< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/11/17

بسم الله الرحمن الرحيم

إذا عرفت ذلك، وأن الظن لا يقتضي بذاته الحجية، وأنه لا يكون حجة إلا بجعل شرعي، فاعلم أنه اتفق الأعلام على أن الظن ليس حجة في إثبات التكليف؛ فلو ظننا بوجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فهذا الظن لا يثبت التكليف. كما اشتهر بين الأعلام أن الظن لا يكتفى به في الفراغ، ولكن ربما يظهر من بعض الأعلام؛ كالمحقق الخونساري والشيخ البهائي ، الاكتفاء بالظن بالفراغ؛ ولعله من جهة عدم لزوم دفع الضرر المحتمل، وتوضيحه:

أولا : إن الضرر تارة يكون دنيويا، وأخرى أخرويا. أما الضرر الدنيوي، فلا دليل على وجوب دفعه إلا إذا لزم هلاك النفس أو كان جناية عليها؛ بحيث يعد ذلك ظلما؛ كبتر عضو رئيسي من البدن ونحوه. وأما الضرر الأخروي، وهو العقاب، فلا خلاف في وجوب دفعه في صورة تنجز التكليف؛ حيث لا مؤمن من العقاب يوم القيامة، ومقتضى القاعدة أن هذا العقاب المستحَق على العاصي يصبح فعليا يوم القيامة إلا إذا نالته شفاعة الشافعين مثلا، إلا أن ذلك لا ينفي أصل استحقاق العقاب.

هذا في صورة العلم باستحقاق العقاب، أما في صورة احتمال الضرر؛ أي العقاب، فهل يجب دفعه في هذه الصورة أم لا؟

والجواب : أما الضرر المحتمل في الشبهات الحكمية قبل الفحص، فيجب دفعه لتنجز التكليف عليه؛ فلو احتمل وجوب الدعاء عند رؤية الهلال، فيجب عليه قراءته قبل الفحص، وليس هذا موردا للبراءة العقلية حتى يرجع إليها لعدم البيان؛ فإن موردها عدم وجدان البيان بعد الفحص عنه لا قبل ذلك، فلا يختلط عليك الأمر. وأما بعد الفحص فلا ضرر محتمل حتى يجب دفعه، فتجري البراءة بقسميها بلا إشكال.

إذا عرفت ذلك، فإن الكلام في الضرر الأخروي، وقد علمت أن دفعه حال كونه محتملا واجبٌ قبل الفحص. وقد عرفت أيضا أنه لا يكتفى بالظن بالفراغ، ولكن ربما ظهر من المحقق الخونساري والشيخ البهائي الاكتفاء بالظن بالفراغ، ولعله من جهة عدم لزوم دفع الضرر المحتمل؛ وتوضيحه: إن عدم الاكتفاء بالظن بالفراغ ملازم لاحتمال بقاء التكليف وعدم سقوطه، وبقاؤه مستلزم لاحتمال الضرر على مخالفته، ودفع الضرر المحتمل غير لازم، فلا تجب مراعاة احتمال بقاء التكليف، وإذا لم تجب مراعاته، فيكتفى حينئذ بالظن بالفراغ.

وفيه : أولا : إن مورد تلك القاعدة هو الشك في ثبوت التكليف لا سقوطه الذي يكون المرجع فيه لقاعدة الاشتغال؛ لأن الاشتغال اليقيني يستدعي الفراغ اليقيني.

ثانيا: لو سلمنا بعدم وجوب دفع الضرر المحتمل، فإن عدم الوجوب هذا - وهو سبب خارجي عن الظن - هو الذي يكون قد اقتضى حجية الظن بالفراغ، فيكون خارجا عن محل الكلام؛ لأن الكلام في اقتضاء الظن بذاته الحجية لا بسبب خارج عنها.

إذًا الإنصاف : إن الظن بما هو ظن لا يثبت التكليف ولا يسقطه.

 

الأمر الثاني: إمكان التعبد بالإمارة غير العلمية

قال صاحب الكفاية : ( ثانيها: في بيان إمكان التعبد بالأمارة الغير العلمية شرعا، وعدم لزوم محال منه عقلا، في قبال دعوى استحالته للزومه، وليس الإمكان بهذا المعنى، بل مطلقا أصلا متبعا عند العقلاء، في مقام احتمال ما يقابله من الامتناع ...[1] ).

قبل الشروع في الأمر الثاني - من الأمور التي قدّمها المصنف على الخوض فيما هو المهم من هذا المقصد من بيان ما قيل باعتباره من الأمارات - وهو إمكان التعبد بالأمارة غير العلمية، نتطرق إلى بيان أقسام الإمكان، فنقول:

الإمكان تارة يكون ذاتيا: ( وهو ما لا يكون طرفه المخالف واجبا بالذات وإن كان واجبا بالغير ) ، وهو على قسمين: الإمكان الخاص: ( وهو سلب الضرورة عن الطرفين) ؛ نحو: (كل إنسان كاتب بالإمكان الخاص)؛ فإن الكتابة وعدم الكتابة ليسا ضروريين له. والإمكان العام: ( وهو سلب الضرورة عن الطرف المخالف[2] ) . ولا إشكال في أن التعبد بالأمارة غير العلمية ممكن ذاتا، إلا أنه ليس محل الكلام.

وأخرى يكون الإمكان قياسيا؛ وهو سلب الضرورة بالنظر إلى القواعد المعلومة شرعا أو عقلا؛ كما يقال: التكليف بالضدين على نحو الترتب ممكن؛ بمعنى أنه ليس فيما بين أيدينا من القواعد ما يوجب امتناعه؛ إذ لا يلزم منه اجتماع الضدين أو النقيضين أو الدور أو نحو ذلك مما ثبتت استحالته؛ مثلا: لو دخل المكلف المسجد وقت الصلاة، فوجد نجاسة في أرضه، فيكون مخاطبا حينئذ بالأهم، وهو إزالة النجاسة لوجوبه الفوري، وعلى تقدير العصيان يخاطب بالمهم، وهو الصلاة. وعليه، فإذا لم يزل النجاسة يصبح مخاطبا بكل منهما، ولكن بالقياس إلى ترتب الأمر المهم على ترك الأهم. وهذا الإمكان ليس هو محل الكلام في هذا الأمر أيضا.

وثالثا يكون الإمكان احتماليا، وهو مفاد ما نسب إلى ابن سينا: "كل ما قرع سمعك من غرائب الأكوان، فَذَرْه في بقعة الإمكان، ما لم يَذُدْك - أي يدفعك - عنه قائم البرهان"؛ فكلما قرع سمعك من الغرائب؛ كأن يكون لزيد رأسان، فاحتملت وقوعه خارجا على طبق ما قرع سمعك، ما لم يمنعك عنه واضح البرهان. وهذا الإمكان ليس هو محل الكلام هنا أيضا.

ورابعا يكون الإمكان استعداديا: "وهو استعداد الشيء ذاتا ليصير شيئا آخر"؛ كاستعداد النطفة لأن تصير إنسانا. وليس هو محل الكلام أيضا.

وخامسا يكون الإمكان وقوعيا وهو: ( كون الشيء بحيث لا يلزم من فرض وقوعه محال ) ؛ أي ليس ممتنعا بالذات أو بالغير، وهو: "سلب الامتناع عن الجانب الموافق[3] "؛ فإذا قيل: (الإنسان موجود بالإمكان الوقوعي)، يفهم منه أن الوجود ليس ممتنعا ذاتا بالنسبة إليه، ولا يلزم من وجود الإنسان ووقوعه محال.

وقد عبر الميرزا النائيني عن هذا الإمكان ﺑ(الإمكان التشريعي) بتوجيه أنه لا يلزم منه محظور شرعي؛ من قبيل تحليل الحرام، أو تحريم الحلال، أو الوقوع في المفسدة، أو تفويت المصلحة، على ما يأتيه بيانه. ولو اكتفى الميرزا بمجرد الاصطلاح لكان سهلا؛ إذ لا مشاحة فيه، إلا أنه جعل هذا القسم في قبال الإمكان التكويني، وبذلك يكون قد قسَّم الإمكان إلى تكويني وتشريعي، وهو في غير محله.

ومهما يكن من شيء، فإن الإمكان الوقوعي هو المقصود من هذا الأمر، والمشهور بين الأعلام أن التعبد بالأمارة غير العلمية ممكن وقوعا، وقد خالف في ذلك ابن قِبَة – بكسر القاف وفتح الباء -؛ حيث ذهب إلى امتناع ذلك؛ بحجة لزومه المحال على الحق ؛ فمثلا لو تعبدنا الشارع بخبر الواحد الدال على حرمة شيء مثلا، وهو في الواقع واجب، للزم اجتماع الضدين من جهة، وتحريم الحلال من جهة أخرى، وتفويت المصلحة الملزمة على المكلفين من جهة ثالثة، ولو تعبدنا بخبر الواحد الدال على وجوب شيء، وهو في الواقع محرم، للزم اجتماع الضدين من جهة، وتحليل الحرام من جهة أخرى، وإيقاع المكلفين في المفسدة من جهة ثالثة. وكل ذلك على الحق محال، ولذلك فالتعبد بالأمارة غير العلمية غير ممكن وقوعا.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo