< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/07/14

بسم الله الرحمن الرحیم

مقدمة: تعريف المفهوم
قال صاحب الكفاية: "المقصد الثالث: في المفاهيم. مقدمة: وهي: إن المفهوم-كمايظهرمنموارد إطلاقه - هو عبارة عن حكم إنشائي أو إخباري تستتبعهخصوصيةالمعنىالذيأريدمناللفظ بتلك الخصوصية ولو بقرينة الحكمة، وكان يلزمه لذلك، وافقه في الإيجاب والسلب أو خالفه".
يعتبر مبحث المفاهيم من جملة المباحث الأصولية المهمة؛ لتوقف الكثير من الاستدلالات الفقهية عليه، وقد خصص صاحب الكفاية له مقصدا خاصا، وهو هذا المقصد الثالث، وجعله على مقدمة وخمسة فصول.
أما المقدمة، ففيها تعريف المفهوم، وهو في اللغة عبارة عما يُفهم من الشيء؛ أي المُدرك العقلي الذي يُتصور منه، سواء أكان لفظا أم لا؛ كالإشارة أو الكتابة وغيرهما. ثم إنا قد ذكرنا فيما سبق أن المفاهيم بسيطة لا تجزؤ فيها، ومن هنا نفينا الدلالة التضمنية؛ مثل دلالة لفظ الكتاب على ورقه وحده أو الغلاف وحده؛ باعتبار أن المعنى بسيط، وليس مركبا حتى يدل اللفظ على جزء معناه.
هذا بالنسبة إلى تعريف المفهوم لغة. أما اصطلاحا، فقد عرَّفه البعض بأنه: "حكم غير مذكور لازمٌ لحكم مذكور"، أو "حكم لغير مذكور"، أو "قضية غير مذكورة إما بحكمها أو بموضوعها لازمة لقضية مذكورة"، وسيأتي إن شاء الله تعالى ما هو الإنصاف في المقام، وما أشكل على بعض هذه التعاريف.
ثم اعلم أن المفهوم ما يقابل المنطوق، والمنطوق عبارة عن معنى مصرح به مطابق لما جرى على اللسان؛ كما في قولك: (إن جاءك زيد فأكرمه)، فإن ترتب إكرام زيد على مجيئه مما دل عليه منطوق هذه القضية الشرطية. أما المفهوم، فهو عبارة عن معنى غير مصرح به. وإن شئت فقل: هو المدلول الالتزامي للقضية على وجه يكون اللزوم بيِّنا بالمعنى الأخص؛ فمفهوم القضية المتقدمة مثلا، هو (إن لم يجئك زيد فلا تكرمه)، فإن هذا المعنى لم يصرح به المتكلم، ولم يجر على لسانه، وإنما لزم منه لزوما بيِّنا بالمعنى الأخص.
وبعد أن اتضح أن المفهوم بالنسبة إلى المنطوق هو المدلول الالتزامي على وجه يكون بيِّنا بالمعنى الأخص، تحتم علينا التعريج على المراد من اللازم وتوضيح أقسامه، فنقول: إن اللازم عبارة عن: "ما يمتنع انفكاكه عن الشيء الملزوم"، وهو ينقسم باعتبار الوضوح والخفاء إلى قسمين رئيسيين، هما: اللازم البيِّن و اللازم غير البيِّن.
أما اللازم البيِّن، وهو: "ما لا يحتاج في إثباته إلى برهان"، فهو بدوره ينقسم إلى قسمين، هما:
- اللازم البيِّن بالمعنى الأخص: وهو: "ما يكون تصور (الملزوم) كافيا في تصور اللازم، ولا يحتاج إلى شيء آخر"؛ كتصور الشجاعة والعدل بمجرد تصور أمير المؤمنين، وتصور الكرم بمجرد تصور حاتم الطائي. ومن المعلوم أن تصور الملزوم إنما يكون كافيا في تصور اللازم إذا حصل أنس في الذهن بين شيئين على وجه لا ينفك اللازم عن الملزوم حين تصور الأخير.
- اللازم البيِّن بالمعنى الأعم: وهو: "ما يكون تصور الملزوم وحده غير كاف في تصور اللازم والجزم بالملازمة، بل يحتاج إلى تصور الطرفين؛ أي اللازم والملزوم، والنسبة بينهما، ليحصل الجزم باللزوم بين اللازم والملزوم"؛ وذلك كنصف الأربعة بالنسبة إلى الاثنين، فإن الذهن لا يحكم بلزوم نصف الأربعة للاثنين بمجرد تصور الاثنين. نعم، إذا تصور الاثنين والأربعة والنسبة بينهما، فحينئذ يحصل له الجزم بهذا اللزوم.
وأما اللازم غير البيِّن: فهو: "ما يحتاج وراء تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما إلى إقامة البرهان على الملازمة"؛ فإن الحدوث لازم للعالم، ولكن الجزم بالملازمة لم يحصل بمجرد تصور العالم والحدوث والنسبة بينهما، بل احتاج إلى مقدمة خارجية، وهي تصور التغير بالنسبة للعالم، وأن هذا يتناسب مع حدوثه؛ إذ القديم لا يطرأ عليه التغير. وعليه، لولا التغير في العالم لما حكمنا بأنه حادث.
إذا عرفت ذلك، فيتضح لك أن اللازم البيِّن عالمه التصورات، بينما اللازم غير البيِّن عالمه البرهان وخفاء الملازمة. ومن جملة اللازم غير البيِّن ما يصدر عن أهل العلم من الإشكالات العلمية في أخذ بعضهم بعضا بما يقتضيه لازم كلامه من التوالي الفاسدة؛ إذ لولا خفاء الملازمة على صاحب الكلام لما صدر منه ما يلزم من التوالي الفاسدة من كذا وكذا.
ومما ذكرنا يتضح لك أن مسألة مقدمة الواجب ومسألة الضد خارجتان عن مبحث المفاهيم؛ وذلك لأمرين:
أولا: إن اللزوم فيهما ليس بيِّنا بالمعنى الأخص؛ إذ من المعلوم أن النفس لا تنتقل من مجرد تصور وجوب الشيء إلى وجوب مقدمته، ولا من مجرد تصور وجوب الشيء إلى حرمة ضده.
ثانيا: إن المفهوم عبارة عن حكم استتبعته خصوصية في الكلام دل عليها اللفظ، والحال أن مسألة مقدمة الواجب وحرمة الضد لم يدل عليهما اللفظ، وإنما دل عليهما العقل على ما تقدم، فليسا من المفهوم في شيء.
نعم، اختلف الأعلام في كونهما من اللزوم البيٍّن بالمعنى الأعم، أو من اللزوم غير البيِّن. أما بالنسبة إلى مقدمة الواجب، فقد ذهب الميرزا إلى أن اللزوم فيها بالمعنى الأعم؛ فمثلا الحكم باللزوم بين وجوب قطع المسافة إلى عرفة ووجوب الحج يتوقف على تصور قطع المسافة إلى عرفة وتصور وجوب الحج والنسبة بينهما، وهذا يكفي في الحكم باللزوم، ولا يحتاج إلى مقدمة خارجية. وأما السيد الخوئي، فقد ذهب إلى أنه من اللزوم غير البيِّن، وهو الأقرب إلى الواقع؛ ذلك أن تصور اللازم والملزوم والنسبة بينهما غير كاف للحكم باللزوم، وإنما نحتاج إلى مقدمة خارجية، وهي حكم العقل بأن عدم قطع المسافة إلى عرفة يلزمه فوات الحج.
وأما بالنسبة إلى مسألة الضد، فقد ألحقها الميرزا أيضا باللزوم البيِّن بالمعنى الأعم؛ باعتبار أنه يكفي للحكم باللزوم بين الأمر بالشيء؛ كإزالة النجاسة من المسجد مثلا، والنهي عن ضده؛ كالصلاة، تصور كل من اللازم والملزوم، وهما وجوب الإزالة وحرمة الصلاة، والنسبة بينهما. أما السيد الخوئي، فقد ألحق هذه المسألة أيضا باللزوم غير البيِّن؛ لاحتياجها إلى مقدمة خارجية، وهو الصحيح، والله العالم.
بقي الكلام في دلالة الإشارة والإيماء؛ كدلالة الآيتين الشريفتين على أن أقل الحمل ستة أشهر، وهما قوله: >وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ<[1]، و>وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا<[2]، فقد ألحق البعض؛ كالميرزا، هذه المسألة في اللزوم البيِّن بالمعنى الأعم؛ باعتبار أن تصور الآيتين والنسبة بينهما كاف في الحكم بلزوم كون أقل الحمل ستة أشهر. والحق أنها من اللزوم غير البيِّن؛ لأن تصورهما وتصور النسبة بينهما لا يورث الحكم بهذا اللزوم، وإنما نحتاج إلى مقدمة خارجية، وهي عبارة عن عملية حسابية نطرح فيها زمن الحمل والرضاع من زمن الرضاع وحده؛ حيث ينتج زمن أقل الحمل، والله العالم.


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo