< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/11/17

بسم الله الرحمن الرحیم

التصرف الثالث:
وهو أن كلاًّ من الشرطين مؤثرا في الجزاء لكن لا على نحو الاستقلال، وإنما الشرط الأول مؤثر في أصل وجوده، بينما الثاني مؤثر في تأكده واشتداد رتبته الوجودية. وبهذا ينتفي إشكال اجتماع المثلين؛ إذ لا يبقى لدينا إلا حكم واحد لا حكمان حتى يشكَل بانصبابهما على طبيعة واحدة.
هذه هي التصرفات الثلاثة التي ذكرها صاحب الكفاية، ثم عرَّج عليها مشكلا بأن التصرف الأول، وهو رفع اليد عن ظهور القضية الشرطية في حدوث الجزاء عند حدوث الشرط ليكون ثبوت الجزاء عند ثبوت الشرط، وكذا التصرف الثالث، وهو أن كلاًّ من الشرطين مؤثر في الجزاء لكن لا على نحو الاستقلال، مخالفان للظاهر، وكذا التصرف الثاني، وهو أن متعلق الحكم وإن كانت طبيعة واحدة ظاهرا، إلا أنه في الواقع طبائع متعددة، فهو مخالف أيضا لظاهر القضية، كما أنه مع التصرف الثالث وإن أمكنا ثبوتا إلا أنه لا دليل عليهما إثباتا، فبالتالي يبقى مجرد فرض.
وإن قيل: صحيح أن هذه التصرفات مخالفة لظاهر القضية الشرطية، إلا أنه هناك موجب لاستدعائها، وبالتالي لرفع اليد عن الظهور، وهو الفرار من استحالة اجتماع المثلين؛ إذ من الممكن الفرارمن الاستحالات العقلية للأدلة اللفظية من خلال التصرف في ظاهرها؛ وذلك نظير التصرف بظاهر الآيات المجسِّمة للحق ؛ مثل قوله ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23)[1]، فإن ظاهر هذه الآيات وأمثالها جسمانيته تعالى؛ إذا القابل للنظر إليه لا يخلو: إما أنه مقابل للرائي أو في حكم المقابل، فهو في جهة، فيكون جسما، فيكون مركبا، فيكون مفتقرا لأجزائه ولمكان يحل فيه، وهذا مناف لما ثبت بالدليل العقلي القطعي من أنه ليس بجسم، وأنه الغني المطلق الذي لا يحتاج إلى شيء، بل كل شيء يحتاج إليه، فإن كل ما عداه فقير، ولا يسد فقر الفقراء سواه؛
قال: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ[2].
وعليه، لا محيص حينئذ عن التصرف بمثل هذه الظواهر لما ينسجم مع ما ثبت بالدليل العقلي؛ كما جاء في تفسير الميزان؛ حيث قال العلامة: "المرادبالنظر إليه تعالى ليس هو النظر الحسي المتعلق بالعين الجسمانية المادية التي قامت البراهين القاطعة على استحالته في حقه تعالى بل المراد النظر القلبي ورؤية القلب بحقيقة الإيمان على ما يسوق إليه البرهان، ويدل عليه الأخبار المأثورة عن أهل العصمة "[3].
ثم ذكر صاحب الكفاية أنه لا موجب للفرار من استحالة اجتماع المثلين بالتصرف بظاهر القضية الشرطية؛ إذ بالإمكان الذهاب إلى عدم تداخل الأسباب ليكون الأمر الأول في القضية الأولى قد تعلق بفرد من أفراد الطبيعة، بينما يتعلق الأمر الثاني بفرد آخر من أفرادها، فلا يلزم حينئذ اجتماع المثلين.
ثم أشكل على نفسه بأن دعوى تعلق الأمر بالأفراد خلاف الظهور الثالث لإطلاق القضية الشرطية، وهو ظهور إطلاق الجزاء فيها في أن الحكم متعلق بالطبيعة على نحو صرف الوجود لا أنه متعلق بالأفراد مباشرة.
وأجاب عن ذلك بأن هذا الظهور غير تام لانخرام المقدمة الثالثة من مقدمات الحكمة، وهي عدم نصب قرينة على الخلاف؛ إذ الظهور الثاني؛ أي ظهور القضية الشرطية في تعدد الجزاء عند تعدد الشرط صالح للقرينية، ومعه لا ينعقد الإطلاق الموجب لإرادة الطبيعة في الجزاء، ودال بالتالي على تعلقه بالأفراد، فتأمل.
وعليه، فخلاصة قول صاحب الكفاية: إنه لم يدر الأمر بين ظهور القضية الشرطية في تعدد الجزاء بتعدد الشرط، وبين ظهورها في تعلق الأمر بالجزاء بالطبيعة، حتى نضطر للتصرف بأحد الظهورين، وإنما يكفينا الذهاب إلى عدم التداخل وتعلق الأمر بالأفراد لا بالطبيعة؛ حيث يكون كل أمر قد تعلق بفرد من أفراد الطبيعة، لا أنهما تعلقا بطبيعة واحدة، فينتفي إشكال اجتماع المثلين حينئذ من رأس.
وفيه: إن ذهاب صاحب الكفاية إلى عدم تداخل الأسباب صحيح، إلا أن الطريق الذي سلكه لإثبات هذه النتيجة في غير محله؛ وهو اللجوء إلى عدم التداخل فرارا من اجتماع المثلين؛ حيث يكون لكل أمر فرد من الطبيعة متعلق به، لا أنهما يتعلقانبطبيعة واحدة ليلزم إشكال اجتماع المثلين. وإنما لم يكن هذا الطريق في محله؛ لأن المثلين لم يجتمعا أصلا في طبيعة واحدة، وإنما اندكا في شيء واحد، فإشكال اجتماع المثلين منتف بانتفاء موضوعه؛ وذلك نظير ما تقدم في المبحث الثاني من الفصل الرابع (مقدمة الواجب)؛ فإن الوضوء مثلا فيه أمر استحبابي نفسي عبادي، وأمروجوبي غيري توصلي بعد دخول وقت الصلاة، ولا يلزم من ذلك حكمان على شيء واحد؛ أي اجتماع الأمر الوجوبي والاستحبابي على الوضوء؛ ذلك أن الأمرين يندكا في أمر واحد عبادي مؤكد؛ حيث يكتسب الأمر الوجوبي الغيري العبادية من الأمر الاستحبابي، بينما يكتسب الأمر الاستحبابي العبادي الإلزام من الأمر الوجوبي، فراجع.
وعليه، فكلام صاحب الكفاية وإن كان صحيحا نتيجةً، إلا أنه في غير محله طريقا إلى هذه النتيجة. وكذا قوله أنه بالإمكان أن يكون متعلق الأمر طبيعة واحدة ظاهرا وطبائع متعددة في الواقع، فهو وإن لم يكن مستحيلا عقلا، إلا أنه لا يمكن القبول به بلا دليل، فضلا عن كونه خلاف ما نعرفه من أن الوضوء مثلا طبيعة واحدة ظاهرا وواقعا.
أما السيد البروجردي، فلم يقبل كلام أستاذه صاحب الكفاية، فأصر على التداخل وتعلق الأمر بالطبيعة؛ حيث يكون الشرطان مؤثرين في جزاء واحد، نافيا بالتالي تعلقه بالفرد؛ إذ لو كان المراد من الفرد فردا ما، فهو غير مشخص ليتعدد، ولو كان المراد فردا مشخصا، فلا يمكن أن يتعلق الأمر به؛ لأن التشخص إنما يكون في مقام الامتثال لا في مقام الأمر ليتعلق به. قال: "بعدم إمكان إرادة الفرد من المطلق في المقام؛ وذلك لأنه إن أريد من الفرد فرد ما فهو لا يغني عن شيء؛ لأنه أيضا لا تعدد فيه، فإن التعدد إنما يكون بالمميزات والمشخصات، وليست فيه، وإن أريد من الفرد شخص معين، فهو لا يمكن إرادته ولحاظه في مقام الأمر، فإن التشخصات والمميزات إنما تكون في الخارجيات وفي مقام الامتثال، مع عدم صلاحية شيء لأن يقع مرآتا للميزات في مقام الأمر حتى يشير الآمر به إليها، كما لا يخفى"[4].
هذا حاصل كلام السيد البروجردي، وسيتضح لك ما فيه حينما نبيِّن الطريق الصحيح للاستدلال على عدم تداخل الأسباب، وهو ما ذكره الميرزا النائيني.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo