< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

41/03/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: صلاة المسافر

الأمر الثاني: المشهور بين الأعلام أنَّ مبدأ احتساب المسافة يكون من آخر بيوت البلدة، ونُسِب إلى الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله) القول: بأنَّه من منزله. ولعلَّ النسبة نشأت من حكمه بالتقصير بمجرد الأخذ في الضَّرب، أي بمجرد تلبُّسه بالمشي؛ باعتبار أنَّ مجرد التلبُّس بالمشي يُدْرجه في عنوان المسافر.وفيه: أنَّه في غير محلِّه؛ لِعدم صِدْق السَّفر عليه، حتَّى تجري عليه أحكامه. فلا يُقال: إنَّه مسافر بمجرد التلبُّس بالمشي، بل يقال: إنَّه مريد السَّفر. وعليه، فأوَّل ما يصدق عليه أنَّه مسافر هو وقت الخروج من البلد، أي من آخر بيوت البلدة.

وقيل: إنَّ مبدأ احتساب المسافة من محلِّ الترخُّص أي عند خفاء الجدران والأذان لانقطاع حكم السَّفر بالدُّخول فيه، فيكون هو مبتدؤه. وفيه أوَّلاً: أنَّه قياس لا نقول به، بل نفرُّ منه فِرار الغنم من الذِّئب. وثانياً: أنَّ اعتبار بلوغ حدِّ الترخُّص إنَّما هو لأدلَّة خاصَّة التي هي السَّبب في الخروج عمَّا يقتضيه صِدْق اسم المسافر، ولولاها لكان يتعيَّن عليه التقصير بمجرد صِدْق اسم المسافر عليه، وهو من آخر البيوت.

إن قلت: إنَّ مبدأ وجوب التقصير من محلِّ الترخُّص يكشف عن عدم صِدْق اسم المسافر عليه من آخر البلدة. وعليه، فيكون إطلاق اسم المسافر عليه من اشتبهات العرف وتسامحاته. قلت: هذا مخالف للوجدان، بل ذهب بعضهم إلى إمكان صدق اسم المسافر عليه بمجرد تلبُّسه بالمشي، وبمجرد الخروج من المنزل.

إن قلت: هناك ملازمة بين وجوب التقصير عليه الذي لا يكون إلاَّ بالخروج عن محلِّ الترخُّص وبين احتساب المسافة. قلت: هذه دعوى لا شاهد عليها؛ لأنَّ الخطاب بالتقصير شيء، واحتساب المسافة شيء آخر، فتوقُّف وجوب التقصير على الخروج عن محلِّ الترخُّص للدَّليل، لا يستلزم ابتداء احتساب المسافة منه.

والخلاصة: أنَّ ما ذهب إليه المشهور هو الصَّحيح؛ لأنَّ المتبادر من الأمر بالتقصير في بريدَيْن أو ثمانية فراسخ إنَّما هو إرادته على النَّهج المعروف عند العرف في تحديد المنازل بالفراسخ والأميال، والعرف لا يلتفت في التحديد إلاَّ إلى المسافة الواقعة بين البلد الذي يخرج منه والذي يدخل فيه.

مثلاً مَنْ أراد السَّفر من النَّجف الأشرف إلى الحِلَّة، فيسأل عن مقدار المسافة بينهما، فإذا قيل له: إنَّ المسافة بينهما هي سبعة فراسخ ونصف، فإنَّ العرف يرى أنَّ هذه المسافة هي لكلِّ مَنْ أراد السَّفر من النَّجف الأشرف إلى الحِلَّة، من غيرِ التفات إلى منازل الأشخاص الواقعة في البلدين.وإلاَّ فربَّما كان مبدأ سَيْر بعضهم أوَّل النَّجف الأشرف ومسكنه الذي يقصده في الحِلَّة آخر بيوتها، بحيث إذا لُوحِظ من أوَّل أخذه في السَّير إلى خصوص المكان الذي ينزل فيه لبلغ المجموع ثمانية فراسخ فما فوق، ومع ذلك لا يعدُّ سفره في العرف إلاَّ سبع فراسخ ونصفاً.

ويشهد لذلك ذيل صحيحة زرارة ومحمَّد بن مسلم المتقدِّمة «وَقَدْ سَافَرَ رَسُولُ الله (صلّى الله عليه وآله) إِلَى ذِي خُشُبٍ، وَهِيَ مَسِيرَةُ يَوْمٍ مِنَ الْمَدِينَةِ، يَكُونُ إِلَيْهَا بَرِيدَانِ، أَرْبَعَةٌ وَعِشْرُونَ مِيلاً، فقصَّرَ وأفطرَ فصارتْ ستَّةً...».[1] فإنَّها دالَّة على جريان السُّنة باعتبار كون البريدَيْن بين البلد الذي يخرج منه، وبين البلد الذي يدخل فيه، لا بين المكان الذي يخرج منه والمكان الذي يدخل فيه.

وأمَّا ما في ذيل موثَّقة عمَّار المتقدِّمة «لَا يَكُونُ مُسَافِراً حَتَّى يَسِيرَ مِنْ مَنْزِلِهِ أَوْ قَرْيَتِهِ ثَمَانِيَةَ فَرَاسِخَ».[2] الدَّالَّة على أنَّ المدار على أحد الأمرين من القرية أو المنزل فهي ظاهرة بعد امتناعِ الحمل على التخيير بين الأقلِّ والأكثر‌ في احتساب المبدأ من المنزل، حيث لا يكون في قرية أو ضيعة، كما في أهل البراري السَّاكنين في بيوت الشَّعْر؛ ومن القرية أو الضَّيعة حيث يكون فيهما.

وبالجملة، فإنَّ مَنْ كان في البيداء يصدق السَّفر على أوَّل خطوة يخطوها، أي بمجرد الضَّرب في الأرض. ومَنْ كان في القرية أو البلد فلا يصدق عليه أنَّه مسافر إلاَّ بالخروج عنهما.

ثمَّ إنَّه بقي الكلام في البلاد العظيمة المتَّسعة جدّاً:فقد ذكر جماعة من الأعلام: أنَّ مبدأ الحساب منها إنَّما هو بالخروج عن المحَلَّة؛ لأنَّه به يتحقَّق اسم السَّفر؛ لأنَّ المسافة الواقعة فيها بنفسها ملحوطة عند العرف، بحيث يقولون سافر من محلَّة كذا إلى محلة كذا فرسخين أو فرسخاً، ونحو ذلك. وعليه، فإذا كان هناك مسافة شرعيَّة داخل المدينة فيحسب المسافة من آخر المحلَّة.ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا فرق بين البلدان من هذه الجهة، لا سيَّما في مثل البلدان المتَّصلة مَحَالاًّ ودُوْراً، فإنَّه طالما يمشي داخلها فلا يصدق عليه عنوان المسافر، بل هو مُرِيد السَّفر.نعم، إذا فرض أنَّ المدينة كبيرة جدّاً خارجة عن المعتاد، كما لو كان طولها أكثر من مائة فرسخ، وكانت المحلات فيها غير متَّصلة أو كان يفصل بين محلاَّتها نهر كبير، ونحو ذلك. ففي هذه الصُّورة يحسب المسافة من آخر المَحَلَّة؛ لِصدق عنوان المسافر عليه من حيث الخروج من محلَّته. ولكنَّ الظَّاهر: أنَّه لا يوجد مدينة بهذا الشكل في مثل هذه الأيام. وعليه، فتبقى الكبرى بلا صغرى، والله العالم.

الأمر الثالث: المعروف بين الأعلام قديماً وحديثاً أنَّه يشترط في التقصير الوثوق والاطمئنان بالمسافة، ولا يشترط العلم الوجداني الجزمي؛ لأنَّ الاطمئنان حجَّة ببناء العقلاء الممضى شرعاً. وهل يكفي الظَّنُّ؟

المعروف بين الأعلام: عدم كفايته؛ لعدم كونه حُجَّةً.وما عن الرَّوض منِ احتمال العمل هنا بمطلق الظَّنّ القويّ؛ لأنَّه مناط العمل في كثير من العبادات، فهو مجرد احتمال لا دليل عليه.

وهل يثبت بالشَّياع الذي لا يفيد الاطمئنان، وإنَّما يفيد الظَّنّ فقط؟

فالمعروف بينهم أيضاً: عدم حجَّيته خلافاً للشَّيخ الأنصاري (رحمه الله)، حيث ذكر أنَّ الأظهر اعتبار الشَّياع هنا وإنِ احتمل منعه بناءً على الأصل.ولكنَّ الإنصاف: أنَّ هناك موارد معدودة قام الدَّليل على اعتبار الشَّياع فيها، وهي سبعة: النسب، والموت، والملك المطلق، والوقف، والنِّكاح، والعتق، وولاية القاضي، وليس منها ما نحن فيه، فإذا لم يفدِ الاطمئنان فلا يكون حُجَّةً. وأمَّا البينة فلا إشكال في قيامها مقام العلم. وعليه، فلا فرق في قبولها في الموضوعات الخارجيَّة بين هذا الموضوع وغيرها. ومن المعلوم عدم اشتراط قبولها بالتداعي بين يدي الحاكم.

 

[1] وسائل الشيعة: باب 1 من أبواب صلاة المسافر ح4.

[2] وسائل الشيعة: باب 4 من أبواب صلاة المسافر ح3.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo