< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/05/17

بسم الله الرحمن الرحيم

الموضوع: صلاة الجمعة وآدابها(6)

وأمَّا القول الثاني -وهو الوجوب التعييني-: فقدِ استدلّ له بالكتاب المجيد والسّنَّة النبويَّة الشَّريفة التي ادَّعَوا تواترها، وأنَّها تبلغ مائتي حديث.

أمَّا الكتاب المجيد فقوله تعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَۚ ذَٰلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ}.

قال صاحب المدارك (رحمه الله): (أجمع المفسِّرون على أنَّ المراد بالذِّكْر هنا الخطبة وصلاة الجمعة، تسميةً للشَّيء باسم أشرف أجزائه...).

والمراد بالنداء: الأذان، أو دخول وقته، كما ذكره المفسِّرون، والأمر بالسَّعي مقتضٍ للوجوب، فتدلَّ الآية الشَّريفة على وجوب صلاة الجمعة لكلّ واحدٍ من المؤمنين متى تحقَّق الأذان لها أو دخل الوقت، وحيث إنَّ الأصل عدم التقييد بشرط حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ فيلزم حينئذٍ عموم الوجوب بالنسبة إلى زمان الغيبة والحضور.

وأجيب عن هذا الاستدلال: بعدَّة أمور:

الأوَّل: أنَّ خطابات الكتاب المجيد لا تشمل المعدومين حين توجُّه الخطاب، إلَّا بقاعدة المشاركة، وهي لا تجري في مثل المقام.

وفيه: أنَّ هذا الإشكال غير وارد، وقد أجبنا عنه التفصيل في علم الأصول، في بحث العام والخاصّ، وبيَّنا أنّها تشمل الحاضرين حين الخطاب والغائبين والمعدومين، فراجع ما ذكرناه.

الثاني: لم يثبت إرادة الصَّلاة من الذِّكر، وقدِ اختلف المفسِّرون فيه، فذهب بعضهم إلى أنَّ المراد به الخطبة.

وبناءً عليه، فلا يجب السَّعي، لعدم وجوب حضور الخطبة على الجميع بالاتفاق.

ولا يتمّ الاستدلال أيضاً بناءً على إرادة الرَّسول (صلى الله عليه وآله) من الذِّكر فيها، كما هو مذكور في أخبار كثيرة عن أهل البيت (عليهم السَّلام):

منها: صحيحة أبي بصير المرادي عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (في قول الله عزَّوجل: {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ ۖ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ}، فرسول الله (صلى الله عليه وآله) الذِّكر، وأهل بيته المسؤولون، وهم أهل الذِّكر)([1] ).

وفي كشف اللثام: أنَّه أظهر من احتمال إرادة الخطبة أو الصَّلاة، بل فيه أنَّك لا تصغ إلى ما يدَّعى من إجماع المفسِّرين على إرادة أحدهما، خصوصاً إذا كنت إماميّاً تعلم أنَّه لا إجماع إلَّا قول المعصوم)، وهو في محلِّه، إذ لا عبرة بإجماع المفسِّرين، لا سيَّما وأنَّ أغلبهم من العامَّة.

الثالث -مع قطع النَّظر عن تلك الإشكالات-: فالآية الشَّريفة تدلّ على وجوب السَّعي إليها على تقدير انعقادها، لا على وجوب أصل الانعقاد، وذلك لأنَّه علّق وجوب السَّعي إليها على النِّداء.

ومعنى ذلك أنَّه متى تحقَّقت إقامة الجمع، ونودي إليها، وجب السَّعي إليها، والمفهوم من القضيَّة الشَّرطية عدم وجوب الصَّلاة إذا لم ينادَ إليها، ولم تتحقَّق إقامتها.

الرَّابع: أنَّه ليس المراد من الصَّلاة يوم الجمعة مطلق الصَّلاة، إذِ الصَّلاة يوم الجمعة تعمّ الثنائيَّة والرباعيَّة، بل الظُّهر وغيرها، كما أنَّ السَّعي يعمّ الاجتماع وغيره، كالانفراد.

وعليه، فاللام في الصَّلاة للعهد أُريد بها الصَّلاة الخاصَّة المعهودة، وهي التي كان النَّبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، أو المنصوبون من قبله يقيمونها، وينادي مناديهم للاجتماع إليها.

والخلاصة: أنَّه لا إطلاق في الآية الشَّريفة لنفي شرطيَّة حضوره (عليه السَّلام)، أو نائبه الخاصّ، في وجوب إقامتها تعييناً.

بل في كشف اللثام ما حاصله: أنَّ الآية تجدي لو عمل بها أحد من الإماميَّة على إطلاقها، وليس كذلك، ضرورةً من المذهب، فلا قائل منا: بأنَّ منادي (يزيد) وأضرابه إذا نادى إلى صلاة الجمعة وجب علينا السَّعي وإن لم نتقه، ولا منادي أحد من فسَّاق المؤمنين، فليس معنى الآية إلَّا أنَّه إذا نادى لها منادٍ بحقّ فاسعوا إليها، وكون المنادي بدون إذن الإمام له بخصوصه منادياً بحقّ ممنوع، فلا يعلم الوجوب فضلاً عن العيني...

وممَّا ذكرنا اتَّضح لك: عدم صحَّة الاستدلال بالآية الشَّريفة على الوجوب التعييني.

وقد ذهب بعيداً صاحب الحدائق (رحمه الله) حيث أغلظ القول على الأصحاب بما لا ينبغي، حيث قال: (وهل المناقش بهذه المناقشات الواهية إلَّا متعرِّض للردّ على الله ورسوله (صلى الله عليه وآله)، إذ من المعلوم -ضرورةً من الدّين- وجوب هذه الفريضة المعظّمة ولو في الجملة...).

ولئن ذكر ذلك صاحب الحدائق (رحمه الله) فقد سبقه صاحب بحار الأنوار العلَّامة المجلسي (رحمه الله)، حيث قال - بعد أن استدل بالآية الشَّريفة للوجوب التعييني-: (واعترض عليه بوجوه سخيفة أخرى، الإعراض عنها أحرى، وبعضها يتضمَّن الاعتراض على الله تعالى...)، هذا تمام الكلام في الآية الشَّريفة.

وأمَّا السّنة النبويَّة الشَّريفة فقد استدلُّوا بجملة من الأخبار، ادَّعوا أنَّها تدّل على الوجوب التعييني، وقالوا: إنَّها فوق حدّ التواتر، وتبلغ تقريبا مائتي رواية.

قال المحدِّث محمَّد تقي، المشهور بالمجلسي الأوَّل والد صاحب البحار (رحمه الله)، في رسالة ألَّفها في تحقيق هذه المسألة، قال: (فذلكة: فصار مجموع الأخبار مائتي حديث، فالذي يدلّ على الوجوب بصريحه من الصِّحاح والحسان والموثَّقات وغيرها أربعون حديثاً، والذي يدلّ بظاهره على الوجوب خمسون حديثاً، والذي يدلّ على المشروعيَّة في الجملة أعمّ من أن يكون عينيّاً أو تخييريّاً تسعون حديثاً، والذي يدلّ بعمومه على وجوب الجمعة وفضلها عشرون حديثاً، ثمَّ الذي يدلّ بصريحه على وجوب الجمعة إلى يوم القيامة حديثان، والذي يدلّ على عدم اشتراط الإذن بظاهره ستَّة عشر حديثاً، بل أكثرها كذلك ، كما مرت الإشارة إليه في تضاعيف الفصول، وأكثرها يدلّ على الوجوب العيني، كما أشير إليه، فظهر من هذه الأخبار المتواترة الواضحة الدَّلالة التي لا يشوبها شكّ، و لا يحوم حولها شبهة من طرف سيِّد الأنبياء و المرسلين و الأئمة الطاهرين (صلوات الله عليهم أجمعين)، أنَّ صلاة الجمعة واجبة على كلِّ مسلم عدا ما استثنى؛ وليس في هذه الأخبار مع كثرتها تعرّض لشرط الإمام، ولا من نصّبه، ولا لاعتبار حضوره في إيجاب هذه الفريضة العظيمة).

أقول: أمَّا الأخبار التي استدّل بها للوجوب التعييني:

فمنها: صحيحة زرارة عن أبي جعفر الباقر (عليه السَّلام) (قال: إنَّما فرض الله عزَّوجل على النَّاس من الجمعة إلى الجمعة خمساً وثلاثين صلاةً، منها صلاة واحدة فرضها الله عزَّوجل في جماعة، وهي الجمعة، ووضعها عن تسعة، عن الصَّغير والكبير والمجنون والمسافر والعبد والمرأة والمريض والأعم، ومَنْ كان على رأس فرسخين)([2] ).

وجه الاستدلال في هذه الصَّحيحة: أنَّها مطلقة من حيث اشتراط حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ في الوجوب التعيين، لا سيَّما أنَّ غير الجمعة من هذه الفرائض المشار إليها ممَّا لا خلاف في وجوبها تعييناً، من غير شرط زائد على ما قُرِّر في الصَّلوات اليوميَّة؛ ونظمُ الجمعة فيها، وعدّها معها، ظاهر في أنَّها مثلها في الوجوب التعييني.

وقد يشكل في المقام بأنَّ الصَّحيحة لا إطلاق لها من هذه الجهة، وليست ناظرةً إلى إلغاء شرطيَّة حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ في الوجوب التعييني، بل غاية ما تدل عليه هو وجوب الجمعة في الجملة.

وهذا ممَّا لا إشكال فيه، بل وجوبها في الجملة من ضروريَّات الدِّين.

وبالجملة، فلا يمكننا التمسُّك بإطلاقها لدفع ما يشكّ في اعتباره فيه من القيود، فإذا شككنا في أنَّ حضور الإمام (عليه السَّلام) أو نائبه الخاصّ شرط في وجوب صلاة الجمعة، فلا يمكننا التمسّك بإطلاق هذه الصَّحيحة لدفع هذا الشَّرط، وذلك لعدم الإطلاق، لأنَّها ليست في مقام البيان من هذه الجهة.

بل هي ناظرة إلى بيان الصَّلوات الواجبة من الجمعة إلى الجمعة، وأنَّ عددها يبلغ خمساً وثلاثين صلاة.

ولكنَّ الإنصاف: أن يقال: إنَّ هذه الصَّحيحة لا تخلو من الدَّلالة على الوجوب التعييني، لأنَّه لو لم تكن دالَّةً على الوجوب التعييني لاستثنت مَنْ لم يكن في عصر الحضور، ومَنْ لم يكن عنده نائبه الخاصّ، كما استثني المملوك المسافر، وغيرهما، فإنّ استثناء هؤلاء إنَّما هو من الوجوب التعييني، لا مطلق الوجوب، إذ الوجوب التخييري ثابت في حقِّهم.

______________


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo