< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

36/01/18

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الثاني: التمسك بالعام بعد التخصيص في الشبهة المفهومية
قال صاحب الكفاية: "فصل: إذا كان الخاص بحسب المفهوم مجملا، بأن كان دائرا بين الأقل والأكثر وكان منفصلا، فلا يسري إجماله إلى العام، لا حقيقة ولا حكما، بل كان العام متبعا فيما لا يتبع فيه الخاص؛ لوضوح أنه حجة فيه بلا مزاحم أصلا؛ ضرورة أن الخاص إنما يزاحمه فيما هو حجة على خلافه، تحكيما للنص أو الأظهر على الظاهر، لا فيما لا يكون كذلك، كما لا يخفى. وإن لم يكن كذلك بأن كان دائرا بين المتباينين مطلقا، أو بين الأقل والأكثر فيما كان متصلا، فيسري إجماله إليه حكما في المنفصل المردد بين المتباينين، وحقيقة في غيره".[1]
بعد الفراغ من الكلام عن التمسك بالعام بعد التخصيص في الشبهة الحكمية، شرع صاحب الكفاية في ثاني مباحث هذا الفصل، وهو التمسك بالعام بعد التخصيص بمخصِّص مجمل مفهوما. وتوضيحه: إن الخاص إما أن يكون إجماله في المفهوم أو في المصداق، وكل منهما إما مردد بين الأقل والأكثر، أو بين المتباينين، وكل منهما إما متصل أو منفصل، فصوره ثمانٍ، أربع لمجمل المفهوم، وأربع لمجمل المصداق. وسنتكلم إن شاء الله تعالى عن مجمل المصداق في المبحث الآتي.
أما مجمل المفهوم، فقد عرفت أنه على أربع صور:
الصورة الأولى:
وهي فيما لو كان إجمال مفهوم الخاص من حيث دورانه بين الأقل والأكثر، وكان المخصِّص منفصلا؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم)، ثم قال: (لا تكرم الفساق منهم)، وفرضنا الإجمال في مفهوم الخاص (الفاسق)؛ فلم نعلم إن كان مختصا بمرتكب الكبيرة، أم شاملا لمرتكب الصغيرة أيضا، فدار أمره بين الأقل والأكثر. فهل في هذه الصورة يسري إجمال مفهوم الخاص إلى العام، فلا يصح حينئذ التمسك به بعد التخصيص، أم لا يسري إليه، فيصح حينئذ التمسك به؟
والجواب: بما أن ظهور العام في كل أفراده قد انعقد قبل ورود التخصيص، فمرتكب الصغيرة كان مشمولا للعام من أول الأمر. أما بعد ورود التخصيص، فالقدر المتيقن خروجه من تحت العام هو مرتكب الكبيرة، أما مرتكب الصغيرة، فنشك في خروجه من تحت العام؛ للشك في شمول الخاص له؛ حيث إنه لم يعلم بوضعه للجامع بين فاعل الصغيرة وبين فاعل الكبيرة، فلا يشمله الخاص؛ لعدم إحراز الموضوع.
وعليه، فحكم هذه الصورة هو عدم سراية إجمال مفهوم الخاص إلى العام لا حقيقة من حيث الظهور، ولا حكما من حيث الحجية، فيتمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه، مما يوجب إكرام مرتكب الصغيرة.
الصورة الثانية:
وهي فيما لو كان إجمال مفهوم الخاص من حيث دورانه بين الأقل والأكثر، ولكن المخصِّص متصل؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم إلا الفساق منهم)، وفرضنا الإجمال في مفهوم الخاص أيضا (الفاسق) بالبيان المتقدم. فهل في هذه الصورة يسري إجمال مفهوم الخاص إلى العام، فلا يصح حينئذ التمسك به بعد التخصيص، أم لا يسري إليه، فيصح حينئذ التمسك به؟
والجواب: بما أن ظهور العام في كل أفراده لم ينعقد أصلا قبل التخصيص؛ لانهدامه بالخاص المتصل، فمرتكب الصغيرة مشكوك في كونه مشمولا للعام.
وبعبارة أخرى: كما أن شمول الخاص لفاعل الصغيرة غير معلوم؛ حيث لا يعلم بوضعه للجامع بينه وبين فاعل الكبيرة، كذلك شمول العام له؛ نظرا إلى اجماله وعدم انعقاد ظهور له أصلا، فلا يعلم أن الخارج منه فاعلا الكبيرة والصغيرة معا، أو خصوص فاعل الكبيرة.
وبالجملة، فحكم هذه الصورة هو سراية إجمال مفهوم الخاص إلى العام حقيقة وحكما أيضا؛ لأنه بعدما انهدم الظهور انهدمت الحجية معه، فلا يمكن التمسك بالعام بالنسبة إلى الفرد المشتبه لإدخاله تحته، ولا يمكن التمسك بالخاص لإدخاله تحته. فهنا نرجع إلى الأصول العملية؛ فإن كان أحد الحكمين - أي العام والخاص – إلزاميا والآخر غير إلزامي، فالأصل هو البراءة؛ مثلا: إن كان العام إلزاميا، فالأصل البراءة من وجوب إكرام مرتكب الصغيرة، وإن كان الخاص إلزاميا، فالأصل البراءة من حرمة إكرامه. أما إن كان كلا الحكمين إلزاميا، فيدور الأمر حينئذ بين المحذورين، وقد وقع الخلاف بين الأعلام بين ذاهب إلى أن المرجع إلى أصالة التخيير عقلا، أو إلى أصالة البراءة. ويأتي تحقيقه في محله إن شاء الله تعالى.
الصورة الثالثة:
وهي فيما لو كان إجمال مفهوم الخاص من حيث دورانه بين متباينين أو أكثر، وكان المخصِّص متصلا؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم إلا زيدا)، وفرضنا الإجمال في مفهوم الخاص (زيد)؛ حيث إنه مشترك لفظي، فدار أمره مثلا بين زيد بن أرقم وزيد بن أكثم. فهل في هذه الصورة يسري إجمال مفهوم الخاص إلى العام، فلا يصح حينئذ التمسك به بعد التخصيص، أم لا يسري إليه، فيصح حينئذ التمسك به؟
والجواب: بما أن ظهور العام في كل أفراده لم ينعقد أصلا قبل التخصيص؛ لانهدامه بالخاص المتصل، فكلا الزيدين مشكوك في كونهما مشمولين للعام من أول الأمر قبل التخصيص، وكذا بعده. فيكون إجمال الخاص ساريا إلى العام حقيقية، فلا يمكن التمسك بالعام من باب عدم انعقاد ظهور العام في العموم من أول الأمر، لا من باب العلم الإجمالي بالتخصيص.
الصورة الرابعة:
وهي فيما لو كان إجمال مفهوم الخاص من حيث دورانه بين متباينين أو أكثر، ولكن المخصِّص منفصل؛ كما لو قال المولى: (أكرم كل عالم)، ثم قال: (لا تكرم زيدا منهم)، وفرضنا الإجمال في مفهوم الخاص (زيد) بالبيان المتقدم. فهل في هذه الصورة يسري إجمال مفهوم الخاص إلى العام، فلا يصح حينئذ التمسك به بعد التخصيص، أم لا يسري إليه، فيصح حينئذ التمسك به؟
والجواب: بما أن ظهور العام في كل أفراده قد انعقد قبل التخصيص، فكلا الزيدين كانا مشمولين للعام من أول الأمر، ولا ينهدم هذا الظهور بعد التخصيص؛ لأن الشيء لا ينقلب عما وقع عليه، فلا يسري إجمال الخاص إلى العام حقيقة؛ أي من حيث الظهور. نعم، إنما يسري إجماله حكما؛ أي من حيث الحجية؛ لأن حجية الخاص تمنع حجية العام في العموم، فلا يمكن التمسك بالعام لا من باب عدم انعقاد ظهوره في العموم - كما في الصورة الثالثة - بل من باب العلم الإجمالي بخروج أحد الزيدين من تحته.
إذا عرفت ذلك، فحكم هاتين الصورتين - الثالثة والرابعة - واحد من جهة سراية إجمال مفهوم الخاص إلى العام، كل ما في الأمر أن السريان في الصورة الثالثة حقيقي وحكمي، بينما في الصورة الرابعة حكمي فقط. وبالتالي، فلا يمكن في الصورتين التمسك بالعام بالنسبة إلى الزيدين؛ لأن التمسك بأصالة العموم بالإضافة إلى كليهما غير ممكن؛ لأن العلم الإجمالي بخروج أحدهما عنه أوجب سقوطها عن الحجية، فلا تكون كاشفة عن الواقع بعد هذا العلم. وأما بالإضافة إلى أحدهما المعيَّن دون الآخر، فهو ترجيح بلا مرجح، وأحدهما لا بعينه ليس فردا ثالثا.
وعليه، فالمرجع إلى الأصول العملية؛ فإن كان أحد الحكمين - أي العام والخاص – إلزاميا والآخر غير إلزامي، فالأصل هو الاحتياط؛ مثلا: إن كان العام إلزاميا، فبمقتضى أصالة الاحتياط يجب إكرام كلا الزيدين، وإن كان الخاص إلزاميا، فبمقتضى أصالة الاحتياط يحرم إكرمهما. وأما إن كان كلا الحكمين إلزاميا، فبما أنه لا يمكن الرجوع إلى أصالة الاحتياط لعدم إمكانه، ولا إلى أصل البراءة لاستلزامه المخالفة القطعية العملية، فالمرجع حينئذ إلى أصالة التخيير.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo