< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/03/02

بسم الله الرحمن الرحیم

ثمرة النـزاع:
قد يشكل على هذا البحث بانتفاء الثمرة منه؛ وأن المسألة علمية محضة، كما ذهب إلى ذلك جماعة من الأعلام، ولكن ذهب الأكثر إلى أن المسألة ليست علمية محضة، بل لها ثمرة. وقد ذكر صاحب الكفاية تبعا لغيره ثمرتين:
الثمرة الأولى:
قال صاحب الكفاية : "ربما قيل: إنه يظهر لعموم الخطابات الشفاهية للمعدومين ثمرتان: الأولى: حجية ظهور خطابات الكتاب لهم كالمشافهين. وفيه: إنه مبني على اختصاص حجية الظواهر بالمقصودين بالإفهام، وقد حُقِّق عدم الاختصاص بهم. ولو سلم، فاختصاص المشافهين بكونهم مقصودين بذلك ممنوع، بلالظاهر أن الناس كلهم إلى يوم القيامة يكونون كذلك، وإن لم يعمهم الخطاب، كما يومئ إليه غير واحد من الأخبار".
حاصل هذه الثمرة: إنه بناء على شمول الخطابات للغائبين والمعدومين، فيكون بإمكان هؤلاء التمسك بالظهورات؛ باعتبارهم مقصودون بالإفهام حينئذ، أما لو لم نقل بالشمول، فلا يمكنهم التمسك بها. وبالجملة، فإن الخطابات إن كانت متوجهة إلى الموجودين والغائبين والمعدومين، فيكون المعدومون كالموجودين من حيث كون الظاهر حجة لهم، ويجوز التمسك بالعموم والإطلاقات. وأما إذا لم تكن متوجهة إليهم، فلا تكون تلك العمومات والإطلاقات حجة لهم، فليس لهم حينئذ التمسك بها لإثبات التكاليف في حقهم، بل تكون التكاليف ثابتة لهم بقاعدة الاشتراك في الأحكام.
ويجيب صاحب الكفاية على هذه الثمرة بأنها مبنية على مقدمتين باطلتين، هما:
الأولى: أن الظواهر حجة في حق من قصد إفهامه دون من لم يقصد إفهامه؛ إذ لو قلنا بحجية الظواهر مطلقا ولو في حق من لم يقصد إفهامه، فظواهر الخطابات الشفاهية تكون حينئذ حجة، ولو قلنا باختصاصها بالمشافهين. ولكن هذه المقدمة باطلة؛ لما سيأتي من أن الظواهر حجة في حق الجميع، ولا تختص بمن قصد إفهامه؛ وذلك لأن منشأ حجيتها بناء العقلاء، وسيرتهم قائمة على أن يعمل بالظواهر مطلقا.
الثانية: إن غير المشافهين للخطابات القرآنية ليسوا مقصودين بالإفهام.، وهي باطلة أيضا؛ لأنهم مقصدودين بالإفهام أيضا؛ فإن جميع الناس مقصودون بالخطابات القرآنية؛ إذ القرآن لا يختص بقوم دون قوم، وبزمان دون زمان، بل هو يجري كما يجري الليل والنهار، ولا يمكن القول بأن المقصود بالإفهام هو خصوص الحاضرين دون غيرهم؛ حيث إنه لا يناسب مكانة القرآن، وعظم شأنه، وأنه كتاب إلهي نزل لهداية البشر جميعا. ويدل على ذلك أيضا حديث الثقلين المتواتر بين العامة والخاصة عن النبي 6 أنه قال: "إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض"([1]). فإن معناه أننا مأمورون بالتمسك بالثقلين لنكون ممنوعين من الضلال، فنكون مقصودين بالإفهام.
وكذا ما دل على لزوم رد الشروط إلى القرآن الكريم، لإنفاذ الموافق له دون المخالف؛ كصحية عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله : "المسلمون عند شروطهم، إلا كل شرط خالف كتاب الله، فلا يجوز"([2]). وكذا ما دل على عرض الأخبار المتعارضة على القرآن الكريم؛ كصحيحة عبد الرحمن بن أبي عبد الله قال: "قال الصادق : إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردوه، فإن لم تجدوهما في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه"([3]). وهاتان الصحيحتان واضحتان في رجوع الجميع إلى القرآن الكريم لتمييز الشروط النافذة من غيرها، والحديث الصادر من غيره، فهذا يدل على أن الجميع مقصود بالإفهام.
وعليه، فهذه الثمرة بنيت على مقدمتين باطلتين، وما بني على باطل فهو باطل.
ولكن الميرزا النائيني رأى أنه لا ربط لهذه الثمرة بمقالة القمي؛ فإن الخطابات الشفاهية لو كانت مقصورة على المشافهين ولا تعم غيرهم، فلا معنى للرجوع إليها، وحجيتها في حق الغير سواء قلنا بمقالة المحقق القمي أم لا. وهو على حق فيما قال، كما سيتضح لك إن شاء الله تعالى.
الثمرة الثانية:
قال صاحب الكفاية : "الثانية: صحة التمسك بإطلاقات الخطابات القرآنية بناء على التعميم؛ لثبوت الأحكام لمن وجد وبلّغ من المعدومين، وإن لم يكن متحدا مع المشافهين في الصنف، وعدم صحته على عدمه؛ لعدم كونها حينئذ متكفلة لأحكام غير المشافهين، فلا بد من إثبات اتحاده معهم في الصنف، حتى يحكمبالاشتراكمعالمشافهين في الأحكام، وحيث لا دليل عليه حينئذ إلا الإجماع، ولا إجماع عليه إلا فيما اتحد الصنف، كما لا يخفى".
حاصل هذه الثمرة أنه بناء على شمول الخطابات للمعدومين، فيصح التمسك بإطلاقاتها لإثبات الأحكام للمعدومين بعد وجودهم وبلوغهم. وإن لم يكونوا متحدين مع المشافهين في الصنف، فيمكن التمسك بإطلاقات أدلة وجوب صلاة الجمعة لإثبات وجوبها في حقنا؛ كما في قوله : >يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْيَوْمِالْجُمُعَةِفَاسْعَوْاإِلَىذِكْرِاللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْتَعْلَمُونَ<([4])، مع اختلاف المعدومين صنفا مع المشافهين؛ لكونهم حينئذ متنعمين بشرف حضور المعصوم دون المعدومين، ولكن لما كان نفس الخطاب شاملا لهم، فهم كالمشافهين مكلفون بصلاة الجمعة.
وأما إذا لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين، فلا يجوز لهم حينئذ التمسك بالإطلاق أصلا؛ إذ التمسك به فرع توجه الخطاب، فإذا لم نتمسك بالإطلاق، فلا يبقى في البين إلا دليل الاشتراك في التكليف، ولا دليل على الاشتراك إلا التسالم، وهو دليل لبي لا إطلاق له، فلا يثبت الحكم إلا مع الاتحاد في الصنف. وحيث لا اتحاد في الصنف، فلا دليل على الحكم.
وبالجملة، لا يمكن التمسك بقاعدة الاشتراك في المقام؛ ذلك أن دليلها الإجماع، وهو دليل لبي يقتصر فيه على القدر المتيقن، وهو فيما لو فرض اتفاق الموجودين الآن مع الموجودين سابقا في الصنف، والحال أنهم ليسوا كذلك في المقام؛ لأن السابقين متصفون بالحضور دوننا.
هذا حاصل ما قيل في هذه الثمرة، وقد نفاها صاحب الكفاية أيضا؛ حيث قال : "ولا يذهب عليك أنه يمكن إثبات الاتحاد وعدم دخل ما كان البالغ الآن فاقدا له مما كان المشافهون واجدين له، بإطلاق الخطاب إليهم من دون التقييد به".
حاصله: إنه لا مانع من التمسك بلإطلاقات الخطابات لإثبات اتحاد المعدومين مع المشافهين في الأحكام، وإن لم نقل بشمول الخطابات للمعدومين، وذلك أن المعدومين، وإن لم يصح لهم التمسك بالإطلاقات لرفع دخالة ما شك في دخله مما كان المعدومون فاقدين له، وكان المشافهون واجدين له، ولكن صح التمسك بإطلاقه لرفع دخالته في حق المشافهين، فإذا ارتفع دخله في حقهم، ثبت اتحاد المعدومين معهم في الصنف، وإذا ثبت اتحادهم معهم في الصنف ثبت الحكم لهم حتما بقاعدة الاشتراك.
وبالجملة، إن احتمال دخالة الحضور في موضوع وجوب صلاة الجمعة منفي؛ لأن الشارع لو أراد هذه الخصوصية لقيّد كلامه به. وبالتالي، إذا نفينا الخصوصية بالإطلاق، يمكن الرجوع إلى قاعدة الاشتراك لإثبات الحكم للجميع حتى على القول باختصاص الخطابات بالحاضرين.
ثم أشكل صاحب الكفاية على التمسك بالإطلاق لنفي خصوصية الحضور؛ حيث قال: "وكونهم كذلك لا يوجب صحة الإطلاق، مع إرادة المقيد معه فيما يمكن أن يتطرق الفقدان، وإن صح فيما لا يتطرق إليه ذلك".
يقول: إن التمسك بالإطلاق اعتمادا على عدم ذكر القيد غير كاف مع احتمال اعتماد الشارع على قرينية الموجود؛ فإن الشارع لا يحتاج إلى ذكر قيد الحضور والحال أن المشافهين المقصودين بالخطاب متصفون به مما يغني عن ذكره، واحتمال قرينية الموجود مانعة من التمسك بالإطلاق.
والجواب: إن وجدان الصفة على قسمين: فمرة تكون الصفة لازمة، وأخرى تكون مفارقة، والأولى؛ كالهاشمية والعربية، فهذه يضر احتمالها بالإطلاق، فلا يقال: لو أرادها الشارع لذكرها؛ لأنها ثابتة على كل حال. والثانية؛ كالحضور، فباعتبار أنها منفكة عن الموصوف وليست ملازمة له دائما، فلا يمكن للشارع أن يعتمد عليها، بل لابد أن يذكرها بحال أرادها قيدا، وبالتالي لا يضر احتمالها بالإطلاق.
هذا وذكر السيد الخوئي أن صفة الحضور من الأوصاف اللازمة، ومع احتمال دخله في الحكم لا يمكن التمسك بالإطلاق.
وفيه: إن كلامه إنما يتم لو كان المراد من الحضور هو حضور مطلق المعصوم، وأما لو كان المراد من الحضور - كما هو الظاهر - هو حضور خصوص النبي 6، لكان ذلك من الأوصاف المفارقة، كما لا يخفى.



([1]) وسائل الشيعة باب5 من أبواب صفات القاضي ج27، ص33، ح9 - مسند أحمد ج3، ص14 - صحيح مسلم ج2، ص237 - سنن الترمذي ج5، ص329.
([2]) وسائل الشيعة باب6 من أبواب الخيار ج18، ص16، ح2.
([3]) وسائل الشيعة باب9 من أبواب صفات القاضي ج27، ص118، ح29.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo