< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/27

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المعاملات/ المكاسب المحرَّمة(18)

وأمَّا القول الرَّابع -وهو حرمة تصوير ذي الرُّوح المجسَّم منه فقط-: فقدِ استُدلّ له بثلاث صِحاح:

الأوَّل: صحيحة أبي العبَّاس عن أبي عبد الله عليه السلام (في قول الله عزَّوجل: {يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ}، فقال: واللهِ ما هي تماثيل الرِّجال والنّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه)(1)، وذِكْر الرِّجال والنَّساء إنَّما هو على سبيل المثال، وإلَّا فالمراد ذو الرُّوح.

الثانية: صحيحة زرارة عن أبي جعفر عليه السلام (قال: لا بأس بتماثيل الشَّجر)(2).

والاستدلال بها على ثبوت البأس في تماثيل الحيوان مبنيّ على حجيَّة مفهوم اللقب، وقد عرفت أنَّه غير حجَّة، بل هو من أضعف المفاهيم.

الثالثة: صحيحة محمَّد بن مسلم (قال: سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن تماثيل الشَّجر والشَّمس والقمر، فقال: لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان)(3)، ووالد البرقي الواقع في سند صحيحة زرارة، وصحيحة محمَّد بن مسلم، وإن لم يكن موثَّقاً بالخصوص، إلَّا أنَّه ممدوح، بل هو من المعاريف الكاشف ذلك عن وثاقته.

ووجه الاستدلال بهذه الرِّوايات هو دلالتها على حرمة تصوير ذي الرُّوح إذا كان مجسّماً باعتبار أنَّ التماثيل ظاهرة في المجسَّمة فقط، كما هو المفهوم عرفاً منها.

إن قلت: إنَّ هذه الصِّحاح دليل للقول الثالث، وهو حرمة تصوير ذي الرُّوح مطلقاً، سواء أكان مجسَّما أم لا، لأنَّ التماثيل المضافة إلى الشَّمس والقمر يراد منها النَّقش.

وعليه، فالتماثيل ليست مختَّصةً بالمجسَّمة.

وفيه أوَّلاً: أنَّه يمكن إرادة التجسيم من التمثال المضاف إلى الشَّمس والقمر، وإن لم يكن الغالب كذلك.

وثانياً: إنَّ إرادة النَّقش من التماثيل المضافة إلى الشَّمس والقمر لا يكون قرينةً على إرادة النَّقش من التماثيل المضافة إلى الحيوان.

والخلاصة إلى هنا: أنَّ المحرَّم من التصاوير هو تصوير الحيوان المجسَّم فقط.

نعم، الأحوط الأولى عدم تصوير الحيوان غير المجسَّم، والله العالم.

بقي عندنا أمور لا بدّ من التنبيه عليها:

الأوَّل: هل يحرم تصوير الملك والجِنّ أم لا؟

ذهب جماعة من الأعلام إلى الإلحاق، منهم صاحب الجواهر رحمه الله، حيث قال: (والظَّاهر إلحاق تصوير الملك والجِنّ بذلك...).

أقول: قد يستدلّ للإلحاق بثلاث روايات:

الأُولى: صحيحة محمَّد بن مسلم المتقدِّمة، حيث ورد في الذَّيل: (لا بأس، ما لم يكن شيئاً من الحيوان)(4).

وقدِ استدلّ بهذه الصَّحيحة السَّيد أبو القاسم الخوئي رحمه الله، حيث قال: (إنَّ المراد من الحيوان هنا ما هو المعروف في مصطلح أهل المعقول، من كونه جسماً حسَّاساً متحرِّكاً بالإرادة، ومن البديهي أنَّ هذا المفهوم يصدق على كلِّ مادة ذات روح، سواء أكانت من عالم العناصر أم من عالم آخر هو فوقه؛ وعليه فلا قصور في شمول صحيحة محمَّد بن مسلم للملَك والجنّ والشَّيطان، فيحكم بحرمة تصويرهم -إلى أن قال:- وإن أبيت إلَّا إرادة المفهوم العرفي من الحيوان فاللازم هو القول بانصرافه عن الإنسان أيضاً، كانصرافه عن الملك والجنّ...).

__________

(1)و(2)و(3) الوسائل باب94 من أبواب ما يكتسب به ح1و2و3.

(4) الوسائل باب94 من أبواب ما يكتسب به ح3.

 

وفيه: أنَّه لا إشكال في أنَّ المفهوم عرفاً من الحيوان معنًى خاص لا ينطبق على الملك والجنّ والشيطان.

ومن المعلوم أنَّ المعنى العرفي مقدم على المعنى اللغوي عند التعارض.

وأمَّا القول: بأنَّ لازم المعنى العرفي هو القول بالانصراف عن الإنسان أيضاً.

ففيه: أنَّ هذا إنَّما يتمّ لو لم يصرِّح في صحيح أبي العبَّاس المتقدِّمة بتحريم تجسيم الإنسان (فقال: واللهِ ما هي تماثيل الرِّجال والنِّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه).

الثانية: رواية تحف العقول عن الصَّادق عليه السلام، وهي طويلة جدًّا، حيث ورد فيها (وأمَّا تفسير الصِّناعات فكلَّما يتعلّم العباد أو يعلِّمون غيرهم من أصناف الصِّناعات، مثل الكتابة والحساب والتِّجارة والصِّياغة والسِّراجة والبناء والحِياكة والقصارة والخياطة، وصنعة صنوف التصاوير ما لم يكن مثل الرُّوحاني...)(2).

وجه الاستدلال فيها: هو صدق الرُّوحاني عليهم.

وفيه: أنَّ الرِّواية ضعيفة بالإرسال، فلا يمكن الاعتماد عليها.

وهناك كلام للسَّيد اليزدي في حاشية المكاسب، وحاصله: أنَّ مفهوم رواية تُحَف العقول يعارِض منطوق صحيح ابن مسلم تعارض العامَّيْن من وجه، فإنَّ مقتضى منطوق الصَّحيح جواز تصوير الملَك والجنّ، ومقتضى مفهوم رواية تحف العقول عدم الجواز، وبما أنَّه لا مرجِّح لأحدهما من حيث الدَّلالة، فلا بدّ من الرُّجوع إلى مرجِّحات السَّند، وبما أنَّ الصَّحيحة أقوى من حيث السَّند فلا بد من ترجيحها.

وفيه أوَّلاً: أنَّ رواية تُحَف العقول ضعيفة كما عرفت.

وثانياً -ما ذكرناه في علم الأصول-: أنَّ المرجِّح الصُّدوري -أي السَّندي- غير ثابت، بل المعتبر عندنا من المرجِّحات في باب التعادل والتراجيح، أمران فقط:

الأوَّل: موافقة الكتاب العزيز، والسُّنة النَّبويَّة الشَّريفة، أي المرجِّح المضموني.

والثاني: المرجِّح الجِهتي، أي مخالفة العامَّة، وذلك لِحسنة الرَّاوندي عن أبي عبد الله عليه السلام أنَّه قال: (إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فاعرضوهما على كتاب الله، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فردُّوه، فإنْ لم تجدوه في كتاب الله فاعرضوهما على أخبار العامَّة، فما وافق أخبارهم فذروه، وما خالف أخبارهم فخذوه).

وعليه، فبما أنَّه لا يوجد شيء من المرجِّح المضموني، ولا المرجِّح الجهتي، فمقتضى القاعدة هو التساقط في مورد الاجتماع، وحيث إنَّه لا يوجد عندنا عموم فوقاني يرجع إليه، لأنَّ الرِّوايات الدَّالة على حرمة التصوير مطلقاً كلّها ضعيفة، كما عرفت عند الاستدلال للقول الأوَّل من الأقوال الأربعة المتقدِّمة، فلا بدّ حينئذٍ من الرُّجوع إلى البراءة، وهي تقتضي جواز تصوير الملَك والجنّ.

الرِّواية الثالثة: صحيح أبي العبَّاس المتقدِّمة، قال السَّيِّد أبو القاسم الخوئي رحمه الله: (نعم، يمكن استفادة الحرمة من صحيحة البَقْبَاق المتقدِّمة، بدعوى أنَّ الظَّاهر من قوله عليه السلام فيها: واللهِ ما هي تماثيل الرِّجال والنِّساء، ولكنَّها الشَّجر وشبهه(3)، هو المقابلة بين ذي الرُّوح وغيره من حيث جواز التصوير وعدمه، وذكر الأمور المذكورة فيها إنَّما هو من باب المثال).

وفيه: أنَّ ذِكْر الأمور في الصَّحيح، وإن كان من باب المثال، إلَّا أنَّ المراد من ذي الرُّوح هو المعنى العرفي له، وهو منصرف قطعاً عن الملك والجنّ.

وعليه، فهذا الدَّليل الثالث غير تامّ أيضاً.

والخلاصة إلى هنا: أنَّه لا يحرم تصوير الملَك والجنّ، والله العالم.

 

__________

(1) الوسائل باب94 من أبواب ما يكتسب به ح1.

(2) الوسائل باب2 من أبواب ما يكتسب به ح1.

(3) الوسائل باب94 من أبواب ما يكتسب به ح1.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo