< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/11/10

بسم الله الرحمن الرحیم

وأما الوجه الرابع، وهو أنه لا بد أن يكون السبب للجزاء الواحد جامعا ماهويا حقيقيا بين الشرطين، وإن لم نعلمه؛ ذلك أن الواحد عن لا يصدر إلا عن واحد، ففيه:
أولا: ذكرنا في أكثر من مناسبة أن هذه القاعدة الفلسفية تختص بالواحد الشخصي الحقيقي؛ فإن صدوره لا يمكن إلا أن يكون عن علة واحدة مسانخة له، وإلا لو صدر عن الكثير للزم انتفاء السنخية بين العلة والمعلول، وبالتالي صدور كل شيء عن كل شيء، وهو محال. أما الواحد النوعي، فلا تأتي فيه هذه القاعدة؛ إذ لا مانع من صدور الكثير عن الواحد بالنوع؛ فإن مرجعه إلى صدور كل معلول شخصي عن فرد منه، وإسناد صدوره إلى الجامع باعتبار ذلك؛ كالحرارة المستندة إلى إشراق الشمس مرة، وإلى النار مرة، وإلى الحركة مرة ثالثة، وإلى القوة الكهربائية مرة رابعة، وهكذا.
وعليه، فهذه القاعدة لا تسري فيما نحن فيه؛ إذ الكلام في واحد اعتباري غير حقيقي من جهة، ومن جهة أخرى لا تسري في الأفعال الحقيقية الإرادية، والأحكام الشرعية، ومنها وجوب التقصير، أفعال اختيارية للمولى، يريدها ولا يُقْهِر عليها.
ثانيا: لو غضضنا النظر عما تقدم، فيبقى أنه أحيانا لا تكون الشرائط من مقولة واحدة، بل قد تكون من مقولات متعددة. وعليه، فكيف يعقل الجامع الحقيقي الماهوي بينها مع أنها أجناس عاليات ليس فوقها جنس.
فهذا الوجه لم يكتب له التوفيق.
وأما الوجه الأول، وهو رفع اليد عن المفهومين، ففيه: إنه بلا موجب؛ إذ مع إمكان رفع اليد عن أحدهما، لا موجب لرفع اليد عنهما معا، فإن الضرورة تُقَدَّر بقدرها.
وأما الوجه الثاني، وهو رفع اليد عن الإطلاق الأوي، والثالث، وهو رفع اليد عن الإطلاق الواوي، ففي الواقع إن الأمر يدور بين رفع اليد عن أحدهما بعد العلم الإجمالي بورود التقييد على أحدهما، وقبل أن نذكر ما قيل في هذا المقام نشير إلى أن جماعة من الأعلام أشكلوا على عبارة صاحب الكفاية؛ حيث قال: "ورفع اليد عن الظهور إما بتخصيص مفهوم كل منهما بمنطوق الآخر ..."[1]، بأن هذا غير صحيح؛ لأن المفهوم في نفسه غير قابل للتقييد؛ لأنه من اللوازم العقلية للقضية اللفظية حسب ما لها من الخصوصيات الموجبة لذلك، فكان مرجع تقييده حينئذ - مع إبقاء القضية اللفظية المنطوقية على حالها بما لها من الخصوصيات - إلى التفكيك بين اللازم والملزوم، وهو باطل.
أقول: ما يريده صاحب الكفاية من حيث المضمون متطابق مع ما ذكره الأعلام من رفع اليد عن أحد الظهورين بلا فرق بينهما من حيث النتيجة. نعم، تعبير صاحب الكفاية عن المطلب بما ذكره جعل جماعة من الأعلام يستوحش منها، والأمر سهل.
إذا عرفت ذلك، فنعود إلى أصل المطلب، ونقول: اختار المحقق الآغا ضياء الدين العراقي رفع اليد عن الإطلاق الأوي دون الواوي؛ حيث يلزم أن يكون كل شرط علة تامة ولكن غير منحصرة، وبالتالي تكون نتيجة المنطوقين: (إذا خفي الأذان أو الجدران فقصر)، فتكفي واحدة في وجوب التقصير.
وقد استدل على مختاره بأن رفع اليد عن الإطلاق الأوي لا يلزمه رفع اليد عن الإطلاق الواوي أيضا، وبالتالي لا يلزم من رفع اليد عنه تقييدان، بل تقييد واحد، وهو رفع اليد عن الظهور في الانحصار. بينما يلزم من رفع اليد عن الإطلاق الواوي تقييدان؛ أحدهما تقييد العلية التامة وجعل الشرط جزء العلة، والثاني تقييد الانحصار؛ إذ لا يعقل بقاء الانحصار مع كونه جزء علة. وعليه، فيدور الأمر بين تقييد واحد وتقييدين، ومن الواضح أن الأول أولى؛ لأن الضرورة تُقَدَّر بقدرها، فيقدم رفع اليد عن الإطلاق الأوي فحسب.
هذا حاصل كلام المحقق العراقي؛
وفيه: إن رفع اليد عن الإطلاق الواوي لا يلزمه تقييدان؛ بل تقييد واحد فقط، وهو تقييد العلية التامة وجعل الشرط جزء علة، إلا أنه لما كانت التمامية موضوعا للإطلاق الأوي؛ لأن الانحصار المستفاد منه متفرع عن التمامية، فيلزم من ارتفاع الإطلاق الواوي ارتفاع موضوع الإطلاق الأوي، فينتفي من رأس، لا أنه يلزم تقييده أيضا. فصحيح أننا نسلم كبرويا تقديم ما يلزم منه تقييد على ما يلزم منه تقييدان، إلا أن ما نحن فيه ليس صغرى لهذه الكبرى. وعليه، لم يكتب لكلام المحقق العراقي التوفيق.
أما الميرزا النائيني؛ حيث لم يكن عنده أحد الظهورين أقوى من ظهور الآخر، ولا أحدهما حاكما على الآخر؛ لمكان أن كلاًّ من الظهورين إنما يكون بالإطلاق ومقدمات الحكمة، كان اللازم الجري على ما يقتضيه العلم الإجمالي من ورود التقييد على أحد الإطلاقين، ويسقطان عن الحجية للعلم الإجمالي بمخالفة أحدهما للواقع، وبعد تساقطهما كان المرجع هو الأصل العملي، وهو استصحاب وجوب الإتمام، أو جريان أصل البراءة عن وجوب التقصير. وإن شئت فقل: عندنا ثلاث صور، اثنتان متفق عليهما بين الأعلام:
- الأولى: فيما لو خفي الأذان والجدران، فهنا لا إشكال في بدء وجوب التقصير؛ لأنه القدر المتيقن من مبدأ حد الترخص.
- الثانية: فيما لو لم يَخْفَ أيٌّ من الأذان والجدران، فهنا لا إشكال أيضا في عدم وجوب التقصير؛ لأنه القدر المتيقن من عدم الدخول في حد الترخص.
أما الصورة الثالثة، وهي فيما لو خفي أحدهما دون الآخر، فقد وقع فيها الكلام، فهنا إما أن يُستَصحب وجوب الإتمام، أو تُجرى أصالة البراءة عن وجوب التقصير فيما لو شاب الاستصحاب شائبة.
وأما ما ربما يتوهم من أن رتبة تقييد العلية التامة مقدمة على رتبة تقييد الانحصار - لوضوح أن كون الشيء علة منحصرة أو غير منحصرة إنما يكون بعد كون الشيء علة تامة، ومقتضى تقدم الرتبة هو إرجاع القيد إلى العلية التامة وجعل الشرط جزء علة - فهو في غاية الفساد، فإن تقدم الرتبة لا ينفع بعد العلم الإجمالي بورود التقييد على أحد الإطلاقين.
والإنصاف: إن ما ذكره الميرزا النائيني في غاية الصحة والمتانة إلا في استصحاب وجوب الإتمام، فإنه من استصحاب الحكم الكلي عندنا، وقد عرفت ما فيه.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo