< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

40/06/05

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: بقية الصَّلوات المستحبَّة(6)

ومنها: للاستكشاف بالمصحف الكريم، والظَّاهر أنَّ فيه رواية واحدةً، وهي رواية أبي علي اليسع القمي (قال: قلتُ لأبي عبد الله عليه السلام: أُرِيد الشَّيء فأستخير الله فيه فلا يوفَّق فيه الرأي، أفعله أو أدعه؟ فقال: اُنْظر إذا قمتَ إلى الصَّلاة -فإنْ الشَّيطان أبعد ما يكون من الإنسان إذا قام إلى الصَّلاة- أيّ شيءٍّ يقع في قلبِك فخُذْ به، وافتتحِ المصحف فانظر إلى أوَّل ما ترى فيه فخُذْ به -إنْ شاء الله-)(1)، وهي ضعيفة بجهالة أبي عليّ اليسع القمي.

ويظهر من هذه الرِّواية أنَّه إذا لم يحصل العزم بعد الصَّلاة والاستخارة وبقاء الخيرة يعوِّل على الاستكشاف بالمصحف الشَّريف.

وإن كان الإنصاف: أنَّه يجوز ابتداءً التعويل على هذا الطَّريق، كما سيتضح لك قريباً -إنْ شاء الله تعالى-.

ثمَّ إنَّه هل المراد بأوَّل ما ترى فيه من الآيات، أو أوَّل الصفحة؟ وجهان.

نعم، لا عبرة بالمقام والسَّوق، بل المدار على ما يتبادر من لفظ الآية، فلو أنَّه وقع نظره على قوله عزَّوجل: {إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ} -كما وقع لبعضٍ حيث استخار على المهاجرة لطلب العلم فوقع نظره على هذه الآية الكريمة فهاجر، فوفِّق لِما أراد وبلغ المراد- لكانت الاستخارة حسنة جيِّدة.

ولا نعتبر المقام لأنَّه مقام استهزاء، ونقول: إنَّ الاستخارة غير جيِّدة.

ولكن لا يخفى أنَّ ملاحظة المقام إنَّما هي للعارف الماهر.

ثمَّ إنَّه هل المدار على أوَّل آية في صحفة النَّظر، أو على أوَّل الآية من الصفحة السَّابقة على صفحة النَّظر، إذِ الفرض كون محلّ النَّظر بعض الآية في هذه الصفحة، والبعض الآخر في الصفحة السَّابقة، وجهان.

ثمَّ إنَّه إذا لم يتضح له المعنى يجدّد مرَّة ثانيةً، وهكذا حتَّى يوفَّق للمطلوب .

هذا، وقد أنكر ابن إدريس رحمه الله الاستخارة بالرِّقاع والبنادق والقُرْعة، واقتصر في الاستخارة على ذات الصَّلاة والدُّعاء، ثمَّ فعل ما يقع في القلب.

قال في الحدائق: (وقد ذكر السَّيد الزَّاهد العابد المجاهد رضيّ الدِّين على بن طاووس (عطَّر الله مرقده) في رسالة الاستخارات أنواعاً عديدة في الاستخارة بالرِّقاع والبنادق والقرعة وأنكرها ابن إدريس تمام الإنكار، وقال: إنَّها من أضعف أخبار الآحاد وشواذِّ الأخبار، لأنَّ رواتها فطحيَّة ملعونون، مثل زرعة وسماعة وغيرهما، فلا يلتفت الى ما اختصَّا بروايته، قال: والمحصِّلون من أصحابنا ما يختارون في كُتُب الفِقه إلَّا ما اخترناه، ولا يذكرون البنادق والرِّقاع و القُرْعة إلَّا في كُتُب العبادات دون كُتُب الفِقه، و ذَكَر أنَّ الشَّيخَيْن وابن البرَّاج لم يذكروها في كُتُبهم الفقهيَّة، ووافقه المحقِّق هنا، فقال: وأمَّا الرِّقاع وما يتضمَّن «اِفعل ولا تفعل»، ففي حيِّز الشُّذوذ، فلا عبرة بها).

وقد ردَّ العلَّامة رحمه الله في المختلف على ابن إدريس رحمه الله قال: (وهذا الكلام في غاية الرَّداءة، وأيُّ فارق بين ذِكْره في كُتُب الفِقه وكُتُب العبادات، فإنّ كُتُب العبادات هي المختصَّة به، ومع ذلك فقد ذَكَره المفيد في المُقْنِعة وهو كتاب فِقه وفتوى، وذَكَره الشَّيخ في التهذيب وهو أصل الفِقه، و أيُّ محصِّل أعظم من هذَيْن، وهل استُفِيد الفِقه إلَّا منهما، وطَلَب الخِيرة بالدُّعاء لا ينافي ما قلناه، فإنَّها مشتملة على ذلك؛ وأمّا نسبة الرِّواية إلى زُرْعة ورفاعة فخطأ، فإنَّ المنقول فيه روايتان ليس فيهما زُرْعة ولا رفاعة)، وهو جيِّد.

وعن ابن طاووس رحمه الله في كتاب الاستخارات -ردّاً على السَّرائر أيضاً-: (أنَّه ما روينا عن زُرْعة وسماعة شيئاً، وإنَّما روينا عمَّنْ اعتمد عليه ثقات أصحابنا...).

قال المصنِّف رحمه الله في الذِّكرى: (وإنكار ابن إدريس رحمه الله الاستخارة بالرِّقاع لا مأخذ له، مع اشتهارها بين الأصحاب، وعدم رادٍّ لها سواه، ومَنْ حدا حذوه،كالشَّيخ نجم الدِّين في المعتبر، حيث قال: هي في حيِّز الشُّذوذ فلا عبرة بها؛ وكيف تكون شاذَّةً وقد دوَّنها المحدِّثون في كُتُبهم، و المصنِّفون في مصنفاتهم؟! وقد صنّف السَّيِّد العالم العابد، صاحب الكرامات الظَّاهرة والمآثر الباهرة، رضيّ الدِّين أبو الحسن عليّ بن طاوس الحسني- رحمه اللّٰه- كتاباً ضخماً في الاستخارات، و اعتمد فيه على رواية الرِّقاع، و ذكر من آثارها عجائب وغرائب أراه اللّٰه تعالى إياها، وقال: إذا توالى الأمر في الرِّقاع فهو خير محض، وإنْ توالى النَّهي فذاك الأمر شرّ محض، وإنْ تفرَّقت كان الخير والشَّر موزَّعاً بحسب تفرُّقها على أزمنة ذلك الأمر بحسب ترتُّبها).

وفي الفوائد المليَّة: (ونحن قد جرَّبنا ما ذكره ابن طاووس فوجدناه كما قال...).

وأنا العبد الفقير استعملت خِيرة ذات الرِّقاع كثيراً في الأمور المهمَّة، فكنتُ أتعجب من آثارها.

وقال الشَّهيد الثاني رحمه الله في الرَّوض: (إنَّ ذات الرِّقاع السِّتّ أشهر الاستخارات...).

وفي مفتاح الكرامة: (أنَّ ابن طاووس قدِ ادَّعى الإجماع على الاستخارة بالرِّقاع ممَّنْ روى ذلك من أصحابنا ومن الجمهور، لأنَّه نقل هذه الاستخارة عن جماعة كثيرة من العامَّة، وجعل الأخبار الواردة بالدُّعاء، وما يقع في الخاطر وغيرها محمولةً على الضَّرورة، كعدم التمكُّن من الكتابة ولو لِعدم معرفيتها...).

والخلاصة: أنَّ ما ذكره ابن إدريس رحمه الله ليس تامّاً.

أقول: أمَّا الاستخارة بالمعنى الثاني التي يقصد بها تعرف ما فيه الخِيرة، كما هو المعروف في هذه الأزمنة، فهي راجحة عقلاً وشرعاً، لأنَّ الدَّاعي إلى فِعْلها هو حُسْن الظَّنّ بالله سبحانه وتعالى، وأنَّه خَيْر مستشار ومشير، ولا غشَّ مَنْ استنصحه واستخاره وتوكَّل عليه.

نعم، الاعتماد على العلائم المتقدِّمة والمجعولة طريقاً لاستكشاف ما فيه المصلحة لا يقصد بها التوظيف، طالما لم يثبت بطريق معتبر.

وعليه، فيصحُّ الاعتماد على جميعها، بل في الواقع لا ينحصر طريق المشاورة بما في ذُكِر في الرِّقاع والبنادق والقُرْعة، بل يشمل كلَّ ما يمكن استكشافه من الطُّرق لِمعرفة رُشْده وإنْ لم يكن لها أثر في النصوص بغير الدُّعاء والتوسُّل والتضرُّع إلى الله تعالى، لأنَّه لم يأتِ بهذه العلائم والطُّرق بقصد التوظيف الخاص، والتَّعبُّد حتَّى يقع محذور التشريع.

وقد عرفت أنَّ هذه العلائم والطُّرق كلّها راجحة عقلاً وشرعاً، لأنَّها ناشئة من حُسْن الظَّنّ بالله ، وأنّه لا يخيب رجاء من رجاه وتوكَّل عليه.

ثمَّ إنَّه بقي الكلام في التفؤُّل بالقرآن الكريم، والفرق بينه وبين الاستخارة بالقرآن الكريم.

أقول: روى الكُلَيْني رحمه الله في الكافي عن عدَّة من أصحابنا عن سهل بن زياد عن محمَّد بن عيسى عن بعض رجاله عن أبي عبد الله عليه السلام : (لا تتفأَّل بالقرآن)(2).

وفيها: أنَّ الرِّواية ضعيفة بسهل بن زياد، وبالإرسال.

وأمَّا الفرق بينهما، فقد ذكر بعض الأعلام أنَّ الفرق بين التفؤل والاستخارة هو أنَّ التفؤُّل إنَّما يكون فيما سيقع ويتبيَّن الأمر فيه، كشفاء المريض أو موته، ووجدان الضالَّة وعدمه، ومرجعه إلى تعجيل تعرف ما في علم الغيب .

وقد ورد النَّهي عنه وعن الحكم فيه بنحو القطع والجزم، وهذه بخلاف الاستخارة فإنَّها طلب لمعرفة الرُّشْد في الأمر الذي يراد فعله أو تركه، وتفويض الأمر إلى الله تعالى في التعيين واستشارته.

وعليه، فالفرق بينهما واضح، وإنَّما يمنع التفؤُّل بالقرآن -وإنْ جاز في غيره إذا لم يحكم بوقوع الأمر على القطع والجزم- لأنَّه إذا تفأَّل بغير القرآن ثمَّ تبيَّن خلاف فلا بأس، بخلاف ما إذا تفأَّل بالقرآن، ثمَّ تبيَّن خلافه فإنَّه يفضي إلى إساءة الظَّنّ بالقرآن، ولا يتأتى ذك في الاستخارة لبقاء الإبهام فيه بعدُ، وإنْ ظهر السُّوء، لأنَّ العبد لا يعرف خيره من شرِّه، هكذا قيل في الفرق بينهما.

ولكنَّ الظَّاهر أنَّ التفؤُّل إنْ لم يكن هو أقرب إلى موضوع الاستخارة من تعرُّفِ علم الغيب فلا أقلّ أنَّه بالنسبة إليهما على حدٍّ سواء لِصدق التفؤُّل على كلٍّ منهما.

والذي يهوِّن الخطب أنَّ الرِّواية ضعيفة السَّند.

ثمَّ لو قطعنا النَّظر عن ضعف السَّند، وقلنا: إنَّ التفؤُّل غير الاستخارة فنقول: إنَّ النَّهي عن التفؤُّل إنَّما هو فيما لو كان على نحو القطع بالجزم بحصول الأمر الفلاني أو عدم حصوله، لا ما كان على نحو الظَّنّ، بحيث إذا تخلَّف عن الواقع لا يحصل في نفس المتفائل سوء الظّنّ بالقرآن الكريم.

ولعلّ المراد بالنهي إنَّما هو لعامَّة الناس الذين لا يعلمون الكيفيَّة، ولا يفهمون المعنى، والمراد وإذا تخلَّف الأمر يظنّون ظنّ السُّوء بالقرآن الكريم، والله العالم بحقائق أحكامه.

___________

(1) الوسال باب6 من أبواب صلاة الاستخارة وما يناسبها ح1.

(2) الوسائل 358 من أبواب قراءة القرآن ح2.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo