< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/07/23

بسم الله الرحمن الرحیم

وأما المعنى الثالث المنسوب إلى الأخباريين، وهو عدم حجية القطع الناشئ من مقدمات عقلية، فالبحث فيه من جهتين: الأولى: هل يمكن ثبوتا المنع عن العمل بالقطع الناشئ من مقدمات عقلية؟ والثانية: لو فرضنا إمكانية المنع ثبوتا، فهل هناك أدلة على هذا المنع؟
أما البحث من الجهة الثبوتية، فقد ادعى جمتعة من الأخباريين إمكانية المنع عن العمل بالقطع، والإنصاف عدم إمكانيته؛ لما عرفت من أن حجية القطع ذاتية غير قابلة للانسلاخ عنه. وعليه، فيستحيل المنع عن العمل به؛ لاستلزامه التناقض واقعا أو في نظر القاطع.
وقد حاول الميرزا النائيني تخريج كلام القائلين بالمنع من الأخباريين، بأنه ليس مرادهم التصرف في القطع وسلخ الحجية عنه، وإنما مرادهم التصرف في المقطوع به، وهو الحكم؛ فإنه مقيَّد بأن لا يكون القطع به من غير الكتاب والسنة؛ واستدل على كلامه بما يلي
أولا: قلنا سابقا أنه لا يمكن أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه؛ للزومه الدور؛ حيث يكون القطع بالحكم متوقفا على الحكم، والحكم متوقف على القطع به، وهذا من توقُّف الشيء على نفسه.
ثانيا : بما أنه لا يمكن التقييد لا يمكن الإطلاق أيضا؛ لأنهما يتقابلان تقابل العدم والملكة. ولكن الإهمال مستحيل في مقام الثبوت؛ للزومه الجهل أو العجز على الحق، فبما أنه لا يمكن الإطلاق والتقييد في الدليل الأول، فنرجع إلى متمِّم الجعل؛ فإن كان الملاك في جعل الحكم لخصوص العالم به، فلا بد من تقييده به، وإن كان في الأعم منه، فلا بد من تعميمه بجعل ثانوي يعبَّر عنه ﺑ (متمم الجعل)، وهذا الجعل الثاني يبين اختصاصه بالعالم أو شموله للجاهل أيضا، وهذا لا يكون مستلزما للدور. وقد ثبت في بعض المواضع تخصيص الحكم بالعالم به؛ كما في مسألة الجهر والإخفات، ووجوب التقصير في الصلاة؛ حيث تبين أن هذه الأحكام مختصة بالعالم بها.
والخلاصة : إن تقييد الحكم بالقطع الحاصل من سبب خاص، أو بعدم كونه مقطوعا به من طريق خاص، مما لا مانع منه بمتمم الجعل.
هذا كله في مقام الثبوت، وأما في مقام الإثبات، فلم يدل دليل على المنع عن العمل بالقطع بهذا المعنى الراجع إلى تقييد المقطوع به، إلا في موارد قليلة؛ كالقطع الحاصل من القياس على ما يظهر من صحيحة أبان بن تغلب قال: "قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما تقول في رجل قطع إصبعًا من أصابع المرأة، كم فيها؟ ( قال: عَشَرَةٌ من الإبل قلت: قطع اثنين؟قال:عشرون،قلت:قطع ثلاثا؟ قال: ثلاثون، قلت: قطع أربعا؟ قال: عشرون، قلت:سبحانالله!يقطعثلاثا فيكون عليه ثلاثون، ويقطع أربعا فيكون عليه عشرون! ) إن هذا كان يبلغنا ونحن بالعراق فنبرأ ممن قاله ونقول: الذي جاء به شيطان، فقال: مهلا يا أبان، هذا حكم رسول الله 6، إن المرأة تعاقل الرجل إلى ثلث الدية، فإذا بلغت الثلث رجعت إلى النصف، يا أبان إنك أخذتني بالقياس، والسنة إذا قيست مُحِقَ الدين[1].
والجواب : أما بالنسبة إلى المقدمة الأولى، فهي في محلها؛ فإن أخذ القطع بالحكم في موضوع نفسه محال؛ للزومه الدور. وأما بالنسبة إلى المقدمة الثانية، فهي في غير محلها؛ لأن الإطلاق والتقييد في مقام الثبوت لا يتقابلان تقابل العدم والملكة، بل يتقابلان تقابل الضدين، كما ذكرنا ذلك مفصلا في مبحث (التعبدي والتوصلي)، وبالتالي إذا امتنع تقييد الحكم بالقطع به، تعين الإطلاق، فتشترك الأحكام حينئذ بين العالم والجاهل بلا حاجة إلى متمِّم الجعل. وقد تقدم فيما يخص أمثلة الجهر والإخفات والقصر أن الشارع إنما اجتزأ بصلاة الجاهل الإخفاتية في موضع الجهر والعكس، واجتزأ بصلاته التمام في موضع القصر، من باب التسهيل عليه، لا من باب تقيد الحكم بخصوص القاطع به. ومن هنا اتفق الأعلام على أن الجاهل المقصِّر وإن صحت صلاته في هذه الصور، إلا أنه يستحق العقاب، وهذا كاشف عن عدم اختصاص الحكم بالعالم. وقد تبين بما ذكرناه بطلان ما ذكره من صحة أخذ القطع بالحكم في موضوعه شرطا أو مانعا بمتمم الجعل؛ لأنه متوقف على كون الجعل الأولي بنحو الإهمال، وقد عرفت كونه بنحو الإطلاق.
وعليه، بما أن تقييد الحكم بالقطع به ممتنع ثبوتا، فلا معنى حينئذ للبحث في مقام الإثبات. وأما الاستدلال بصحيحة أبان بن تغلب، فهو في غير محله؛ لوضوح أن الإمام لم يمنعه عن العمل بالقطع حال قطعه، وإنما أزال عنه القطع ببيان الواقع، وهذا ما يتفق كثيرا في المحاورات العرفية، فربما يحصل القطع بشيء لأحد، ويرى صاحبه أن قطعه مخالف للواقع، فيبين له الواقع، ويذكر الدليل عليه، فيزول قطعه.
وأما ما ذكره السيد الخوئي من أنها رواية ضعيفة، فهو في غير محله؛ فإن الرواية حسنة بأحد طريقي الكافي، وصحيحة بطريق التهذيب، بل وبطريق الفقيه أيضا؛ لأن أحمد بن محمد بن يحيى العطار الذي هو شيخ الصدوق، وإن لم يرد فيه توثيق بالخصوص، إلا أنه من المعاريف، وهذا يكشف عن وثاقته. ولعل تضعيف السيد الخوئي لها ناظر إلى عدم وثاقة أحمد بن محمد بن يحيى بالخصوص.
كما أن ما ذكره من أن الرواية غير ظاهرة في القطع، وإنما ظاهرة في كون أبان مطمئنا بالحكم فحسب، فهو في غير محله أيضا؛ لأنها واضحة الظهور في القطع، ويدل عليه استنكار أبان الشديد على خلاف ما كان قاطعا به، مما يكشف عن أنه لم يكن يحتمل الخلاف البتة.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo