< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/03/09

بسم الله الرحمن الرحیم

ثم قال صاحب الكفاية : "والتحقيق أن يقال: إنه حيث دار الأمر بينالتصرففيالعام بإرادة خصوص ما أريد من الضمير الراجع إليه، أو التصرف في ناحية الضمير: إما بإرجاعه إلى بعض ما هو المراد من مرجعه، أو إلى تمامه مع التوسعفيالإسنادبإسناد الحكم المسند إلى البعض حقيقة إلى الكل توسعا وتجوزا، كانتأصالةالظهورفيطرفالعام سالمة عنها في جانب الضمير؛ وذلك لأن المتيقَّن من بناء العقلاء هو اتباع الظهور في تعيين المراد، لا في تعيين كيفية الاستعمال، وإنه على نحو الحقيقة أو المجاز في الكلمة أو الإسناد مع القطع بما يراد، كما هو الحال في ناحية الضمير".[1]

يقول: بعد تعقّب العام بضمير يعود إلى بعض أفراده، فدار الأمر بين مخالفة أصالة ظهور العام في العموم، وبين مخالفة أصالة الظهور في الضمير المعبَّر عنها ﺑ(أصالة عدم الاستخدام) لأن الاستخدام خلاف الظاهر؛ أي دار الأمر بين أصالة العموم وأصالة عدم الاستخدام، فتقدَّم أصالة العموم؛ لأن تقديم أصالة عدم الاستخدام متوقف على التمسك بأصالة الحقيقة في مورد الشك في كيفية الإرادة، ولم تقم سيرة العقلاء على ذلك في هذا المورد.
وتوضيحه: إن منشأ حجية الظهورات هو بناء العقلاء، وهو دليل لبي، فيقتصر فيه على القدر المتيقَّن،وهو تبانيهم على العمل بالظواهر حين الشك في المراد الواقعي؛ كما لو قال: (أكرم كل عالم)، وشككنا هل مراده الواقعي جميع أفراد العلماء أم حصة خاصة منهم، فهنا يصح التمسك بأصالة العموم لإثبات أن مراده جميع الأفراد. وكذا لو قال: (رأيت أسدا)، وشككنا هل مرادهالواقعي المعنى الحقيقي وهو الحيوان المفترس أم المعنى المجازي وهو الرجل الشجاع؟ فهنا يصح التمسك بأصالة الحقيقة لإثبات أن مراده واقعا هو الحيوان المفترس.
أما لو كنا نعلم بالمراد الواقعي وإنما نشك في كيفية الإرادة والاستعمال؛ وذلك كما لو قال: (رأيت أسدا في السوق)، وعلمنا أنه يريد في الواقع الرجل الشجاع، ولكنا شككنا في كيفية إرادته له، وأنه أراد الرجل الشجاع واستعمل لفظ الأسد فيه على نحو الحقيقة أم المجاز؟ فهنا لا يمكن التمسك بأصالة الحقيقة؛ لأننا لم نعلم بتباني العقلاء على التمسكبها في هذا المورد؛ أي في مورد الشك في كيفية الإرادة؛ إذ القدرالمتيقَّن من سيرتهم هوالتمسك بأصالة الحقيقة في مورد الشك في المراد الواقعي، فهذا ما ينبغي الاقتصار عليه.

فإذا عرفت ذلك، فإنه مع الشك في المراد الواقعي من (المطلَّقات)، فلا إشكال في التمسك بأصالة العموم لإثبات أن المراد كل المطلَّقات؛ لما عرفت أنه القدر المتيقن من جريانها.

أما بالنسبة إلى الضمير في (بعولتهن)، فإن المراد الواقعي منه معلوم من الخارج، وهو المطلقات الرجعيات، ولكنا لا نعلم كيفية استعماله فيهن، وأنه هل هو على نحو الحقيقة، وبالتالي يتطابق الضمير مع مرجعه بلا مجازية فيه ولا في الإسناد، فيكون المراد حينئذ من (المطلقات) خصوص الرجعيات لا عمومهن، أو على نحو المجاز بأن أريد من مرجعه جميع المطلَّقات، والتجوّز حينئذ في ناحية الضمير.
وفي هذه الصورة لا يمكن التمسك بأصالة الحقيقة؛ لما عرفت من أن العقلاء لم
يتبانوا على التمسك بها في موارد الشك في كيفية الإرادة والاستعمال، فلا تقوم لأصالة عدم الاستخدام قائمة بعدما كانت مبتنية على حمل استعمال الضمير في الرجعيات على نحو الحقيقة، فتبقى أصالة العموم بلا معارض، ونحكم بوجوب التربص على جميع المطلَّقات،
ونكون قد ارتكبنا خلاف الظاهر في الضمير، وهو ما يعرف ﺑ(الاستخدام).
ثم قال : "وبالجملة: أصالة الظهور إنما يكون حجة فيما إذا شك فيما أريد، لا فيما إذا شك في أنه كيف أريد، فافهم، لكنه إذا انعقد للكلام ظهور في العموم؛ بأن لا يعد ما اشتمل على الضمير مما يكتنف به عرفا، وإلا فيحكم عليه بالإجمال، ويرجع إلى ما يقتضيه الأصول".
بعد أن حكم صاحب الكفاية بتقديم أصالة العموم في الصورة المتقدمة، ينبه على أنه في صورة احتفاف العام بما يصلح للقرينية على التخصيص، يصبح العام مجملا، وحينئذ لا معنى للتمسك بأصالة العموم؛ لأن التمسك بها إنما يصح إذا انعقد للكلام ظهور في العموم، وهو منتف في المقام؛ لما عرفت من احتفافه بما يصلح للقرينية.
أما تطبيقه على الآية المباركة، فهو أنها محتفة بضمير (بعولتهن) الذي يصلح للقرينية على المراد من (المطلقات)؛ لأننا نشك في كونه قرينة على التخصيص في الواقع أم لا؟ مما يقدح في ظهور العام ويجعله مجملا، وأنه هل المراد منه كل المطلقات أم خصوص الرجعيات؟ فيتعين حينئذ الرجوع إلى الأصل العملي.

وقد فهم بعض الأعلام منهم السيد أبو القاسم الخوئي أن صاحب الكفايةبكلامه هذا قد تراجع عن قوله المتقدم بتقديم أصالة الظهور؛ حيث فهموا منه أنه قائل بأن الضمير في (بعولتهن) صالح للقرينية، وبالتالي هو من المتوقفين في المسألة؛ إذ مع عدم إمكان التمسك بها لطرو الإجمال على العام، ومع عدم إمكان التمسك بأصالة عدم الاستخدام؛ لما قدمه من أن التمسك بها متوقف على التمسك بأصالة الحقيقة في مورد الشك في كيفية الإرادة، ولم تقم سيرة العقـلاء على ذلك في هذا
المورد، فيكون موقفه النهائي بالنسبة إلى الآية المباركة هو الرجوع إلى الأصل العملي.

والإنصاف أن صاحب الكفاية قد سعى بكلامه إلى تقديم كبرى، وهي أنه لا يصح التمسك بأصالة العموم حينما يكون الكلام محتفا بما يصلح للقرينية على المراد،
ولكن لم يظهر منه تبني كون الآية المباركة صغرى لهذه الكبرى. والله العالم.
ثم قال : "إلا أن يقال باعتبار أصالة الحقيقة تعبدا، حتى فيما إذا احتف بالكلام ما لا يكون ظاهرا معه في معناه الحقيقي كما عن بعض الفحول".
يقول: ما تقدم من أنه لا يصح التمسك بأصالة العموم فيما لو لم ينعقد للعام ظهور بسبب احتفافه بما يصلح للقرينية على التخصيص، هذا إذا لم نقل بأن أصالة الحقيقة وغيرها من الأصول اللفظية هي أصول تعبدية تجري حتى مع عدم انعقاد ظهور كاشف عن المراد الواقعي للمتكلم، كما نسب إلى صاحب الفصول، وإلا فإنه بناء على تعبدية الأصول اللفظية يمكن التمسك بأصالة العموم لإثبات كون المراد الواقعي للمتكلم من العام (المطلقات) هو العموم حتى لو كان مجملا بسبب احتفافه بما يصلح للقرينية على التخصيص، وبالتالي لم ينعقد له ظهور.
وفيه: إن هذا الكلام في غير محله؛ لعدم ثبوت أصالة الحقيقة تعبدا.
أما الميرزا النائيني، فيقول: إن أصالة العموم مقدَّمة، بل هي متعيِّنة بلا مزاحم؛ لأن موضوع الاستخدام غير متحقق أصلا حتى يقال إن الأصل عدمه وأن الأمر دائر بين تقدمه وتقدم أصالة العموم. أما انتفاء موضوع الاستخدام؛ فلأمرين:
الأمر الأول:
وهو أن الاستخدام - كما تقدم تعريفه في المختصر - إنما يتم فيما لو كان لدينا لفظ له معنيان، فيراد منه أحد المعنيين، ويراد من ضميره العائد على اللفظ معنى آخر، وليس لدينا في المقام معنيان، بل معنى واحد؛ لأن الخاص، وهو المطلقات الرجعيات، ليس معنى مغايرا للعام، وهو المطلقات، حتى يقال عن الأول مجازي وعن الثاني حقيقي؛ وذلك لما تقدم من أن العام بعد التخصيص يبقى معنى حقيقيا. وبالتالي، فبما أن استعمال العام (المطلقات) في العموم استعمال حقيقي، كذلك استعمال الضمير في بعض أفراد العام، وهن المطلَّقات الرجعيات استعمال حقيقي. وعليه، فعود الضمير
على خصوص الرجعيات ليس رجوعا لغير المراد من المرجع العام حتى يقال أنه استخدام.
الأمر الثاني:
وهو أن الضمير في (بعولتهن) يعود إلى جميع المطلقات لا إلى خصوص الرجعيات؛ إذ لو خلِّينا والآية المباركة قاطعين النظر عن أي دليل خارجي، لفهمنا من قوله تعالى: (بعولتهن) بعولة جميع المطلقات لا الرجعيات فحسب. وعليه، لم يتحقق موضوع الاستخدام، وهو إرادة معنى من الضمير غير المعنى المراد من مرجعه؛ لأن المعنى المراد من مرجع الضمير ومن الضمير نفسه معنى واحد، وهو جميع المطلقات.

ثم قال أن استفادة إرادة خصوص الرجعيات من الضمير حصلت بقرينة قوله تعالى: (أحق بردهن)؛ أي من عقد الحمل، من باب تعدد الدال والمدلول.

ولكن الحق أن (أحق بردهن) لا تصلح قرينة وحدها وبقطع النظر عن دليل خارجي للدلالة على إرادة خصوص الرجعيات، بل تدل على أحقية البعولة إرجاع كل مطلقة سواء كانت رجعية أم لا؛ إذ ليس في الآية المباركة ما يدل على إرادة خصوص الرجعيات، وإنما استفدنا ذلك من الروايات. ولأجل ذلك يكون حاله حال المخصِّص المنفصل؛ يعني أنه لا يستلزم كون اللفظ مستعملا في خصوص ما ثبت له الحكم في الواقع.

وبالجملة، فكما أن لفظ المطلَّقات في الآية الشريفة استعمل في معنى عام، والتخصيص ببعض أقسامهن إنما كان بدليل خارجي، وهو لا يوجب استعماله في الخاص، كذلك الحال في الضمير، فإنه استعمل في معنى عام، والتخصيص إنما هو من جهة الدليل الخارجي، وهو لا يوجب استعماله في الخاص.
وعليه، فالإنصاف أن الآية المباركة خارجة عن محل النـزاع من دوران الأمر بين
تقديم أصالة العموم وتقديم أصالة عدم الاستخدام؛ وذلك لانتفاء موضوع الاستخدام؛ لما تبين من أن المعنى المراد من الضمير هو المعنى عينه المراد من مرجعه، وليس معنى غيره.

والخلاصة أن استفادة إرادة الخاص من قرينة خارجية؛ أي من قرينة منفصلة، لا يوجب استعمال (المطلَّقات) في خصوص الرجعيات، بل يبقى مستعملا في العموم. كما أن علمنا من قرينة خارجية أن المراد من الضمير خصوص الرجعيات أيضا، لا يوجب استعمال الضمير في خصوص الرجعيات، بل يبقى مستعملا في المعنى عينه الذي استعمِل فيه مرجعه، وهو عموم المطلقات.

إذًا، الدليل المنفصل لا يوجب استعمال العام في الخاص؛ فهو لا يزاحم ظهوره في العموم، وإنما يزاحمه في الحجية. وقد تقدم أنه لو قال المولى: (أكرم العلماء)، ثم قال: (لا تكرم الفساق منهم)، فإن الخاص المنفصل لا يلغي استعمال العام في العموم، ولا يزاحمه في ظهوره فيه، وإنما يزاحمه في حجيته.

والنتيجة أننا نوافق الميرزا من جهة انتفاء موضوع الاستخدام، مما يجعل أصالة العموم متعيِّنة بلا معارض، إلا أننا نخالفه في أن استفادة إرادة خصوص الرجعيات من الضمير لم تحصل من عقد الحمل من باب تعدد الدال والمدلول، وهو قوله تعالى: (أحق بردهن)، وإنما حصلت من الدليل الخارجي، وهي الروايات.

ثم إنه بعد التسليم بوجود موضوع الاستخدام في الآية المباركة، وهو أن المعنى المراد من الضمير، وهو خصوص الرجعيات، مغاير للمعنى المراد من مرجعه (المطلقات)، وهو عموم المطلقات، إلا أنه مع الشك في كيفية استعمال الضمير في هذا المعنى الخاص، وأنه هل هو استعمال حقيقي أم مجازي؟ فهنا يأتي ما ذكره صاحب الكفاية من أنه لا يمكن التمسك بأصالة الحقيقة لإثبات أصالة عدم الاستخدام؛ إذ لم يتبان العقلاء على تطبيق أصالة الحقيقة أو أي أصل لفظي آخر في موارد الشك في كيفية الإرادة، فتخلو الساحة لأصالة العموم بلا معارض. والله العالم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo