< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/11/18

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع : دليل المشهور على إمكان التعبد:

قال صاحب الكفاية : ( وليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقا أصلا متَّبعا عند العقلاء، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع؛ لمنع كون سيرتهم على ترتيب آثار الإمكان عند الشك فيه، ومنع حجيتها - لو سلم ثبوتها - لعدم قيام دليل قطعي على اعتبارها[1] ).

ذهب المشهور إلى إمكان أن يتعبدنا الشارع بالأمارة غير العلمية وقوعا؛ بدليل القطع بعدم لزوم محال من ذلك، ولكن الشيخ الأعظم لم يرتض هذا الدليل؛ حيث قال: ( وفي هذا التقرير نظر؛ إذ القطع بعدم لزوم المحال في الواقع موقوف على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسِّنة والمقبِّحة، وعلمه بانتفائها، وهو غير حاصل فيما نحن فيه. فالأولى أن يقرَّر هكذا: إنا لا نجد في عقولنا بعد التأمل ما يوجب الاستحالة، وهذا طريق يسلكه العقلاء في الحكم بالإمكان)[2] .

وتوضيحه: إن العقل لا يحكم بحسن شيء أو قبحه إلا إذا أحاط به إحاطة تامة بجميع جهاته المحسِّنة والمقبِّحة، ونفى عنها المزاحم لها، فإذا أحاط العقل بجميع الجهات المحسِّنة للعدل مثلا، ونفى عنه كل قبح مزاحم لحسنه، حكم بحسنه، وكذا إذا أحاط بجميع الجهات المقبِّحة للظلم، ونفى عنه كل حسن مزاحم لقبحه، حكم بقبحه. ولا يخفى أن هذه الإحاطة قلما تحصل، ومن هنا كانت الأحكام العقلية العملية نادرة. وعليه، فإن دعوى القطع بعدم لزوم محال من التعبد بالأمارة غير العلمية متوقفة على إحاطة العقل بجميع الجهات المحسِّنة لهذا التعبد، ونفيه أي قبح مزاحم لحسنه، ودون ذلك خرط القتاد.

وبهذا اتضح لك أن دليل المشهور على إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية في غير محله. ومن هنا ذكر أن يستدل عليه بعدم عثور العقل على لازم محال من التعبد بها، وعدم العثور لا يتوقف على إحاطة العقل التامة بجميع الجهات المحسنة والمقبحة لهذا التعبد.

وعليه، إذا شككنا بإمكان شيء - ومنه التعبد بالأمارة غير العلمية - أو امتناعه، فيكفي الرجوع إلى العقل للتفتيش عن لازم محال له، فإن لم نعثر على شيء من ذلك، فنحكم بالإمكان؛ فإن هذا السبيل الذي يسلكه العقلاء للحكم بالإمكان. وعليه، فيكون الأصل هو الإمكان.

هذا حاصل إشكال الشيخ الأنصاري على دليل المشهور بإمكان التعبد بالأمارة غير العلمية، وحلِّه لهذا الإشكال. وقد سكت المصنف عن إشكاله على المشهور مما يكشف عن موافقته له، إلا أنه أشكل على حله بإشكالات ثلاثة:

الأول : لم يثبت قيام السيرة العقلائية على الاكفتاء بعدم العثور على لازم محال لشيء لإثبات إمكانه.

الثاني : لو سلمنا بقيام هذه السيرة، إلا أنه لا يوجد على حجيتها دليل قطعي، والظن بالحجية لا يكفي؛ لأن الكلام في إمكان التعبد بالظن، فكيف يستدل على الإمكان المذكور بالظن؟! فإنه يلزم منه الدور.

وتوضيحه : إن هذا الاعتماد على الظن المذكور يتوقف على حجيته، وحجيته تتوقف على إمكان التعبد به، وهو موقوف على حجية السيرة، وهي موقوفة على جواز الاعتماد على الظن بحجيتها.

الثالث : لا يخلو الحال، فإن أثبتنا وقوع التعبد خارجا، فيغنينا ذلك عن الخوض في دليل إمكانه؛ إذ الوقوع أكبر شاهد على الإمكان. وإن لم نثبت ذلك؛ بأن لم يقم دليل على الوقوع، فلا فائدة حينئذ في إثبات إمكان التعبد؛ إذ الأثر العملي مترتب على فعلية التعبد، لا على مجرد إمكانه، فتأمل.

وفيها : أولا: إن كان مراد الشيخ الأعظم من دليله هو الحكم بإمكان التعبد لعدم عثور العقل على لازم له محال قبل ورود الدليل من الشارع المقدس عليه، فإشكال صاحب الكفاية الأول والثاني واردان؛ إذ لم يثبت قيام السيرة على ذلك، وعلى فرض وجودها فهي ظنية، والظن بالحجية لا يكفي؛ لأن الكلام في إمكان التعبد بالظن، فكيف يستدل على الإمكان المذكور بالظن؟!

وإن كان مراده - كما لا يبعد - الحكم بإمكان التعبد لعدم عثور العقل على لازم له محال، ولكن بعد ورود الدليل عليه؛ كما لو شككنا بعد ورود الدليل على حجية خبر الواحد بلزوم محال من التعبد به، فهنا لا يكون الإشكال الأول والثاني واردين؛ لأن العقلاء حينئذ يتمسكون بظاهر دليل الحجية لإثبات إمكانه ووقوعه.

وعليه، فيكفي القائل بالإمكان مجرد احتماله وعدم قيام برهان عقلي على استحالته في ترتيب آثار الممكن عليه في مقام العمل وعدم طرح الدليل الدال على التعبد به؛ فإن المانع من الأخذ بما دل على التعبد بالظن وترتيب الأثر عليه، إنما هو قيام البرهان على استحالته وامتناعه؛ فمع فرض احتمال إمكانه وجدانا، وعدم قيام برهان عقلي على استحالته، يؤخذ بما دل على التعبد به، ويترتب عليه أثر الممكن من دون حاجة إلى إتعاب النفس في إثبات الإمكان والقطع به كي يرد عليه الإشكال، كما عن الشيخ وغيره بتوقفه على الإحاطة بجميع الجهات المؤثرة في الحسن والقبح والعلم بها، وهو غير حاصل.

هذا فيما يتعلق بالإشكال الأول والثاني. أما الإشكال الثالث، فهو غير وارد مطلقا؛ إذ لا تشترط الفائدة العملية في صحة النـزاع، بل تكفي الفائدة العلمية الخالصة.

إذًا، اتضح لك أن المصنف لم يرتض دليل المشهور على الإمكان، ولا حل الشيخ الأنصاري، وإنما سلك مسلكا آخر، وحاصله: إن قيام الدليل على وقوع التعبد به هو أقوى دليل على الإمكان؛ لأن فعلية التعبد به فرع إمكانه؛ فالدليل على الوقوع دليل على الإمكان.

وفيه: أولا: إن النـزاع في إمكان التعبد مفروض قبل النـزاع في وقوعه، فلا وجه للاستدلال على إمكانه بدليل وقوعه؛ إذ بعد قيام الدليل على وقوعه لا نزاع في إمكانه.

ثانيا: إن دليل الوقوع غير ملزم للقائلين بعدم الإمكان؛ كابن قِبَة؛ وذلك لأنه بعدما ثبت لديهم عدمه، أوّلوا أدلة الوقوع بما ينسجم مع دعواهم العدم، مما يقطع الطريق أمام من شهرها بوجههم إثبات الإمكان بالوقوع؛ وهذا نظير تأويل آيات التجسيم لتنافيها مع ما ثبت بالدليل العقلي القطعي أنه ليس بجسم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo