< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

40/06/26

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: أحكام الخلل(10)

ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لا فرق في شمول القاعدة للجُزْء المستقلِّ وغير المستقلِّ، فلو شكَّ المصلِّي في آية بعد الدُّخول في آية أخرى من الحَمْد أو السُّورة، لا يجب العود إلى تدارك المشكوك فيه، فضلاً عمَّا لو شُكّ في أوَّل السُّورة، وهو في آخرها.

ومجرد عدم ذكر هذه الأمور في الصَّحيحتَيْن لا يقتضي المنع عن شمول القاعدة لأجزاء الأجزاء بعد صدق الشَّك في الشَّيء بعد التجاوز عن محلِّه بالدُّخول في غيره، في قوله عليه السلام: (كلُّ شيءٍ شُكَّ فيه ممَّا قد جاوزه ودخل في غيره فَلْيمضِ عليه)؛ وكذا قوله عليه السلام في صحيحة زرارة (يا زرارة! إذا خرجتَ من شيءٍ، ثمَّ دخلتَ في غيرِه، فشكُّكَ ليس بشيءٍ)، وإلَّا لو كان مجرد عدم ذِكْر هذه الأمور في الصَّحيحتَيْن مانعاً عن شمول القاعدة لها لاقتضى المنع عن جريان القاعدة فيما لو شُكَّ في قراءة الفاتحة بعد الدُّخول في السُّورة، إذِ المذكور في الصَّحيح (قلتُ: شكَّ في القراءة، وقد ركع)، مع أنَّ القاعدة تجري.

نعم، الصَّحيحتان منصرفتان عن الشَّكِّ في أبعاض الشَّيءِ بعد الدُّخول في البعض الآخر منها؛ وكذا لو شكَّ المصلِّي في جُزءٍ من الكلمة بعد الدُخول في الجُزءِ الآخر منها.

وبالجملة، فدعوى انصراف الشَّيء -وكذا الغير في الصَّحيحتَيْن- عمَّا ذكر قريبة جدًّا.

وأمَّا ما ذكره من إرجاع قاعدة التجاوز إلى قاعدة الفراغ، فغير تامٍّ، وقد ذكرنا في علم الأصول أنَّهما قاعدتان مستقلِّتان؛ فلا قاعدة الفراغ ترجع إلى التجاوز، ولا قاعدة التجاوز ترجع إلى الفراغ.

الأمر الثاني: لو شكَ في الرُّكوع حال الهويِّ إلى السُّجود، أو شكَ في السُّجود حال النهوض إلى القيام، فهل تجري قاعدة التجاوز؟

وبعبارة أخرى: لو كان الغير الذي دخل في هو من المقدِّمات، لا من الأجزاء، فهل تشمله القاعدة؟

حكي عن بعض الأعلام جريان القاعدة في المقدِّمات، كجريانها في الأجزاء، وذهب الأكثر إلى عدم الجريان؛ لأنَّ جريان القاعدة مشروط بصدق التجاوز، والخروج عن المحلِّ المشكوك فيه، ولا يصدق هذا المعنى عند الدُّخول في المقدِّمات؛ لِعدم كونها من أجزاء الصَّلاة.

وبعبارة أخرى: يظهر من الرِّوايات اختصاص الغير، الذي اعتبر الدُّخول فيه في الحكم بالمضي، هو خصوص ما ترتَّب على المشكوك فيه شرعاً، والهويّ إلى السُّجود، والنُّهوض إلى القيام، ليسا ممَّا ترتَّب على المشكوك فيه شرعاً.

وممَّا يشهد لذلك قوله عليه السلام في صحيحة إسماعيل بن جابر المتقدِّمة (وإنْ شكَّ في السُّجود بعد ما قام فَلْيمضِ)، فإنَّه لو كان يكفي الدُّخول في المقدِّمات، لم يكن وجه للتمديد بالقيام عند الشَّكِّ في السُّجود، ولماذا لم يُحدَّد بالنُّهوض عند الشَّك في السُّجود، مع أنَّ النُّهوض إلى القيام أقرب من السُّجود إلى القيام، ويصدق على النُّهوض أنَّه غير السُّجود.

وعليه، فالتحديد بالقيام يدلُّ على عدم كفاية الدُّخول في المقدِّمات.

إن قلت: يظهر من صحيحة عبد الرَّحمان بن أبي عبد الله عدم الالتفات إلى الشَّكِّ في الرُّكوع بعد الهويِّ إلى السُّجود (قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام رجل أهوى إلى السُّجود، فلم يدرِ أكع أم لا يركع، قال عليه السلام: قد ركع)(1)، وهذا يدلُّ على كفاية الدُّخول في المقدِّمات في جريان قاعدة التجاوز.

__________

(1) الوسائل باب13 من أبواب الركوع ح6.

 

وقد أجاب بعض الأعلام عن ذلك: بأنَّ للهويِّ إلى السُّجود عدَّة مراتب، فإنَّه من مبدأ التقوُّس إلى وضع الجبهة على الأرض، يكون كلّه هوياً، فيحمل الهويُّ في الصَّحيحة على آخر مراتبه الذي يتحقَّق به السُّجود، فلا إشكال حينئذٍ.

وفيه: أنَّه إذا تحقَّق السُّجود فلا يصدق الهوي.

وبعبارة أخرى: لا يجتمع الهويُّ إلى السُّجود مع السُّجود، فهذه المرتبة الأخيرة إن صدق عليها السُّجود فلا يصدق عليها الهويُّ، وإن صدق عليها الهويُّ فلا يصدق عليها السُّجود.

والإنصاف: أن يقال: إنَّ الصَّحيحة لا تدلُّ على جريان قاعدة التجاوز في الشَّكِّ في الرُّكوع حين الهويّ إلى السُّجود؛ لأنَّ الموجود في الصَّحيحة هو لفظ (أهوى) بصيغة الماضي، وهو يدلُّ على تحقُّق الهويِّ إلى السُّجود حصوله، فيكون موردها الشَّكّ في الرُّكوع بعد الوصول إلى السُّجود.

نعم، لو كان الموجود في الصَّحيحة هو لفظ (يهوي) بصيغة المضارع لكانت دالَّةً على جريان القاعدة عند الشَّكّ في الرُّكوع حال الهوي، ولو لم يصل إلى السُّجود.

ولكنَّك عرفت أنَّ الموجود هو بصيغة الماضي.

ثمَّ إنَّه لو قطعنا النَّظر عمَّا ذكرناه، وعملنا بالصَّحيحة، فلا بدَّ من الاقتصار على موردها -وهو الشَّك في الرُّكوع عند الهويِّ إلى السُّجود- وعدم التعدِّي منه إلى غيره من المقدِّمات.

الأمر الثالث: المعروف بين الأعلام أنَّه لا فرق في الغير المترتِّب على الجُزء المشكوك فيه بين أن يكون من الأجزاء الواجبة، أو المستحبَّة، بل لا فرق بين أن يكون جزءاً مستحبّاً، كالقنوت على أحد الوجهين، أو كان مستحبّاً في حال الصَّلاة، وإن كان خارجاً عن حقيقتها، كالقنوت على الوجه الآخر، ولا بين كونه من المستحبَّات الدَّاخلة والمستحبَّات الخارجية، كالتعقيب ونحوه، فلو شكَّ المصلِّي في الجزء الأخير، وهو في حال التعقيب تجري فيه القاعدة.

ويدلُّ على ذلك صحيحة زرارة المتقدِّمة (قال قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: رجل شكَّ في الأذان وقد دخل في الإقامة ؟ قال: يمضي ...)، فإنَّ الأذان والإقامة من المستحبات الخارجة عن الصَّلاة المتقدِّمة عليها، فالمستحبات الداخلية أولى بذلك.

مضافا إلى أنَّه يصدق عليه قوله عليه السلام في ذيل الصَّحيحة : (يا زرارة! إذا خرجتَ من شيء، ثمَّ دخلتَ في غيره، فشكُّك ليس بشيءٍ)، والله العالم.

الأمر الرَّابع: المشهور بين الأعلام، بل لعلَّه لا خلاف فيه، هو أنَّ المضيَّ على المشكوك فيه -في قاعدة التجاوز- عزيمة لا رخصة، فلا يجوز الإتيان بالمشكوك فيه، خلافاً للمصنِّف رحمه الله في الذِّكرى، حيث احتمل أن يكون ذلك من باب الرُّخصة.

وقد يستدلُّ للمشهور: بظهور الأمر في وجوب المضيِّ في الرِّوايات، وعدم الالتفات إلى الشَّكِّ، وأنَّه يجب البناء على وجود المشكوك فيه، كما في قوله عليه السلام: (بلى قد ركعت)، فإنَّه مع هذا الأمر، وهذا البناء، لا يجوز العود إلى المشكوك فيه.

وأمَّا وجه احتمال كونه من باب الرُّخصة: فهو إمكان دعوى ورود الأمر بالمضي مورد توهُّمِ الحظر، باعتبار أنَّ الأصل عدم الإتيان بالمشكوك فيه.

وعليه، فلا يفهم منها أزيد من الجواز، ولكنَّه خلاف الظَّاهر جدًّا.

ومن هنا لم ينسب الخلاف صريحاً إلى أحد على الإطلاق.

نعم، كونه عزيمة لا يتوقَّف على كون الأمر بالمضي للوجوب، بل يكفي في ذلك كونه متفرِّعاً على حكم الشَّارع، بأنَّ شكَّه ليس بشيءٍ، كما في صحيحة زرارة، التي ورد فيها الأمر بالمضي متفرِّعاً على هذه القاعدة؛ فإنَّ مفادها أنَّ الإتيان بالمشكوك فيه بقصد المشروعيَّة يكون تشريعاً وملحقاً بالزِّيادة العمديَّة.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo