< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/02/03

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الثالث: أدلة منكري مفهوم القضية الشرطية
لم يتعرض أغلب الأعلام لأدلة منكري مفهوم القضية الشرطية إما لوهنها، أو لأنها ذكرت في طيات الكلام السابق، إلا أننا سنذكر الأدلة الثلاثة التي ذكرها صاحب الكفاية تمشيا معه.
الدليل الأول:
قال صاحب الكفاية: "ثم إنه ربما استدل المنكرون للمفهوم بوجوه: أحدها: ما عزي إلى السيد من أن تأثير الشرط، إنما هو تعليق الحكـمبه، وليس بممتنع أن يخلفه وينوب منابه شرط آخر يجري مجراه، ولا يخرج عن كونهشرطا، فإن قوله تعالى: ﴿وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ[1] يمنعمن قبول الشاهد الواحد، حتى ينضم إليه شاهد آخر، فانضمام الثاني إلى الأولشرط في القبول، ثم علمنا أن ضم امرأتين إلى الشاهد الأول شرط في القبول، ثم علمنا أن ضم اليمين يقوم مقامه أيضا، فنيابة بعض الشروط عن بعض أكثر من أن تحصى".[2]
هذا الدليل منسوب إلى السيد المرتضى، وحاصله: لا شك أن الشرط المذكور في القضية الشرطية مؤثر في الجزاء على نحو العلة التامة، أما الانحصار الذي هو شرط في تحقق المفهوم، فهو غير ثابت؛ لاحتمال أن يخلف هذا الشرط شرط آخر لم يذكر في المنطوق؛ وذلك كما في مسألة الإشهاد في قوله: ﴿ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ ، فإن البينة تتحقق بشهادة عدلين، إلا أن ذلك لا ينفي احتمال تحققها بعلة تامة أخرى، بل هي متحققة بعدل وامرأتين كما دلت الآية، وبامرأتين ويمين المدعي كما دلت صحيحة منصور بن حازم، قال: "حدثني الثقة عن أبي الحسن، قال: إذا شهد لصاحب الحق امرأتان ويمينه، فهو جائز"[3].
وعليه، كما حل العدل والامرأتان، وحلت الامرأتان ويمين المدعي محل العدلين، يمكن أن يحل شرط آخر غير المذكور في القضية الشرطية محله، وهذا الاحتمال يتنافى مع ثبوت كون الشرط علة منحصرة، وبالتالي يتنافى مع تحقق المفهوم للقضية الشرطية.
والجواب: إن احتمال وجود شرط آخر يحل محل الشرط المذكور في منطوق القضية الشرطية صحيح ثبوتا، وكذا إثباتا، إلا أن هذا الاحتمال لا يضر بالإطلاق؛ بمعنى أنه لا يلغي ظهور الكلام في الإطلاق بحيث يجعله مجملا، وإلا لما بقي إطلاق على إطلاقه، إلا إذا كان هذا الاحتمال إثباتا معتدا به عند العقلاء، فيضر بالإطلاق حينئذ، ولكنه غير موجود حسب الفرض.
الدليل الثاني:
قال صاحب الكفاية: "ثانيها: إنه لو دل لكان بإحدى الدلالات، والملازمةكبطلانالتاليظاهرة،وقدأجيب عنه بمنع بطلان التالي، وأن الالتزام ثابت، وقد عرفت بما لا مزيد عليه ما قيل أو يمكن أن يقال في إثباته أو منعه، فلا تغفل".[4]
حاصله هذا الدليل: إن المفهوم لا يخلو إما أنه من الدلالة المطابقية أو التضمنية أو الالتزامية، ولا شيء من هذه الدلالات مثبت للمفهوم.
والجواب: إن المفهوم ثابت بالدلالة الالتزامية باللزوم البين بالمعنى الأخص؛ إذ بمجرد تصور أن الشرط علة منحصرة للجزاء، يتصور الذهن انتفاء الجزاء عند انتفاء الشرط.
الدليل الثالث:
قال صاحب الكفاية: "ثالثها: قوله تبارك وتعالى: ﴿ وَلَاتُكْرِهُوافَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا [5]. وفيه ما لا يخفى؛ ضرورة أن استعمال الجملة الشرطية فيما لا مفهوم له أحيانا وبالقرينة، لا يكاد ينكر، كما في الآية وغيرها، وإنما القائل به إنما يدعي ظهورها فيما له المفهوم وضعا أو بقرينة عامة، كما عرفت.
حاصل هذا الدليل: لو كان للقضية الشرطية مفهوم، لكان لهذه الآية المباركة مفهوم، ومفاده: (أكرهوا فتياتكم على البغاء إن لم يردن تحصنا)، وهو باطل.
والجواب: ذكرنا سابقا أن ليس لكل قضية شرطية مفهوم، وإنما المفهوم لخصوص ما كان الترتب فيها بين الشرط والجزاء ترتبا شرعيا؛ أي إناطة الشرط بالجزاء شرعية، والترتب هنا عقلي؛ لأن إكراههن على البغاء منوط عقلا بإرادتهن التعفف، فإذا انتفى الشرط الذي هو موضوع الجزاء نفسه، وهو إرادتهن التعفف، انتفى الجزاء حتما لانتفاء موضوعه؛ إذ لا معنى لثبوت الجزاء، وهو إكراههن على البغاء، مع انتفاء إرادتهن للتعفف؛ لأن لازم انتفاء ذلك أن يردن البغاء، فلا معنى لإكراههن عليه حينئذ؛ إذ يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.
ثم إن بعض الأعلام ذكروا أن هناك أكثر من مائة مورد في القرآن الكريم من القضايا الشرطية ليس لها مفهوم، والحق أن انتفاء المفهوم في هذه الموارد إما لقرينة خاصة، أو لأنها مسوقة لتحقق الموضوع.
من هذه الموارد قوله: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا [6]، وهي من عمدة الأدلة على حجية خبر الواحد التي سيأتي تفصيل الكلام عنها في محله، إلا أننا سنذكر الآن ما يبين علة جعلها من قبل الكثير من العلماء من موارد الشرط الذي لا مفهوم له.
نقول: اختلف الأعلام في ثبوت مفهوم الشرط لهذه الآية المباركة، وهذا راجع إلى تشخيص موضوعها، وتوضيحه:
أولا: إن قلنا بأن الموضوع هو مطلق (النبأ)، وأن الشرط هو (مجيء الفاسق)، فيكون المنطوق (النبأ إن جاء به الفاسق فتبينوا)، هنا يكون للآية مفهوم، وهو (النبأ إن جاء به غير الفاسق وهو العادل فلا تتبينوا)؛ إذ ليس الشرط مسوقا لتحقق الموضوع؛ لأن للنبأ حالتين؛ فهو مرة يأتي به الفاسق، وأخرى يأتي به العادل، وليس توقف الجزاء عليه عقليا.
ثانيا: إن قلنا بأن الموضوع هو (الجائي بالنبأ)، وأن الشرط هو (الفاسق)، فيكون المنطوق (الجائي بالنبأ إن كان فاسق فتبينوا)، هنا يكون للآية مفهوم أيضا، وهو (الجائي بالنبأ إن كان عادلا فلا تتبينوا)؛ إذ ليس الشرط مسوقا لتحقق الموضوع؛ لأن للجائي بالنبأ حالتين؛ فهو مرة فاسق وأخرى عادل، ومن المعلوم أن توقف الجزاء على الشرط ليس عقليا.
ثالثا: إن قلنا بأن الموضوع هو (الفاسق)، وأن الشرط هو (المجيء بالنبأ)؛ كما ذهب السيد الخوئي، فيكون المنطوق (الفاسق إن جاء بالنبأ فتبينوا)، هنا لا يكون للآية مفهوم؛ إذ صحيح أن للفاسق حالتين، فهو مرة يأتي بالنبأ وأخرى لا يأتي به، لكن وجوب تبين نبأ الفاسق متوقف عقلا على مجيئه بالنبأ، فإن لم يجئ بالنبأ، لا معنى للتبين حينئذ؛ إذ يكون من السالبة بانتفاء الموضوع.
رابعا: إن قلنا بأن الموضوع هو (نبأ الفاسق)، وأن الشرط هو وجوده؛ بحيث يكون مفاد الآية الشريفة بمفاد قولنا: (إن وجد خبر الفاسق فتبين عنه)، هنا لا يكون للآية مفهوم أيضا؛ لأن ووجوب التبين عن نبأ الفاسق متوقف عقلا على مجيء الفاسق به، فإن الموضوع ليس مطلق النبأ حتى يقال: قد يأتي به الفاسق أو العادل، بل الموضوع الذي يشترط أن يكون محفوظا في المنطوق والمفهوم هو خصوص (نبأ الفاسق).
هذه هي الاحتمالات الأربعة المتعلقة بآية النبأ، وقد ذهب جماعة من الأعلام منهم الشيخ الأنصاري والسيد محسن الحكيم والسيد الخوئي إلى أنها مسوقة لتحقق الموضوع، وبالتالي لا مفهوم لها، وقد أنكر صاحب الكفاية كونها كذلك.
ومهما يكن من شيء، تبقى هذه الاحتمالات احتمالات ثبوتية، والكلام في مقام الإثبات؛ حيث لا بد من النظر في الآية بما هي بلا أي تصرف، إلا أننا نترك الكلام لمحله في مبحث حجية خبر الواحد، إن شاء الله تعالى.
والخلاصة: إن هذه الآية وغيرها من موارد القضايا الشرطية الذي ذكرت على أنها بلا مفهوم، قد يكون انتفاء المفهوم فيها لقرينة خاصة، أو لأنها مسوقة لتحقق الموضوع. فالإنصاف أن هذا الدليل الثالث على نكران مفهوم الشرط لم يكتب له التوفيق، والله العالم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo