< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/11/20

بسم الله الرحمن الرحیم

يبقى أن نشير إلى قولين تفصيليين في تداخل الأسباب، وهما:
القول الأول:
قال صاحب الكفاية مشيرا لقول ابن إدريس الحلي التفصيلي في تداخل الأسباب وعدمه: "ثم إنه لا وجه للتفصيل بين اختلاف الشروط بحسب الأجناس وعدمه، واختيار عدم التداخل في الأول، والتداخل في الثاني، إلا توهم عدم صحة التعلق بعموم اللفظ في الثاني؛ لأنه من أسماء الأجناس، فمع تعدد أفراد شرط واحد لم يوجد إلا السبب الواحد، بخلاف الأول؛ لكون كل منها سببا، فلا وجه لتداخلها، وهو فاسد. فإن قضية إطلاق الشرط في مثل (إذا بلت فتوضأ) هو حدوث الوجوب عند كل مرة لو بال مرات، وإلا فالأجناس المختلفة لا بد من رجوعها إلى واحد، فيما جعلت شروطا وأسبابا لواحد".[1]
حاصل هذا القول: أنه إن كانت الشروط من جنس واحد، فالأصل اللفظي فيها يقتضي تداخل الأسباب، فيكون لكل الشروط المتحدة جنسا جزاء واحد؛ كما لو قال: (إذا بلت فتوضأ)، و(إذا بلت فتوضأ)؛ لأن اسم الجنس أو المصدر موضوعان للماهية المهملة المعراة عن كل خصوصية، وصرف وجود طبيعتها - غير القابل للتكرار على ما تقدم - هو الموضوع لوجوب التوضؤ لا كل وجود من وجوداتها، فمن أين يأتي حينئذ التعدد في الشرط؟! وعليه، فلا يمكن التمسك بعموم لفظ البول لثبوت الجزاء لكل فرد.
أما إن كانت الشروط متغايرة جنسا، فواضح أن الأصل اللفظي فيها يقتضي عدم تداخل الأسباب؛ لأن صرف الوجود من كل طبيعة من طبائع الشروط المتعددة شرط مستقل للحكم له أثر مستقل؛ كما لو قال: (إذا بلت فتوضأ)، و(إذا نمت فتوضأ).

ومن هنا نفى ابن إدريس تكرر الكفارة في نهار شهر رمضان بتكرر الوطء؛ معلِّلا بأن المراد من الوطء صرف الوجود؛ أي فرد واحد منه، فهو بالتالي من قبيل الأكل والشرب؛ فإن تكرارهما في نهار شهر رمضان لا يوجب تكرر الكفارة. ونص كلامه: "فإذا كرر الوطء، الأظهر أن عليه تكرار الكفارة؛ لأن عموم الأخبار يقتضي أن عليه بكل دفعة كفارة، والأقوى عندي والأصح أن لا تكرار في الكفارة؛ لأنالأصلبراءةالذمة،وشغلهابواجب أو ندب يحتاج إلى دلالة شرعية. فأما العموم، فلا يصلح التعلق به في مثل هذه المواضع؛ لأن هذه أسماء الأجناس والمصادر، ألا ترى أن من أكل في نهار شهر رمضان متعمدا، وكرر الأكل، لا يجب عليه تكرار الكفارة
بلا خلاف"[2].

هذا حاصل كلام ابن إدريس، وفيه:
أولا: تقدم أنه بناء على ظهور القضية الشرطية في المفهوم، فإن إطلاقها الواوي يقتضي أن يكون الشرط سببا تاما للجزاء. وعليه، لو قال: (إذا بلت فتوضأ)، يستفاد أن البول سبب تام لوجوب التوضؤ، فإذا قال مرة أخرى: (إذا بلت فتوضأ)، يستفاد أن البول هنا أيضا يشكِّل سببا تاما آخر لوجوب التوضؤ، وهذا معناه أن لكل شرط جزاءً، ولا فرق في ذلك بين أن يكون الشرطان من جنس واحد أو أكثر.

ثم إنه بناء على أن القضية الشرطية ظاهرة في الدلالة على الحدوث عند الحدوث، فلا محيص حينئذ عن القول بعدم تداخل الأسباب بلا فرق بين وحدة الشروط جنسا وعدمها؛ إذ يكون حينئذ لكل شرط جزاء. وبناء على أن القضية الشرطية ظاهرة في الدلالة على الثبوت عند الثبوت، فلا محيص حينئذ عن القول بتداخل الأسباب؛ لما عرفت سابقا من رجوع المتعدد إلى الواحد إذا كان الأثر واحدا؛ لامتناع صدور الواحد عن المتعدد بما هو متعدد. وبالجملة، فوحدة المسبَّب كاشفة عن وحدة السبب أيضا؛ لما تقدم من أن الواحد الشخصي لا يصدر إلا عن واحد.

وبما أننا أثبتنا أن القضية الشرطية ظاهرة عرفا بإطلاقها الواوي أن الشرط سبب تام للجزاء، فلا معنى للتفصيل بين كون الشروط متجانسة أم لا.

وأما قياسه كفارة تكرر الوطء على كفارة تكرر الأكل والشرب في نهار شهر رمضان، فقد عرفت ما فيه من أن الروايات ظاهرة في كون موضوع كفارة الوطء هو تارة (من وقع على أهله)، وأخرى (من نكح أهله)، وثالثا (من أتى أهله)، وكلها تصب في معنى الوطء، وهو قابل للتكرار، لذلك استظهرنا عدم تداخله حال تكرره كسبب لكفارة الإفطار العمدي. وذلك خلافا للأكل والشرب؛ فإن الروايات ظاهرة في كون موضوع الكفارة فيها هو (من أفطر)، والإفطار غير قابل للتكرار؛ إذ من أكل أو شرب فأفطر، ثم أكل أو شرب مرة ثانية، لا يقال عنه أنه أفطر ثانية، ومن هنا قلنا أن عليه كفارة واحدة.

فالخلاصة: إن ما ذهب إليه ابن إدريس من التفصيل في أن الأسباب تتداخل حال اتحاد الشروط جنسا، ولا تتداخل حال تغايرها جنسا، لم يكتب له التوفيق.

القول الثاني:

وهو القول بالتفصيل أيضا؛ وحاصله: إذا وردت القضية الشرطية الثانية بعد امتثال الأمر الأول، فالأصل هو عدم التداخل؛ إذ لا معنى للتداخل حينئذ، بينما إذا وردت قبل امتثاله، فالأصل هو التداخل؛ لأن المطلوب إيجاد الطبيعة، وإيجادها يتحقق بصرف وجودها؛ أي بفرد واحد منها، فلا معنى للتكرار حينئذ. وعليه، فيكون الجزاء واحدا، وبالتالي فالأسباب متداخلة.

وفيه: أما بالنسبة إلى ورود القضية الشرطية الثانية بعد امثتال الأمر الأول، فلا إشكال في أن الأصل عدم التداخل، وأنه لا بد من امتثال الأمر الثاني. أما بالنسبة إلى ورودها قبل امتثاله، فدعوى التداخل حينئذ في غير محلها؛ لما تقدم من أنه لما كان ظاهر القضية الشرطية بإطلاقها الواوي أن كل شرط سبب تام للجزاء، بل على ما ذهبنا إليه وفاقا للميرزا من أنه لا إطلاق في الجزاء ليتعارض مع ظهور القضية الشرطية، وإنما استفدنا إرادة صرف الوجود وأنه غير قابل للتكرر من العقل لا من اللفظ، فبناء عليه، حتى لو وردت القضية الثانية قبل امتثال الأمر الأول، فيبقى الأصل هو عدم التداخل.

هذا تمام الكلام في تداخل الأسباب، وأن الأصل اللفظي فيها يقتضي عدم التداخل خلافا للأصل العملي.
الأصل اللفظي في تداخل المسبَّبات وعدمه:
بناء على أن الأصل اللفظي هو عدم تداخل الأسباب، وأن كل شرط يشكِّل سببا تاما للجزاء، وبالتالي ثبوت تكليفين في ذمة المكلف، فلا بد من إتيانهما مع عدم الدليل على الاكتفاء بأحدهما؛ فيكون الأصل اللفظي في المسبَّبات هو عدم التداخل أيضا، كما هو الحال في الأصل العملي على ما تقدم.
نعم، لو دل دليل خارجي على الاكتفاء بامتثال تكليف واحد، كان المرجع إليه، ولم تصل النوبة إلى أصل عدم التداخل؛ وذلك كما في حسنة زرارة المتقدمة التي دلت على الاكتفاء بغسل واحد فيما لو كان على المكلف عدة أغسال. أما مع عدم الدليل على الاكتفاء بامتثال واحد لكل التكاليف؛ كما لو ورد: (إن جامعت فكفِّر)، و(إن ظاهرت فكفِّر)، فهنا لا يكتفى بكفارة واحدة.
نعم، لوكان المجمع مصداقا للطبيعتين؛ بحيث كان بينهما عموم من وجه، فحينئذ يكتفى بامتثال واحد؛ ومثاله: لو ورد: (إن جاءك زيد فأكرم هاشميا)، و(إن جاءك عمرو فأضف عالما)، هنا نجد بين متعلق التكليفين وهما الإكرام والإضافة عموم من وجه، وكذا بين متعلقي المتعلقين وهما الهاشمي والعالم عموم من وجه أيضا، فلو أكرم المكلف عالما هاشميا بالضيافة، سقط التكليفان بامثتال واحد لوروده على مجمع متعلقِ التكليفين.
وكذا الحال بالنسبة لصلاة الغفيلة ذات الكيفية الخاصة ونافلة المغرب التي لم يرد فيها كيفية خاصة؛ إذ بإمكان المكلف أن يأتي بصلاة الغفيلة بعنوان نافلة المغرب، فإنها تجزي عن كليهما معا، فهنا يصدق عليه أنه أتى بنافلة المغرب والغفيلة معا، فيكون قد جمعا بين مستحبين بامتثال واحد لوحدة مجمعهما.

وكذلك قد يجمع بين واجب ومستحب؛ كما لو نوى صوم القضاء في أول أيام اعتكافه، فهنا أيضا يصدق عليه أنه أتى بصوم القضاء الواجب وصوم الاعتكاف
المستحب معا، فيكون قد جمع بين واجب ومستحب بامثتال واحد لوحدة مجمعهما.
والخلاصة: إذا لم يكن دليل خاص على تداخل المسبَّبات، ولم يكن لمتعلق الأمر في الجزائين مجمع واحد، فالأصل اللفظي والعملي هو عدم تداخل المسبَّبات، والله العالم.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo