< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/19

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المكاسب المحرَّمة(13)

 

وأمَّا الاستدلال بعمومات البكاء والرِّثاء، فقد أجاب عنه الشَّيخ الأنصاري رحمه الله بـ (أنَّ أدلَّة المستحبَّات لا تقاوم أدلَّة المحرَّمات، فإنَّ مرجع أدلَّة الاستحباب إلى استحباب إيجاد الشَّيء بسببه المباح، لا بسببه المحرَّم، أَلَا ترى أنَّه لا يجوز إدخال السُّرور في قلب المؤمن، وإجابته، بالمحرَّمات، كالزِّنا واللواط والغناء.

والسِّرُّ في ذلك: أنَّ دليل الاستحباب إنَّما يدلّ على كون الفعل لو خُلِّي وطبعه خالياً عمَّا يوجب لزوم أحد طرفيه، فلا ينافي ذلك طروّ عنوان من الخارج يوجب لزوم فِعْله أو تَرْكه ، كما إذا صار مقدَّمةً لواجب، أو صادفه عنوان محرَّم، فإجابة المؤمن وإدخال السُّرور في قلبه ليس في نفسه شيء ملزم لفعله أو تركه، فإذا تحقَّق في ضمن الزِّنا فقد طرأ عليه عنوان ملزم لتركه...).

أقول: ما ذكره الشَّيخ رحمه الله إنَّما يتمّ لو كان الحكم الاستحبابي مشروطاً بأن لا يلزم من الإتيان به مخالفة الحرام، كما في المثال المتقدِّم، وهو قضاء حاجة المؤمن، حيث إنَّ استحبابه مشروط بعدم لزوم فعل الحرام حين الامتثال، إذ لا يطاع الله سبحانه وتعالى من حيث يعصى.

كما أنَّه يتمّ لو كان الحكم الاستحبابي مترتّباً على الشَّيء بعنوانه الأوَّلي، والحرمة مترتّبة عليه بالعنوان الثانوي، كما في استحباب الصَّلاة في المسجد، فإذا انطبق عليها عنوان هَتْك المؤمن حرمت، كما لو صلَّى شخص في المسجد منفرداً، والجماعة قائمة في مورد لم يتعارف فيه أن يصلِّي الشَّخص وحده والجماعة قائمة، ففي هذه الحالة ينطبق على المصلي منفرداً عنوان إهانة إمام الجماعة، فيحرم فِعْله وتفسُد صلاته.

ولا يتمّ كلام الشَّيخ الأنصاري رحمه الله فيما لو كان المقام مقام التعارض بين الرِّوايات، بحيث يكون هناك تكاذب في مقام الجعل والثبوت، ففي هذه الحالة لا معنى لتقديم أدلَّة المحرّمات على أدلَّة المستحبّات، بل لا بدّ من الرُّجوع إلى المرجّحات.

وفي المقام بما أنَّه هناك تعارض بين أدلَّة البكاء والرّثاء، وبين أدلَّة حرمة الغناء، بالعموم والخصوص من وجه، فلا بدّ من ترجيح أدلَّة حرمة الغناء في مورد الاجتماع، لِكونها موافقةً للسّنة القطعيَّة، وتسقط أدلَّة البكاء والرِّثاء.

وتكون النتيجة: أنَّ مراثي الحسين عليه السلام غير مستثناة من حرمة الغناء.

هذا كله بناءً على أنَّ الرِّثاء داخل في الغناء، وإلَّا فبناءً على ما ذكرناه يكون خارجاً موضوعاً، والله العالم.

وأمَّا المورد الرَّابع الذي استُثني -وهو جواز الغناء في القرآن الكريم-: فقدِ استُدلّ له بالرِّوايات المتقدِّمة الدَّالة على استحباب تحسين الصَّوت في قراءة القرآن الكريم، والتحزين به والترجيع، وهي لا توجد بدون الغناء.

وهذه الرِّوايات ذكرناها سابقاً عند الاستدلال لمذهب الكاشاني رحمه الله، بأنَّ الغناء المحرَّم عنده هو ما اشتمل على محرَّم من خارج، وقلنا هناك: إنَّ الرِّوايات ضعيفة السَّند.

ونقول هنا أيضاً: إنَّ تحسين الصَّوت والتحزين به، ونحو ذلك، لا يكون غناءً، لأنَّ الغناء هو الصَّوت المطرب المشتمل على المدّ والترجيع المتَّخذ للهو.

وعليه، فهذه الأمور خارجة عن الغناء موضوعاً.

ويؤيِّد ما ذكرناه: رواية عبد الله بن سنان المتقدِّمة عن أبي عبد الله عليه السلام (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): اقرؤوا القرآن بألحان العرب وأصواتها، وإيَّاكم ولحون أهل الفسوق وأهل الكبائر، فإنَّه سيجيء من بعدي أقوام يرجِّعون القرآن ترجيع الغناء والنَّوح والرَّهبانيَّة، لا يجوز تراقيهم، قلوبهم مقلوبة وقلوب مَنْ يعجبه شأنهم)(1)، حيث إنَّها صريحة في أنَّ المنهيّ عنه هو القراءة بألحان أهل الفسوق والكبائر الذي يرجِّعون القرآن الكريم ترجيع الغناء.

وإنَّما جعلناها مؤيِّدةً لأنَّها ضعيفة بإبراهيم الأحمر، وعدم وثاقة عبد الله بن حمَّاد.

إن قلت: هذه الرِّواية تؤيِّد مذهب الكاشاني رحمه الله، وقد ذكرناها سابقاً دليلاً لمذهبه، حيث إنَّ الغناء المحرَّم عنده هو ما اشتمل على محرَّم خارجي، وأمَّا إذا لم يشتمل فلا بأس به، وحيث ورد في الرِّواية: (اِقرؤوا القرآن بألحان العرب)، واللحن هو الغناء، فيكون الغناء في حدِّ نفسه لا بأس به.

وفيه -مع قطع النَظر عن ضعف السَّند-: أنَّ اللحن في أوَّل الرِّواية -أي اِقرؤوا القرآن بألحان العرب- ليس هو الغناء، فإنَّه وإن كان لفظ اللحن ممَّا ورد بمعنى الغناء، ولكنَّه أيضاً ورد في اللغة لمعانٍ أخر، منها اللغة، وترجيع الصَّوت، وتحسين القرآن والشِّعر.

والأنسب هنا: هو الحمل على اللغة بمعنى اِقرؤوا القرآن بلغات العرب، وقد حمَله على ذلك صاحب مجمع البحرين رحمه الله، فقال: (اللحن واحد الألحان واللحون: اللغات، ومن الخبر اقرؤوا القرآن بلحون العرب).

ويصبح معنى الرِّواية هكذا: اِقرؤوا القرآن بلغات العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسوق والكبائر.

والمراد بلحون أهل الفسق: هو الغناء، أي وإياكم والغناء في قراءة القرآن، كما يفسّره قوله: (فإنَّه سيجيء من بعدي أقوام يرجِّعون القرآن ترجيع الغناء...).

والذي يهوِّن الخطب: أنَّ الرِّواية ضعيفة، كما تقدَّم.

وقد يستدلّ أيضاً لاستثناء الغناء في قراءة القرآن الكريم: بأنَّ الرِّوايات النَّاهية عن الغناء متعارِضة مع الرِّوايات الدَّالة على فَضْل قراءة القرآن الكريم، والنسبة بينهما هي العموم والخصوص من وجه، فتتساقطان في مورد الاجتماع، ويرجع إلى أصالة الإباحة.

وأجاب الشَّيخ الأنصاري رحمه الله عن ذلك بأنَّ أدلَّة المستحبَّات لا تقاوم أدلَّة المحرَّمات.

وفيه: ما تقدم في المورد الثالث من استثناء رثاء الحسين عليه السلام من الرُّجوع إلى المرجّحات، وتقدَّمت الرِّوايات النَّاهية عن الغناء، لموافقتها للسّنة القطعيَّة، ولكونها مخالفةً للعامَّة، والله العالم بحقائق أحكامه.

________

(1) الوسائل باب24 من أبواب قراءة القرآن ح1.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo