< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الأصول

35/06/10

بسم الله الرحمن الرحیم

وأما في موردنا، فقد ذكر صاحب الكفاية أن البراءة تجري عن الحرمة؛ حيث قال: "لأصالة البراءة عن حرمته فيحكم بصحته، ولو قيل بقاعدة الاشتغال في الشك في الإجزاء والشرائط فإنه لا مانع عقلا إلا فعلية الحرمة المرفوعة بأصالة البراءةعنهاعقلاونقلا.نعم،لوقيل بأن المفسدة الواقعية الغالبة مؤثرة في المبغوضية ولو لم يكن الغلبة بمحرزة، فأصالة البراءة غير جارية".
وحاصل ما ذكره أنه لا مانع من الحكم بالصحة لجريان البراءة عن الحرمة؛ ضرورة أن المانع هو الحرمة الفعلية، وبعد ارتفاعها بالبراءة انتفى المانع، بل نقول بجريانها هنا وإن قلنا بالاشتغال في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين؛ وذلك لأن الشك هنا في أن هذه الحركات الصلاتية والتي هي مصداق للغصب، هل هي محرمة فعلا أم لا فتجري البراءة حينئذ؟ وبما أن المانعية هنا عقلية لاستحالة اجتماع المبغوضية والمحبوبية في الخارج، فلا يرجع الشك فيها حينئذ إلى الأقل والأكثر الارتباطيين.
نعم، لو كانت المانعية هنا شرعية، فتدخل المسألة حينئذ في الأقل والأكثر؛ حيث يكون عدم الحرمة قيدا للمأمور به، فيدور جريان البراءة مدار جريانها فيها، ولكنك عرفت أنها مانعية عقلية. وعليه، فتجري البراءة هنا ولو لم نقل بجريانها هناك. نعم، لو قلنا بأن المفسدة الواقعية الغالبة هي المؤثرة في المبغوضية، ولو لم تكن محرزة، فأصالة البراءة لا تجري؛ لأنه مع احتمال غلبة المفسدة في الواقع كما هو المفروض، لا يمكن قصد القربة. وعليه، لا بد من الالتزام بقاعدة الاشتغال.
وفيه: إن المسألة داخلة في مسألة الأقل والأكثر الارتباطيين؛ فإن قلنا بالبراءة هناك، فنقول بها هنا، وإلا فلا. وبما أننا قلنا بها هناك فتجري هنا حينئذ.
وتوضيحه: إن أصل وجوب الصلاة معلوم، وإنما الشك في تقييدها بغير هذا المكان، وعليه يدور الأمر بين أن يكون الواجب هو المطلق أو المقيد بغير هذا المكان، وبما أن الإطلاق توسعة على المكلفين، ولا كلفة فيه، فلا تجري فيه البراءة؛ لأن حديث الرفع امتناني، ولا امتنان في رفع التوسعة، بل هو خلاف الامتنان. وعليه، فتجري البراءة في التقييد لأن فيه كلفة ومشقة.
ولا يقال: إن نفي التقييد لا يثبت الإطلاق إلا على القول بالأصل المثبت، فإنا نقول: إن أصل التكليف ثابت، وإنما الشك في تقييد الواجب بأمر زائد، فإذا رفعنا هذا التقييد بأصالة البراءة، فيثبت الإطلاق بضم الأصل إلى أصل التكليف، وبذلك نحكم بالصحة.
وأما قوله بأن المؤثر في المبغوضية لو كان هو المفسدة الواقعية الغالبة، فلا مجال للبراءة، فيرد عليه: إنه لا علم لنا بوجود مفسدة في هذا الحال، فضلا عن كونها غالبة على المصلحة للشك في أصل وجودها، فإن إحراز اشتمال المجمع على المفسدة متوقف على حرمته، والمفروض أنها مرفوعة بالبراءة، ومع ارتفاعها كيف يمكن لنا العلم بوجود مفسدة فيه؟!
والنتيجة: إنه لا مانع من الحكم بصحة الصلاة في مورد الاجتماع على القول بالامتناع فيما إذا لم يكن مرجح لأحد الجانبين على الآخر.
والخلاصة في نهاية المطاف: إن هناك إشكالات كثيرة على هذه القاعدة من حيث ظنية الأولوية فيها من جهة، وعدم جريانها في موردنا من جهة أخرى وغيرهما مما تقدم، ومن هنا أعرض عنها البعض صفحا ولم يذكرها أصلا.
ثم ينبغي الإشارة إلى أن المكلفين مطالبون بامتثال الأحكام على وجهها؛ أي إتيان الواجبات والمستحبات على نحو الوجوب والاستحباب، وترك المحرمات والمكروهات على نحو الحرمة والكراهة، وليسوا مطالبين بجلب المصالح ودفع المفاسد؛ إذ لا سبيل لهم إلى معرفتها أصلا، ولهذا عيب على المخالفين اعتمادهم المصالح المرسلة مدركا في استدلالهم على الأحكام الشرعية.
ومن هنا لم تكن قاعدة أولوية دفع المفسدة على جلب المصلحة تامة. نعم، في بعض الموارد يكون دفع المفسدة أولى ولكن لقرائن خاصة وليس استنادا إلى هذه القاعدة؛ كما لو رمى زيد عمرا بحجر وتفاحة، ولم يكن عمرو قادرا على دفع الحجر والتقاط التفاحة معا، فإن دفع الحجر فاتته التفاحة، وإن التقط التفاحة أصابه الحجر، فهنا لا إشكال في أن دفع مفسدة الإصابة بالحجر أولى من جلب منفعة التقاط التفاحة، والله العالم.
والخلاصة أن المرجح الثاني كالمرجح الأول لم يكتب له التوفيق.

المرجِّح الثالث:
قال صاحب الكفاية: "ومنها: الاستقراء، فإنه يقتضي ترجيح جانب الحرمةعلىجانبالوجوب؛كحرمة الصلاة في أيام الاستظهار، وعدم جواز الوضوءمن الإناءين المشتبهين. وفيه: أنه لا دليل على اعتبار الاستقراء، ما لم يفد القطع. ولو سلم فهو لا يكاد يثبت بهذا المقدار. ولو سلم فليس حرمة الصلاة في تلك الأيام، ولا عدم جواز الوضوء منهما مربوطا بالمقام، لان حرمة الصلاة فيها إنماتكون لقاعدة الإمكان والاستصحاب المثبتين لكون الدم حيضا، فيحكم بجميع أحكامه،ومنهاحرمة الصلاة عليها لا لأجل تغليب جانب الحرمة كما هو المدعى، هذا لو قيل بحرمتها الذاتية في أيام الحيض، وإلا فهو خارج عن محل الكلام".
هذا هو المرجح الثالث لتقديم النهي على الوجوب، وحاصله: إنه بتتبع الموارد العديدة التي قدم فيها الشارع جانب النهي، نستكشف قاعدة عامة، وهي أنه كلما دار الأمر بين النهي والوجوب، فيقدم جانب النهي.
ومن هذه الموارد: استظهار الحائض التي رأت الدم بعد أيام عادتها واحتملت استمراره إلى ما بعد العشرة؛ حيث يدور الأمر بين وجوب الصلاة بعد أيام عادتها لاحتمال أن الدم المستمر دم استحاضة، وبين حرمة الصلاة لاحتمال أنه دم حيض؛ فهنا قدم الشارع حرمة الصلاة على وجوبها؛ حيث أمر المرأة بالاستظهار إلى اليوم العاشر؛ أي ترك الصلاة إلى اليوم العاشر لتضح ماهية هذا الدم، فإن تجاوز العاشر، انكشف أن ما بعد أيام العادة استحاضة، فتقضي ما فاتها، وإن لم يتجاوزه، انكشف أن كله حيض.
ومنها: ما لو لم يكن لدى المكلف إلا إناءان أصابت النجاسة أحدهما غير المعين؛ حيث يدور الأمر بين وجوب الوضوء للصلاة، وبين حرمة الوضوء، فهنا قدم الشارع حرمة الوضوء؛ حيث أمر المكلف بإهراق كلا الإناءين.
هذا هو حاصل هذا المرجح، وقد أجاب عنه صاحب الكفاية بأنه: أولا: إن الاستقراء الناقص ليس بحجة أصلا.
ثانيا: لو سلمنا بحجيته، إلا أن الاستقراء الناقص عبارة عن تتبع أكثر الجزئيات لاستخلاص قاعدة عامة، والمتتبع في تقديم جانب النهي موارد قليلة غير كافية في دعوى الاستقراء.
ثالثا: لو سلمنا بحجية الاستقراء، وأن الموارد المتتبعة في تقديم النهي كثيرة، إلا أننا لا نقطع بأن وجه الحكم في الموارد المتفرقة هو الجهة المشتركة ليعلم ثبوت الحكم في المورد الذي يقصد إثبات الحكم فيه بالاستقراء.
ثم نأتي إلى مثال الاستظهار، فإن الاستناد إليه لإثبات المدعى متوقف على وجوب الاستظهار وبالتالي حرمة الصلاة إلى اليوم العاشر، إلا أن ذلك غير متفق عليه؛ لأنه لما اختلفت الروايات في أيام الاستظهار، اختلفت الأقوال فيها؛ فذهب بعضهم إلى استحبابه، وذهب آخرون إلى وجوبه ثلاثة أيام بعد أيام العادة، وذهب غيرهما إلى وجوبه يوما واحدا بعد أيام العادة، وذهب غيرهم إلى وجوبه إلى اليوم العاشر. ومن الواضح أن دعوى تقديم جانب النهي لا يتم إلا على القول الأخير؛ إذ أما على القول الأول، فهو واضح، وأما على القول الثاني والثالث، فلو كان وجه التقديم هو أهمية الحرمة أو احتمالها للزم إيجاب الاستظهار إلى اليوم العاشر؛ لأن الحرمة محتملة من بعد أيام العادة إلى ذلك اليوم.
وعليه، فمن ذهب إلى وجوب الاستظهار إلى اليوم العاشر يكون مستنَده الأخبار لا القاعدة. وأما ما ذكره المصنف من أن التقديم لقاعد الإمكان والاستصحاب المثبِتين لكون الدم حيضا، ففيه: قد ذكرنا في محله عدم ثبوت قاعدة الإمكان، كما أنه لا معنى لجريان الاستصحاب مع وجود الأخبار في المسألة، وقد ذكرنا المسألة بالتفصيل في كتاب الطهارة، فراجع.
ثم إن ما ذكر إنما يتم فيما لو قلنا بأن حرمة صلاة الحائض حرمة ذاتية؛ حيث يدور الأمر حينئذ بين كونها محرمة بحال كانت حائضا واقعا، وبين وجوبها بحال لم تكن كذلك. أما لو قلنا بأن حرمتها تشريعية - كما هو الإنصاف - فتكون المسألة خارجة عن محل الكلام؛ إذ لا يخلو إما أن تصلي بنية التشريع أو لا، وعلى الأول تكون قاطعة بالحرمة، وعلى الثاني تكون قاطعة بعدم الحرمة، وبالتالي لا تكون الحرمة محتملة في الصورتين لكي يدور الأمر بينها وبين الوجوب.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo