< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/22

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المعاملات/ المكاسب المحرَّمة(16)

إذا عرفت ذلك، فنقول: أمَّا الطَّائفة الثانية من الرِّوايات الدَّالة على المنع مطلقاً فهي ضعيفة السَّند، فليست بحُجَّة.

وكذا الطَّائفة الرَّابعة المفصِّلة بين قَوْل الصِّدق والباطل.

وأمَّا الطائفة الثالثة: فإنْ حَمْلنا الكراهة فيها على غير الكراهة المصطلحة، بأن قلنا: إنَّها دالَّة على التحريم، فتكون داخلةً في الطَّائفة الثانية من الرِّوايات.

ويكون مقتضى الجمع بينها وبين الطَّائفة الدَّالة على الجواز مطلقاً: هو حَمْلُ الأخبار الدَّالة على المنع على النَّوح بالباطل، حيث إنَّ النياحة الجاهليَّة كانت كذلك، فإنَّهم يصفون الميت بأوصاف كاذبة؛ وحَمْلُ الطَّائفة المجوِّزة على النياحة بالحقّ.

وأمَّا إذا قلنا: بأنَّ المراد من الكراهة هي الكراهة بالمعنى المصطلح عليه عند الفقهاء، كما لعلَّه الأقرب، فيكون الجمع حينئذٍ بين الطَّائفة الأُولى المجوِّزة مطلقاً، وبين الطَّائفة الثالثة، هو حَمْل الأخبار المجوِّزة على الكراهة، خلافاً لِما استظهرناه في مبحث الأموات من أنَّها جائزة بلا كراهة، إلَّا على الحسين عليه السلام والشُّهداء معه عليه السلام، بل وغيره، من النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) والأئمَّة عليهم السلام، بل يمكن إلحاق العلماء بهم؛ هذا كلُّه بالنسبة إلى الحكم التكليفي.

وأمَّا بالنسبة إلى الحكم الوضعي، فقد عرفت أنَّ بَعْضَ الرِّوايات دلَّت على جواز الكَسْب مطلقاً، كصحيحة أبي بصير المتقدِّمة (لا بأس بأجر النائحة التي تنوح على الميِّت)، وبَعْضَها دالّ على المنع مطلقاً، ولكنَّه ضعيف السَّند، كما تقدَّم.

وثالث دالّ على الجواز إذا كان بالحقّ، كما في مرسلة الفقيه المتقدِّمة، ولكنَّها أيضاً ضعيفة بالإرسال.

ورابع دالّ على الجواز على الكراهة، كما في موثَّقة سماعة المتقدِّمة.

وخامس دالّ على الجواز إذا لم تشارِط، كما في موثَّقة حنان المتقدِّمة.

وعليه، فبما أنَّ ما دلَّ على المنع مطلقاً، وما دلَّ على الجواز إذا كان بالحقِّ ضعيف السَّند، فيبقى عندنا ما دلَّ على الجواز مطلقاً، وما دلَّ على الكراهة، وما دلَّ على الجواز إذا لم تشارِط.

ومقتضى الجمع بين ما دلَّ على الجواز مطلقاً، وما دلَّ على الكراهة: هو حمل ما دلَّ على الجواز على أنَّه مكروه، كما أنَّ مقتضى الجمع بينها وبين موثَّقة حنان هو حَمْل الجواز مع الشَّرط على الكراهة الشَّديدة.

وأمَّا القول: بأنَّ الرِّوايات المجوِّزة مقيَّدة بموثَّقة حنان، أي أنَّه يجوز الكسب إذا لم تشارط، فبعيد، إذ لا مانع من الشَّرط طالما أنَّ العمل محلَّل، ولا يظهر من موثَّقة حنان أنَّ المعاملة تفسد مع الشَّرط، والله العالم.

قوله: (وعَمَل الصُّوَر المجسَّمة، قاله الشَّيخان، وطرد القاضي التحريم في غير المجسَّمة، والحلبي حرَّم التماثيل وأطلق، وروى أبو بصير عن الصَّادق عليه السلام: لا بأس بما يبسط منها ويفترش ويوطأ، إنَّما يكره منها ما نصب على الحائط وعلى السَّرير، وسأله عن الوسائد فيها التماثيل)

من جملة أفراد ما حرم لعينه، والمعبَّر عنه بالمحرَّم في نفسه، عمل الصُّوَر المجسَّمة، وغير المجسَّمة، على ما ذهب إليه جماعة من الأعلام.

وتوضيح المسألة: أنَّه لا خلاف بين علماء المسلمين الخاصَّة منهم، والعامَّة، في تحريم التماثيل في الجملة، وإنَّما اختلفوا في التفاصيل على أقوال:

الأوَّل: ما ذهب إليه بعض الأعلام، على ما يظهر من كلماتهم، وهو حرمة التصاوير مطلقاً، سواء أكانت مجسَّمة أم غير مجسَّمة، وسواء أكانت لذوات الأرواح أم لغيرها، منهم ابن البرَّاج رحمه الله، على ما حُكِي عنه، وظاهر أبي الصَّلاح الحلبي رحمه الله.

الثاني: حرمة التصاوير مطلقاً -أي من ذي الرُّوح وغيره- إذا كانت مجسَّمة، وقد نسب ذلك إلى الشَّيخين وسلَّار (رحمهم الله جميعاً).

الثالث: حرمة التصاوير من ذوات الأرواح، سواء أكانت مجسَّمة أم لا، ذهب إليه الشَّيخ الأنصاري رحمه الله وكثير من الأعلام، لاسيَّما متأخِّري المتأخِّرين.

الرَّابع: حرمة تصاوير ذوات الأرواح إذا كانت مجسَّمة فقط، ذهب إليه جمع غفير من الأجلاء، وهو الإنصاف، كما سيتضح لك -إن شاء الله تعالى-.

إذا عرفت ذلك، فنقول:

أمَّا القول الأوَّل: فقدِ استُدلّ له بجملة من الرِّوايات:

منها: رواية محمَّد بن مسلم عن أبي عبد الله عليه السلام عن أبيه عن آبائه عليهم السلام (قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: إيَّاكم وعَمَل الصُّوَر، فإنَّكم تُسْألون عنها يوم القيامة...)(1)، وهي ضعيفة بالقاسم بن يحيى وجدِّه الحسن بن راشد، فإنَّهما غير موثَّقين.

ومنها: رواية عبد الله بن طَلْحة عن أبي عبد الله عليه السلام (أنَّه قال: مَنْ أكل السُّحت سبعة -إلى أن قال:- والَّذين يصوِّرون التماثيل)(2)، وهي ضعيفة بعبد الله بن طَلْحة، فإنَّه غير موثَّق، وأيضاً فإنَّ جعفر بن محمَّد بن شُرَيح الحضرمي مجهول، وطريق الشَّيخ إلى كتابه ضعيف.

ومنها: ما في لُبّ اللباب للقطب الرَّاوندي رحمه الله (قال: رُوي أنَّه يخرج عُنُق من النَّار، فيقول: أين مَنْ كذب على الله؟ وأين مَنْ ضادَّ الله؟ وأين مَنِ استخفَّ بالله؟ فيقولون: ومَنْ هذه الأصناف الثلاثة -إلى أن قال:- ومَنْ صوَّر التماثيل فقد ضادَّ الله...)(3)، وهي ضعيفة بالإرسال.

ومنها: ما عن الشَّهيد الثاني رحمه الله في منية المريد عن النَّبيّ (صلى الله عليه وآله) (أنَّه قال: أشدّ النَّاس عذاباً يوم القيامة رجل قَتَل نبيّاً، أو قَتَله نبيّ، ورجل يُضِلُّ النَّاس بغير علم، أو مصوِّر يصوِّر التماثيل)(4)، وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال.

ومنها: النَّبويّ (أنَّ أشدَّ النَّاس عذاباً عند الله يوم القيامة المصوِّرون)(5)، وهو ضعيف جدًّا، وكذا غيرها من الرِّوايات الضَّعيفة السَّند.

أضف إلى ذلك: أنَّ كلمة التماثيل الواردة في بعض الرِّوايات المتقدِّمة ظاهرة في المجسَّمة، ولا تشمل غيرها.

والخلاصة: أنَّ هذا القول ضعيف جدًّا، لا سيَّما أنَّ هناك جملة من الرِّوايات المعتبرة دلَّت على جواز تصوير غير ذوات الأرواح، سواء المجسَّمة منها أم غيرها، وسنذكر بعضها -إن شاء الله تعالى-.

القول الثاني: قدِ استُدلّ له بالرِّوايات النَّاهية عن تصوير التماثيل التي تقدَّم بعضها، حيث إنَّ التماثيل ظاهرة في المجسَّمة.

ولكنَّك عرفت أنَّها ضعيفة السَّند.

ومنها: ما رواه الأصبغ بن نُبَاتة عن أمير المؤمنين عليه السلام (قال: قال أمير المؤمنين عليه السلام: مَنْ جدَّد قبراً، أو مثَّل مِثالاً، فقد خرج عن الإسلام)(6)، وهي ضعيفة بمحمَّد بن سنان.

وأمَّا أبو الجارود فقد وثَّقناه، وقد ذكرنا معنى هذا الحديث، واختلاف النُسَخ فيه في مبحث الأموات، فراجع(7).

أضف إلى ذلك، أنَّ هناك جملة من الرِّوايات دلَّت على جواز تصوير التماثيل من غير ذي الرُّوح، وسيأتي بعضها -إن شاء الله تعالى-.

_______

__________

(1)و(2) المستدرك باب75 من أبواب ما يكتسب به ح1و2.

(3)و(4) المستدرك باب75 من أبواب ما يكتسب به ح3و4.

(5) سُنَن البيهقي.

(6) الوسائل باب43 من أبواب الدَّفن ح1.

(7) مسالك النفوس إلى مدارك الدروس: ج4، ص494.

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo