< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/12/22

بسم الله الرحمن الرحیم

هذا حاصل جواب الميرزا النائيني بالنسبة إلى الأمارات، وهو جواب متين. أما الأصول العملية، فهي على قسمين:
الأصول المحرِزة التنـزيلية: ومنها: الاستصحاب، وقاعدة الفراغ، وقاعدة التجاوز، وأصالة الصحة. وقد سميت (محرزة)؛ لما لها من كاشفية وحكاية ناقصة عن الواقع، إلا أن الشارع لم يجعلها من باب كاشفيتها متمِّمًا لنقصها، وإلا لصارت أمارات؛ بدليل أخذ الشك في موضوعها المنافي لإتمام نقص كاشفيتها، وإنما جعلها من باب الجري العملي على طبقها، وكأنه قال للمكلفين: ابنوا على أن أحد طرفي المشكوك هو الواقع من باب العمل لا الكشف؛ أي نزِّلوا مؤداها منـزلة الواقع عملا، ومن هنا سميت (تنـزيلية).
إذا عرفت ذلك، فيقال: بما أن الشارع لم يجعل الأصل العملي المحرز من باب كاشفيته إلى الوقع، فلا بد من أن يكون لدينا حكم ظاهري على طبق مؤدى الأصل المحرز، فيلزم إشكال اجتماع الضدين بحال خالف هذا الحكم الظاهري الواقع.
ويجيب النائيني على هذا الإشكال بما حاصله: إن الشارع طالب المكلفين بالبناء العملي على طبق مؤدى الأصل المحرز بأن يعتبروا أحد طرفي المشكوك هو الواقع، وهذا خال من أي حكم، فلا يرد الإشكال.
وبعبارة أخرى: إن المجعول فيها هو البناء العملي على أحد طرفي الشك على أنه هو الواقع، وإلغاء الطرف الآخر عملا وجعله كالعدم، ولأجل ذلك قامت مقام القطع المأخوذ في الموضوع على وجه الطريقية؛ لكونها متكفلة للجهة الثالثة التي يكون القطع واجدا لها، وهو الجري على وفق القطع، وترتيب آثار المقطوع عملا، كما أن الأمارة تكون واجدة للجهة الثانية، وهي جهة الإجزاء والكاشفية؛ فالمجعول في الأصول التنـزيلية ليس أمرا مغايرا للواقع، بل الجعل الشرعي إنما تعلق بالجري العملي على المؤدى على أنه هو الواقع، كما يرشد إليه قوله في بعض أخبار قاعدة التجاوز؛ كقوله في صحيحة الفضيل بن يسار: "بلى قد ركعت"[1]، فإن كان المؤدة هو الواقع فهو، وإلا كان الجري العملي واقعا في غير محله من دون أن يكون قد تعلق بالمؤدى حكم على خلاف ما هو عليه.
وبالجملة، ليس في الأصول التنـزيلية حكم مخالف لحكم الواقع، بل إذا كان المجعول فيها هو البناء العملي على أن المؤدى هو الواقع، فلا يكون ما وراء الواقع حكم آخر حتى يضاده. وهذا الجواب في محله أيضا، بل هو في غاية الصحة والمتانة.
الأصول غير المحرِزة وغير التنـزيلية: وذلك كأصالة البراءة والاحتياط والتخيير وقاعدة الحل. وقد سميت (غير محرزة)؛ لأنها لا إراءة لها للواقع أصلا، و(غير تنـزيلية)؛ لأن مؤداها لم ينـزل منـزلة الواقع، فإنما هي مجرد وظيفة عملية حال الشك؛ ففي موارد البراءة مثلا - حيث لا يكون ملاك الحكم الواقعي بتلك المرتبة من الأهمية - يكون لدينا حكم ترخيصي ظاهري مجعول من الشارع، وفي موارد الاحتياط؛ كموارد الدماء والفروج والأموال الخطيرة - حيث يكون ملاك الحكم الواقعي بمكان من الأهمية بحيث لا يرضى الشارع بتاتا بفواته حتى في طرف الشك - يكون لدنيا حكم احتياطي ظاهري مجعول من الشارع، ويكون الحكم الواقعي حينئذ واصلا إلى المكلف بطريقه.
إذا عرفت ذلك، فيقال: إذا خالف الحكم الظاهري الترخيصي أو الاحتياطي الواقع، فيلزم اجتماع الضدين.
وقد أجيب على هذا الإشكال باختلاف الرتبة؛ فإن رتبة الحكم الظاهري رتبة الشك في الحكم الواقعي، والشك في الحكم الواقعي متأخر في الرتبة عن نفسه وجوده، فيكون الحكم الظاهري في طول الحكم الواقعي، ولا تضاد بين المختلفين في الرتبة؛ لأن وحدة الرتبة من جملة الوحدات الثمان المعتبرة في التضاد والتناقض.
وقد نسب السيد الخوئي هذا الجواب إلى الميرزا النائيني، إلا أن الميرزا ذكره هذا الجواب في فوائد الأصول، ورده بقوله: "وأنت خبير بفساد هذا التوهم؛ فإن الحكم الظاهري وإن لم يكن في رتبة الحكم الواقعي، إلا أن الحكم الواقعي يكون في رتبة الحكم الظاهري؛ لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه ولو بنتيجة الإطلاق، فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك".[2]
ثم إن الميرزا النائيني ذكر أن وجوب الاحتياط طريقي؛ بمعنى أن وجوبه إنما هو للتحفظ على ملاك الحكم الواقعي، فإن طابق الواقع، فلا يكون حكم الاحتياط حكما مغايرا للحكم الواقعي، وإنما هو حكم طريقي إليه، وكأن الشارع أبرز حكمه الواقعي بمبرزين، مرة حينما أنشأ الحكم الواقعي، وأخرى حينما أوجب الاحتياط. وأما إن خالف الاحتياط الواقع، فينكشف أنه كان تخيليا وأنه لم يكن هناك وجوب للاحتياط من أول الأمر ليلزم التضاد بينه وبين الترخيص الواقعي.
والخلاصة: إنه بالنسبة إلى الاحتياط لا يلزم إشكال الاجتماع لا في صورة مطابقة الاحتياط للواقع، ولا في صورة مخالفته.
وأما بالنسبة إلى البراءة، فإن طابقت الواقع، فالكلام فيها هو الكلام في الاحتياط، وهو أنه لا يكون لدينا حينئذ حكم مغاير للحكم الواقعي. وأما إن خالفت البراءة الواقع، فبما أن الحكم الظاهري الترخيصي قد أخذ في موضوعه الشك في الحكم الواقعي، فتكون رتبته في طول رتبة الحكم الواقعي ومتأخرة عنه، فلا بأس من اجتماعهما حينئذ.
وقد عرفت أن هذا الجواب قد نسبه السيد أبو القاسم الخوئي للشيخ النائيني، وقد بيّنا أنه رد الجواب ولم يقبل به أصلا؛ لانحفاظ الحكم الواقعي في مرتبة الشك فيه، فيجتمع الحكمان المتضادان في رتبة الشك.
والخلاصة: إن الجمع بين الحكم الواقعي والحكم الظاهري باختلاف الرتبة في غير محله.
وقبل أن نجيب على إشكال اجتماع الحكمين المتضادين في الأصول غير المحرزة بقي شيء نسبه السيد الخوئي أيضا إلى الميرزا النائيني، وهو أن الشك مرة ينظر إليه على أنه صفة نفسية، وأخرى على أنه تحير، والشك في الحكم الواقعي المأخوذ في موضوع الحكم الظاهري هو بالمعنى الثاني. وعليه، قد لا يكون للحكم الواقعي إطلاق ليشمل حال التحير، وبالتالي لا يكون لدينا في حال التحير إلا حكما واحدا، وهو الحكم الظاهري، فلا يكون هناك حكم واقعي حتى يقع التضاد بينه وبين الحكم الظاهري.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo