< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/11/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : دليل ابن قِبَة على امتناع التعبد:

قال صاحب الكفاية: ( وكيف كان، فما قيل أو يمكن أن يقال في بيان ما يلزم التعبد بغير العلم من المحال، أو الباطل ولو لم يكن بمحال أمور: أحدها: اجتماع المثلين من إيجابين أو تحريمين مثلا فيما أصاب، أو ضدين من إيجاب وتحريم ومن إرادة وكراهة ومصلحة ومفسدة ملزمتين بلا كسر وانكسار في البين فيما أخطأ، أو التصويب، وأن لا يكون هناك غير مؤديات الأمارات أحكام. ثانيها: طلب الضدين فيما إذا أخطأ وأدى إلى وجوب ضد الواجب. ثالثها: تفويت المصلحة أو الإلقاء في المفسدة فيما أدى إلى عدم وجوب ما هو واجب، أو عدم حرمة ما هو حرام، وكونه محكوما بسائر الأحكام[1] ).

استدل ابن قِبة على امتناع التعبد بالأمارة غير العلمية بلزوم محذور خطابي أو ملاكي أو كلاهما معا.

وتوضيحه : مرة تقوم الأمارة على حكم، وتكون مطابقة للواقع؛ كما لو قامت على حرمة شيء وكان في الواقع حراما، أو قامت على وجوبه وكان في الواقع واجبا وهكذا، فهنا يلزم اجتماع المثلين، وهو محذور خطابي.

وأخرى تقوم الأمارة على حكم، وتكون مخالفة للواقع؛ كما لو قامت على حرمة شيء وهو في الواقع واجب، أو قامت على وجوب شيء وهو في الواقع حرام وهكذا، فهنا يلزم اجتماع الضدين، وهو محذور خطابي أيضا. وأما المحذور الملاكي؛ كالمصلحة والمفسدة المؤثرين في الإرادة والكراهة فيما إذا لم يكن بينهما كسر وانكسار، وإلا فلا بأس باجتماعهما. وتوضيحه: إن أصل المصلحة والمفسدة لا تضاد بينهما؛ لإمكان اجتماعهما في شيء واحد، ولو من جهتين، وإنما يكون بينهما التضاد بوصف كونهما ملزمتين؛ إذ الوصف المذكور إنما يثبت المصلحة بشرط غلبتها على المفسدة، وكذا العكس. ومن المعلوم عدم إمكان اجتماع المصلحة والمفسدة بوصف غلبة كل منهما على الأخرى.

ثم إن ما ذكرنا من اجتماع المثلين أو الضدين مبني على كون الحكم الواقعي الموافق لمؤدى الأمارة أو المخالف له محفوظا وباقيا على حاله. وأما بناء على عدم كونه محفوظا بل منقلبا إلى ما تؤدي إليه الأمارة، فيلزم التصويب وانحصار الحكم في مؤديات الأمارات. ومن المعلوم أن التصويب محال كما في التصويب الأشعري، أو باطل كما في التصويب المعتزلي، وسيأتي توضيحما إن شاء الله تعالى قريبا.

وإذا عرفت لزوم هذين المحذورين من التعبد بالأمارة، فالملزوم - وهو التعبد بها - مثلها في البطلان.

هذا حاصل دليل ابن قبة على امتناع التعبد، ولا يخفى أن المحذور الملاكي يتوقف على ثلاثة أمور، وهي:

الأمر الأول : أن تكون الأحكام - كما هو الصحيح - تابعة للمصالح والمفاسد في متعلقاتها، فإن لم تكن تابعة لها كما ذهب الأشعري، أو كانت تابعة لها ولكن غير واجبة التحصيل، فلا يلزم من التعبد بالأمارة المحذور الملاكي من تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة.

الأمر الثاني : الالتزام بأن المجعول في باب الأمارات نفس الطريقية، كما هو الصحيح، وسيأتي بيانه إن شاء الله تعالى. وأما على القول بالسببية في الأمارات، فلا يلزم المحذور؛ إذ لا يلزم تفويت الملاك أو الإلقاء في المفسدة من التعبد بالظن، لكن القول بالسببية - كما سيتضح لديك - محال أو باطل. وأما القول بالمصلحة السلوكية على ما ذهب إليه الشيخ الأنصاري وتبعه عليه الميرزا النائيني ، فإنه وإن لم يلزم منه تفويب الملاك من التعبد بالظن، إلا أن القول بالمصلحة السلوكية باطل، كما سيأتي توضيحها وبيان بطلانها.

الأمر الثالث : أن يكون باب العلم في الأحكام الشرعية مفتوحا، فهنا يأتي الكلام عن لزوم تفويت المصلحة والإيقاع في المفسدة فيما لو تعبَّدنا الشارع بالأمارة وكانت مخالفة للواقع. أما بناء على انسداده فلا يلزم ذلك؛ لأن المكلف لا يتمكن من استيفاء المصالح في حال انسداد باب العلم إلا بالاحتياط التام. وليست الشريعة مبنية على الاحتياط في جميع الأحكام. وعليه، فعلى تقدير عدم التعبد بالظن وانسداد باب العلم، وعدم وجوب الاحتياط التام، يكون المكلف حينئذ مرخصا في الفعل والترك؛ لاستقلال عقله بقبح العقاب بلا بيان؛ فإذا جعل المولى الحجية للأمارة، يكون ذلك أفضل للمكلف؛ لأن المقدار الذي تصيب الأمارة الواقع فيه، يكون خيرا جاء من قبل التعبد بها، ولو كان مورد الإصابة قليلا، فإن ذلك القليل كان يفوت لولا التعبد بها، فلا يلزم من التعبد إلا الخير.

والإنصاف: إنه لا يلزم من التعبد بالأمارات في حال الانفتاح محذور تفويت الملاك، أو الإلقاء في المفسدة، فضلا عن حال الانسداد؛ وذلك لأن المراد من انفتاح باب العلم هو إمكان الوصول إلى الواقع بالسؤال عن شخص الإمام (عليه السلام) ، لا على فعلية الوصول؛ فإن انفتاح باب العلم بهذا المعنى غير ممكن. وعليه، فالمراد من الانفتاح هو إمكان الوصول؛ أي القطع بالحكم وإن كان كان مخالفا للواقع؛ إذ قد يكون الشخص متمكنا من الوصول إلى الواقع، ولكن لم يصل إليه؛ لاعتماده على الطرف المفيد للعلم مع خطأ علمه، وكونه من الجهل المركب.

ودعوى أن هذا الفرض داخل في صورة الانسداد - كما عن السيد الخوئي لأن المراد من العلم هو المصادف لا الأعم منه ومن الجهل المركب - في غير محلها، بل المراد من الانفتاح هو إمكان الوصول؛ أي القطع بالحكم الواقعي ولو كان جهلا مركبا.

وبالجملة، فلا إشكال في التعبد بالأمارة في صورة الانفتاح؛ إذ على هذا تكون الأمارات الظنية في نظر الشارع؛ كالأسباب المفيدة للعلم التي يعتمد عليها الإنسان من حيث الإصابة والخطأ؛ أي كانت إصابة هذه الأمارات وخطأها بقدر غير العلمية؛ لعدم تفويت الشارع من التعبد مصلحة على العباد، ولا إلقائهم في المفسدة. فما يظهر من الشيخ الأنصاري من الاعتراف بالقبح في صورة الانفتاح في غير محله؛ لما عرفت من إمكان أن تكون الأمارات غير العلمية من حيث الإصابة والخطأ كالعلم.

ثم إن أبيت عن ذلك كله، وقلت: إن في التعبد بالأمارة يلزم تفويت المصلحة[2] أو الإلقاء في المفسدة؛ لكونها أكثر خطأ من العلم، إلا أنه لا بأس بذلك إذا كان هناك مصلحة أهم تلزم رعايتها، وهي مصلحة التسهيل.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo