< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/10/15

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: المكاسب المحرَّمة(11)

كان الكلام في مثل رواية أبي بصير (قال: قلتُ لأبي جعفر (عليه السلام): إذا قرأتُ القرآن فرفعتُ به صوتي جاءني الشَّيطان، فقال: إنَّما ترائي بهذا أهلك والنَّاس، فقال: يا أبا محمَّد! إقرأ قراءة ما بين القراءتين، تسمع أهلك، ورجّع بالقرآن صوتك، فإنَّ الله عزَّوجل يحبّ الصّوت الحسن يُرجّع فيه ترجيعاً)...

-------

وفيه: مضافاً لضعفها سنداً، أنَّها لا ربط لها بالغناء، لأنَّ الصوت الحسن غير الغناء؛ نعم، قد يجتمعان.

ومنها: صحيحة أبي بصير (قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): أجر المغنية التي تزفّ العرائس ليس به بأس، وليست بالتي يدخل عليها الرِّجال)(1).

وفيه: أنَّه لا دلالة لهذه الصَّحيحة على ما ذهب إليه الكاشاني (رحمه الله)، لأنَّه سوف نذكر -إن شاء الله تعالى- في الأمر الثالث أنَّ من جملة المستثنيات من حرمة الغناء هو غناء المرأة في زفّ العرائس بشرط عدم دخول الرِّجال عليهنّ، وعدم تكلمهنّ بالباطل وعدم الضرب بآلات الهو، وأين هذا من حليَّة الغناء في نفسه؟!

والخلاصة: أنَّ هناك تسالماً بين الأعلام على حرمة الغناء في نفسه وإن لم يصاحبه شيء من المحرمات الخارجيَّة، ولا يعتدّ بخلاف من خالف، والله العالم.

الأمر الثاني: اختلف الأعلام في مفهوم الغناء، قال في الحدائق: (قيل: هو مدّ الصَّوت المشتمل على الترجيح المطرب، فلا يحرم بدون الوصفين -أعني الترجيع والطرب- كذا عرَّفه جماعة من الأصحاب؛ والطَّرب خِفَّة تعتريه تسرُّه أو تُحزِنه، وردّه بعضهم إلى العرف، فما سُمّي فيه غناءً يحرم وإن لم يُطرِب، واختاره في المسالك وغيره، وهو المختار...).

وفي الجواهر: (إنَّما الكلام في موضوعه، ففي جملة من كتب الأصحاب أنَّه مدُّ الصَّوت المشتمل على الترجيع المُطْرِب، بل ربما قيل: إنَّه المشهور؛ وفي القاموس: غِنَاء: ككِسَاء، من الصَّوت ما طُرِب به؛ وفي شهادات القواعد وبعض كتب اللغة ترجيع الصَّوت ومدِّه، وعن الشَّافعي أنَّه تحسين الصَّوت وترقيقه، وفي محكي النِّهاية أنَّ كلّ مَنْ رفع صوتاً ووالاه فصوته عند العرب غناء؛ وعن السَّرائر والإيضاح أنَّه الصَّوت المُطْرِب، وعن بعض أنَّه مدّ الصَّوت، وعن المصباح المنير أنَّه الصَّوت؛ إلى غير ذلك من كلمات أهل اللغة التي يقطع الماهر بملاحظتها بكون المراد منها بيان أنَّ الغناء من هذا الجنس، نحو قولهم: سُعْدانة نبت، ضرروة عدم خلوّ غالب الأصوات -في قراءة القرآن والأدعية والخُطَب والشِّعر في جميع الأعصار والأمصار من العلماء وغيرهم- من تحسينٍ ومدٍ وترجيعٍ في الجملة، كما لا يخفى على مَنْ له أدنى معرفة وإنصاف؛ فيُعلم كون المراد كيفيَّة خاصّة منها موكولة إلى العرف -إلى أن قال:- نعم، قد يحتمل إرادته اختصاص الغناء بالصَّوت المشتمل على التحسين بالمدِّ والترجيع المتَّخذ للهو وانشراح النَّفس والطَرَب، كما عساه يُومِئ إليه لهو الحديث، وأَخْذ الطَّرَب في تعريفه -إلى أن قال:- وقد يؤيَّد بما ذُكِر في استثناء النَّوح منه، من أنَّه ليس داخلاً في موضوعه، باعتبار مقابلة النَّوح له عرفاً، وما ذاك إلَّا عدم اتِّخاذ اللهو به، لكنَّه أيضاً لا يخلو من إشكال...).

وقال الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله): (وكيف كان، فالمحصَّل من الأدلَّة المتقدِّمة حرمة الصَّوت المرجَّع فيه على سبيل اللهو، فإنَّ اللهو كما يكون بآلة من غير صوت، كضَرْب الأوتار ونحوه، وبالصوت في الآلة كالمزمار والقَصَب ونحوهما، فقد يكون بالصَّوت المجرّد، فكلّ صوت يكون لهواً بكيفيَّته ومعدوداً من ألحان أهل الفسوق والمعاصي، فهو حرام -إلى أن قال:- ثمَّ إنَّ اللهو يتحقّق بأمرين: أحدهما قَصْد التلهّي وإن لم يكن لهواً، والثاني كونه لهواً في نفسه عند المستمعين وإن لم يقصد به التلهّي؛ ثمَّ إنَّ المرجع في اللهو إلى العرف، والحاكم بتحقّقه هو الوجدان، حيث يجد الصَّوت المذكور مناسباً لبعض آلات اللهو والرّقص، ولحضور ما يستلذّه القوى الشَّهوية من كون المغني جاريةً، أو أَمْرداً، ونحو ذلك...).

أقول: الرُّجوع إلى أهل اللغة في المقام لا يفيد، لاختلافهم أَوْلاً.

وثانياً: لِمَا ذكرناه في مبحث علم الأصول، من أنَّ أهل اللغة غالباً لا يذكرون المعنى الحقيقي للفظ، وإنَّما يذكرون أنَّ اللفظ الفلاني استُعْمل في هذا المعنى، وفي ذاك المعنى ، وفي ثالث، ورابع.

ومن المعلوم أنَّ الاستعمال أعمّ من الحقيقة، بل غالباً يذكرون المعاني المجازيَّة.

نعم، بعض الكتب قد يكون فيها تمييز المعنى الحقيقي عن المجازي، كأساس البلاغة للزمخشري.

وقد يظهر من بعض كتب أهل اللغة أنَّه بصدد بيان المعنى الحقيقي، كما لو نصَّ على عدم تعرُّضه لغير المعنى الحقيقي، أو نصَّ على أنَّ المذكور أَوْلاً من المعاني هو المعنى الحقيقي، كما نسب ذلك إلى القاموس، ولم نتحقّقه.

والخلاصة: أنَّ الرُّجوع إلى أهل اللغة في هذا المورد لا يفيد.

كما أنَّه لم يظهر المقصود منه شرعاً، إذ لا يوجد في الرِّوايات ما يبين المعنى الحقيقي للغناء، بحيث تميّزه عن غيره عن المفاهيم، وإن كان فيها ما يشير إلى بعض القرائن.

والقاعدة هنا: تقتضي الرُّجوع إلى العرف، فهو الحاكم في أمثال هذه الموارد بعد تعذُّر معرفة المعنى شرعاً ولغةً.

والرجوع إلى العرف أيضاً، وإن كان فيه ما فيه -لاختلاف الأنظار في تشخيص الغناء، فالعرف مختلف- إلَّا أنَّ هناك قدراً متيقناً يتّفق الكلّ فيه على أنَّه غناء، كما في الأغاني الموجودة عند أهل الفسوق والفجور، في الرَّاديو والتلفزيون، ونحوهما، التي تكون الكيفيَّة كيفيةً لهويَّةً، توجب الطَّرَب والرَّقص والضَّرْب على آلة اللهو، ونحو ذلك. وبالجملة، فلا يبعد أن يكون الميزان عند أهل العرف في مفهوم الغناء هو ما ذكره الشَّيخ الأنصاري (رحمه الله)، وكثير من الأعلام، من أنَّه عبارة عن الصَّوت المرجَّع فيه على سبيل اللهو، وليس مجرد الترجيع وتحسين الصَّوت غناء.

ومن هنا لا يطلقون الغناء على قراءة القرآن، ومراثي الحسين (عليه السلام) ، وقراءة الأدعية الخالية كلّها عن اللهو، بل فيها غرض عقلاني من التذكير بالآخرة، والتشويق إلى الجنَّة، والابتعاد عن النَّار.

ومن هنا لا ترى الصَّوت في قراءة القرآن، ورفع الأذان، وقراءة التعزية على مصيبة سيد الشُّهداء (عليه السلام) مناسباً لِبعض آلات اللهو والرَّقص والتصفيق، ونحو ذلك؛ وما ذلك إلَّا لأنَّها كيفيَّة غير لهويَّة، فهي خارجة عن الغناء موضوعاً.

نعم، لا يبعد أن يكون بعض ما يُذْكر في بعض المجالس، كمناسبات ولادة الأئمَّة (عليهم السلام)، من الكيفيَّة اللهويَّة الموجبة للتصفيق ونحوه، فينبغي الاحتراز عن ذلك.

وأمَّا ما في بعض الرِّوايات من جواز التغنِّي بالقرآن الكريم، مثل ما نقله الطَّبرسي (رحمه الله) في مجمع البيان عن عبد الرحمان بن السَّائب (قال: قدم علينا سعد بن أبي وقَّاص، فأتيته مسلِّماً عليه، فقال: مرحباً يا بن أخي! بلغني أنَّك حسن الصَّوت بالقرآن، قلتً: نعم، والحمد لله، قال: فإنِّي سمعتُ رسول الله (صلى الله عليه وآله) يقول: إنَّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا وغنُّوا به، فإنَّ مَنْ لم يتغنَّ بالقرآن فليس منَّا)، قال في مجمع البيان: (تأوَّله بعضهم بمعنى استغنوا، وأكثر العلماء على أنَّه تزيين الصَّوت وتحزيينه)(2).

وفيه: أنَّ هذه الرِّواية عاميَّة ساقطة عن الاعتبار.

وسيأتي -إن شاء الله تعالى- في الأمر الثالث في المستثنيات ما له نفع في المقام من أنَّ القرآن الكريم يقرأ بالصَّوت الحسن، وأنَّ هذا ليس غناءً.

والخلاصة إلى هنا: أنَّ الغناء هو الصَّوت المشتمل على المدِّ والترجيع المتّخذ للهو.

ويؤكّده: استثناء النَّوح منه، فهو غير داخل في حقيقة الغناء، بل هو يقابله عرفاً، وما ذاك إلَّا لعدم اتخاذ اللهو في حقيقة النَّوح، والله العالم.

_________

(1) الوسائل باب15 من أبواب ما يكتسب به ح3.

(2) مجمع البيان: ج1، ص16، من مقدمة مجمع البيان.

 

BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo