< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/11/21

بسم الله الرحمن الرحیم

المبحث الأول: الأدلة على ثبوت مفهوم الوصف

قال صاحب الكفاية: "فصل: الظاهر أنه لا مفهوم للوصف وما بحكمه مطلقا؛ لعدم ثبوت الوضع، وعدم لزوم اللغوية بدونه؛ لعدم انحصار الفائدة به، وعدم قرينة أخرى ملازمة له، وعليته فيما إذا استفيدت غير مقتضية له، كما لا يخفى، ومع كونها بنحو الانحصار وإن كانت مقتضية له، إلا أنه لم يكن من مفهوم الوصف؛ ضرورة أنه قضية العلة الكذائية المستفادة من القرينة عليها في خصوص مقام، وهو مما لا إشكال فيه ولا كلام، فلا وجه لجعله تفصيلا في محل النـزاع، وموردا للنقض والإبرام".[1]

بعد ثبوت كبرى حجية المفهوم، نفى أغلب الأعلام ومنهم صاحب الكفاية صغرى ظهور الوصف في المفهوم، وأن القضية المشتملة على الوصف لا تدل على انتفاء كلي الحكم عند انتفاء الوصف. والنفي هنا - حسب تعبير صاحب الكفاية - لمفهوم الوصف الصريح؛ كما في: (أكرم عالما عادلا)؛ حيث تم التصريح بالوصف، ولمفهومما بحكم الوصف، وهو الوصف الضمني؛ كما في خبر محمد بن مروان الكلبي قال: "كنت قاعدا عند أبي عبد الله أنا ومعروف بن خربوذ، وكان ينشدني الشعر وأنشده، ويسألني وأسأله، وأبو عبد الله يسمع، فقال أبو عبد الله: إن رسول الله قال: لئن يمتلئ جوف الرجل قيحا خير له من أن يمتلئ شعرا، فقال معروف: إنما يعني بذلك الذي يقول الشعر، فقال: ويحك أو ويلك! قد قال ذلك رسول الله"[2]، فإن امتلاء الجوف كناية عن الشعر الكثير؛ إذ لو كان لهذه القضية مفهوم، لارتفع البأس بالنسبة لقليل الشعر.

كما قيل: إن المراد من الإطلاق في كلام الآخوند: "الظاهر أنه لا مفهوم للوصف
وما بحكمه مطلقا"، نفي مفهوم الوصف سواء ذُكِر موصوفه؛ كما في: (أكرم عالما عادلا)، أم لا؛ كما في: (أكرم عادلا). ولكن الإنصاف أن محل البحث خصوص ما ذكر موصوفه؛ لأن القضية التي ذُكِر فيها الوصف دون الموصوف تدخل في مبحث مفهوم اللقب؛ حيث لا فرق في عدم ثبوت مفهوم اللقب بين قولك: (أكرم عادلا)، و(أكرم زيدا)؛ باعتبار أن ثبوت شيء لشيء لا يعني نفيه عن الآخر.
إن قلت: إن ذكر الوصف في قوة ذكره مع موصوفه؛ وذلك بناء على كون المشتق مركبا من ذات ومبدأ، ﻓ(العادل) مركب من ذات ثبتت لها العدالة. وبالتالي، فالفرق بين القضيتين واضح.
قلنا: إن مباحثنا هذه هي مباحث للألفاظ وظهوراتها، فلا شغل لنا بالمقدَّر غير الملفوظ وإن كان الكلام يتضمنه.
وعليه، فما ذكره صاحب الكفاية من جهة نفي المفهوم عن الوصف الصريح والضمني في محله، أما ما ذكره من جهة الإطلاق، فليس كذلك.
وتنبغي الإشارة هنا إلى أن الوصف المراد في المقام ليس الوصف النحوي بمعنى النعت فقط، وإنما المراد ما هو أعم منه ومن الحال والتمييز وشبه الجملة وغيرها، ولذلك لو عُبِّر ﺑ(مفهوم القيد) لكان أفضل.
إذا عرفت ذلك، نشرع في أدلة القائلين بثبوت المفهوم للوصف، وهي:
الدليل الأول: (الوضع)
وهو دعوى أن الوصف موضوع على نحو العلة التامة الانحصارية؛ بحيث إذا انتفى الوصف انتفى كلي الحكم؛ فمثلا في: (أكرم عالما عادلا)، وصف العدالة راجع إلى وجوب الإكرام، وهو علة تامة وانحصارية له؛ بحيث إذا انتفت العدالة انتفى وجوب الإكرام.
وفيه: إنه لا دليل على هذه الدعوى، بل لعل الدليل قائم على عدمها؛ إذ غالبا
ما استعمل الوصف في غير المفهوم، ولا معنى لوضع شيء لشيء لا يستعمل فيه إلا نادرا. أضف إلى ذلك أنه يلزم مجازي أكثر موارد الاستعمال، مع أنه لا نجد عناية وتكلّفا في استعمال الوصف في غير المفهوم؛ إذ لا قرينة تدل على المجاز في هذه الموارد. وعليه، فهذا الدليل لم يكتب له التوفيق.

الدليل الثاني: (عدم لزوم اللغوية)

فلو لم يكن للوصف مفهوم؛ بحيث لم يكن علة تامة ومنحصرة للحكم، لكان ذكره وتقييد الحكم به لغويا؛ فإذا قال: (أكرم العالم العادل) دون أن يكون مراده نفي الإكرام عن العالم غير العادل، لكان تقييد وجوب إكرام العالم بالعادل لغويا.

والجواب: إن ثبوت اللغوية متوقف على أن تكون علية الوصف الانحصارية هي الفائدة الوحيدة من الوصف، والحال خلافه؛ لأن المتكلم غالبا ما يريد من ذكر الوصفبيان أهميته فحسب؛ فإذا قال: (أكرم العالم العادل) يريد الاهتمام بفرد العادل من العلماء، لا أنه لا يريد إكرام غيره، فتأمل. وعليه، فهذا الدليل لم يكتب له التوفيق أيضا.

إن قلت: صحيح أن العلية الانحصارية قد لا تكون الفائدة الوحيدة من وراء الوصف، إلا أنه هناك انصراف إلى إرادتها حين ذكر الوصف، فيكون هذا الانصراف قرينة ملازمة للوصف تعيِّن إرادة المفهوم منه دون بيان أهمية الموصوف.

قلنا: تقدم في أكثر من مقام أن الانصراف الذي يضر في المقام هو ما كان حاقيا ناشئا من كثرة الاستعمال، والانصراف المدعى ليس من هذه النشأة، بل هو بدوي ناشئ من كون الوصف الذي له مفهوم هو الأكمل.

الدليل الثالث: (إشعار الوصف بالعلية)

وهو أن ذكر الوصف في الكلام مشعر بعليته؛ فإن قولك: (أكرم العالم العادل) مشعر بأن العدالة علة لوجوب الإكرام.
وفيه: أولا: إن المراد إثباته هو كون الوصف علة للحكم، وليس إشعاره بالعلية.
ثانيا: لو سلمنا بعلية الوصف، إلا أن ذلك لا يكفي لإثبات المفهوم له؛ لما علمت أن قوام مفهوم شيء أن يكون علة منحصرة للحكم، لا مجرد علة فحسب.
وبالجملة، فإن مجرد العلية لا يقتضي ثبوت المفهوم؛ لجواز أن يكون للحكم علتان تنوب إحداهما عن الأخرى. وعليه، فلا سبيل إلى إثبات أن الوصف علة منحصرة للحكم، بل لا سبيل إلى إثبات أنه علة له أصلا.
ثم لا يقدح أن نجد في بعض الأحيان أن الوصف علة تامة ومنحصرة للحكم؛ لأن ثبوت ذلك يكون عن طريق قرينة خارجية، وكلامنا في نفس الوصف بما هو بمعزل عن أي خارج عنه. وعليه، فهذا الدليل الثالث لم يكتب له التوفيق كسابقيه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo