العقلاء أو بناء العقلاء، وقد جعلها أكثر الأعلام عمدة الوجوه والأدلة، بحيث لو فرض المناقشة في باقي الأدلة فلا مناقشة في هذه السيرة. قال الشيخ الأعظم:(الرابع: استقرار طريقة العقلاء طراً على الرجوع إلى خبر الثقة في أمورهم العادية، ومنها الأوامر الجارية من الموالي إلى العبيد، فنقول: إن الشارع إن اكتفى بذلك منهم في الأحكام الشرعية فهو وإلا وجب عليه ردعهم وتنبيههم على بطلان سلوك هذا الطريق في الأحكام الشرعية كما ردع في مواضع خاصة وحيث لم يردع علم منه رضاه بذلك ...ألخ)[1] .

والحاصل أن السيرة العقلائية عبارة عن استقرار سيرة العقلاء بما هم عقلاء على العمل بشيء سواء التزموا بدين وشريعة أم لم يلتزموا أو سواء كان ما استقرت عليه سيرتهم راجعة إلى الأمور الدينية أم كانت راجعة إلى الأمور العقلائية، وهذه تحتاج إلى امضاء من الشارع، ويكفي في تحققه عدم الردع عنها من الشارع، وبهذا أمتازت عن السيرة الشرعية والتي هي عبارة عن استقرار سيرة المسلمين من حيث كونهم متشرعين على العمل بإخبار الآحاد فيما يرجع إلى أمور دينهم، وإذا تحققت السيرة الشرعية فلا إشكال في حجّيتها والإعتماد عليها لكشفها عن رضا الشارع بذلك لإنه من المستحيل إستقرار السيرة المزبورة من المسلمين من حيث كونهم متدينين على أمر من تلقاء أنفسهم من دون جعل شرعي فيما قامت السيرة عليه.

ومن هنا لا يحتاج في حجّيتها إلى إثبات عدم ردع الشارع عنها لوضوح مضادة ردع الشارع لأصل السيرة فلا تصلح الآيات الناهية عن العمل بما وراء العلم للردع عن مثل هذه السيرة، وهذا بخلاف السيرة العقلائية فإنه بعد عدم مضادتها وجوداً مع الردع الشرعي يحتاج حجّيتها إلى إثبات عدمه.

وقد ذكر الأعلام أن الشارع المقدس لم يردع عنها ضرورة أنه لو كان لبان وأشتهر. وهذا يكشف عن رضاه وإلا لردع عنها كما ردع عن العمل بالقياس، حيث نهى الشارع عنه وبالغ في تحريمه وإبطاله حتى ورد في حقه في أبواب مختلفة ومناسبات متعددة أكثر من أربعماية رواية ناهية عن العمل به، بحيث عرف جميع الأعلام قديماً وحديثاً في جميع الأعصار والأمصار حرمته وفساده مع أن العمل بالقياس ليس مثل العمل بخبر الثقة فيما تعمّ به البلوى، فلو كان العمل بخبر الثقة محرماً ومبغوضاً كالعمل بالقياس لورد في تحريمه أكثر من ألف رواية مع أنه لم يرد في النهي خبر واحد فضلاً عن أخبار كثيرة.

قال صاحب الكفاية:(إن قلت يكفي في الردع الآيات الناهية والروايات المانعة عن إتباع غير العلم وناهيك قوله تعالى ولا تقف ما ليس لك به علم وقوله تعالى إن الظن لا يغني من الحق شيئاً قلت لا يكاد يكفي تلك الآيات في ذلك فإنه مضافاً إلى أنها وردت إرشاداً إلى عدم كفاية الظن في أصول الدين ولو سٌلم فإنما المتيقن - لولا أنه المنصرف إليه إطلاقها -هو خصوص الظن الذي لم يقم على إعتباره حجّة لا يكاد يكون الردع بها الإ على وجه دائر وذلك لأن الردع بها يتوقف على عدم تخصيص عمومها أو تقييد إطلاقها بالسيرة على إعتبار خبر الثقة وهو يتوقف على الردع عنها بها وإلا لكانت مخصصة أو مقيدة لها كما لا يخفى)[2] انتهى

حاصله أن هناك ثلاثة أجوبة: الأول أن مورد الآيات الشريفة هو خصوص أصول الدين فيكون النهي عن إتباع الظن في أصول الدين إرشاداً إلى حكم العقل بعدم كفاية الظن فيها. ولا ربط لها بمحل البحث. الثاني لو سلّمنا أن الآيات الناهية مطلقة أو عامة إلا أنها منصرفة إلى خصوص الظن الذي لم يقم على إعتباره حجّة، أو نقول أن الآيات مجملة ولكن القدر المتيقن منها هو الظن الذي لم يقم دليل على إعتباره. الثالث هو لزوم الدور على تقدير التمسك بها لإثبات النهي عن العمل بخبر الواحد وقد عرفت توضيحه.

أقول أما الجواب الأول فإن مورد الآيات الشريفة وإن كان الأصول الإعتقادية، انظر إلى قوله تعالى:﴿ وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلاّ يظنون [3] ، وكذا غيرها إلاّ أنه مع ذلك أن مقتضى التعليل في بعضها بأن الظن لا يغني عن الحق شيئاً، ممّا يجعلها ظاهرة في العموم فلا يكون المورد موجباً للإقتصار عليه. وعليه فالآيات تشمل الفروع أيضاً.

وأما الجواب الثاني، فيرد عليه، أنه مع الأطلاق يكون الإنصراف بدوياً يزول بالتأمل ثم أنه لو سلمنا بالإنصراف إلا أننا نقول من أين علمت أن خبر الثقة حجّة يكون خارجاً عن انصرافها، إذ المفروض أن دليل اعتباره هو سيرة العقلاء وهي ممّا لا تكون حجّة ما لم يمضها الشارع والفرض أنه لم يمضها بل ردع عنها بهذه الآيات. وأما الجواب الثالث، فيرد عليه، أن حجّية السيرة بعد أن كانت معلقة على عدم الردع عنها يكون عدم الردع في المرتبة السابقة على حجّيتها لأنه بمنزلة شرطها، وحينئذٍ ففي المرتبة السابقة على حجّيتها تجري أصالة العموم في الآيات الناهية فتوجب خروج مثلها عن الحجّية فلا يلزم الدور.

والإنصاف أن يقال أن عمل العقلاء بخبر الثقة ليس من باب العمل بالظن حتى يكون مشمولاً للآيات الناهية بل عملهم به من جهة إنكشاف الواقع لديهم وعدم إعتنائهم بإحتمال الخلاف لبنائهم على تتميم الكشف المقتضى لإلغاء إحتمال الخلاف فلا تصلح الآيات الناهية للردع عنها لخروج العمل بخبر الثقة عن موضوع الآيات الناهية وهو العمل بالظن.

هذا وقد أجاب السيد أبو القاسم الخوئي بجواب آخر، وهو:(أن الآيات الناهية عن العمل بالظن ليست مولوية لتدل على حرمة العمل بخبر الواحد وإنما هي آيات إرشادية ترشد إلى ما استقل به العقل من عدم جواز العمل بالظن، حيث أن المكلف معه لا يأمن من العقاب لإحتمال الخطأ وعدم مصادفة الواقع ومن الظاهر أن ذلك غير جارٍ في مورد العمل بخبر الواحد لأن المكلف في مورده مأمون من العقاب سواء صادف الواقع أم خالفه...ألخ).

وفيه كما ذكرناه سابقاً. أن النهي في الآيات الشريفة نهي مولوي لا إرشادي لأن العمل بالظن من دون الإستناد إلى الحجّة تشريع عملي كما أن إسناد مؤداه إلى الشارع من دون حجّة تشريع قولي. وقد عرفت سابقاً أن حكم العقل بقبح التشريع يستتبعه حكم شرعي لأن حكم العقل بقبح التشريع واقع في سلسلة علل الأحكام وليس واقعاً في سلسلة المعلولات بل هو حكم إبتدائي من العقل لما فيه من مفسدة من تصرف العبد فيما ليس له.

ثم قال صاحب الكفاية، (فافهم وتأمل ...ألخ) قال في تعليقته على الكتاب:(قولنا فافهم وتأمل إشارة إلى كون خبر الثقة متبعاً ولو قيل بسقوط كل من السيرة والإطلاق عن الإعتبار بسبب دوران الأمر بين ردعها به وتقييده بها وذلك استصحاب حجّيته الثابتة قبل نزول الآيتين...ألخ).

ويرد عليه، أولاً ما ذكرناه في أكثر من مناسبة من أن الإستصحاب لا يجري في الأحكام الكلية، ومقامنا من هذا القبيل. وثانياً أن الإستصحاب أما أن يكون حجّة من باب التعبّد بالأخبار أي أخبار لا تنقض اليقين بالشك كما هو الأقوى على ما سيأتي في بابه إن شاء الله تعالى.

وأما أن يكون حجّة من باب الظن كما ذهب إليه جماعة من الأعلام فإن كان من قبيل الأول فلا يمكن التمسّك به لأن حجّيته في نفسه متوقفة على حجّية الأخبار فكيف يمكن إثبات حجّيتها به، وإن كان من قبيل الثاني – أي الظن- فالآيات الناهية عن العمل بغير العلم به تمنع عن العمل كما تمنع عن العمل بالسيرة لأن العمل به حينئذٍ عمل بغير علم واحتمال تخصيص عمومها به مدفوع بما ذكر في تخصيص عمومها بالسيرة من عدم إمكانه إلا على وجه دائر.

والخلاصة إلى هنا أن الآيات الشريفة ليست رادعة عن السيرة العقلائية وممّا يؤكد ذلك أن السيرة لا زالت مستمرة بين المسلمين والعقلاء جيلا بعد جيل فلو كانت الآيات رادعة عنها لانقطعت السيرة وترك العمل بها بعد نزول الآيات لكونها بمرأى منهم ومسمع. وقد عرفت أن السرّ في ذلك هو أن عملهم بخبر الثقة ليس عملاً بغير العلم حتى يكون ذلك مشمولاً للآيات الشريفة بل التأمل في طريقة العقلاء يوجب القطع بخروج الإعتماد على خبر الثقة عن الإعتماد بالظن والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo