< قائمة الدروس

الأستاذ الشيخ حسن الرميتي

بحث الفقه

39/04/16

بسم الله الرحمن الرحيم

 

الموضوع: القواطع(22)

ويشهد له أيضاً حديث الأربعمائة المتقدِّم (إذا عطس أحدكم قولوا: يرحمكم الله، ويقول هو: يغفر الله لكم ويرحمكم، قال الله تعالى: { وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا })([1] وقد عرفت أنَّها ضعيفة بالقاسم بن يحيى وجدِّه الحسن بن راشد، فإنَّهما غير موثَّقَيْن؛ وذكرنا سابقاً أنَّ إطلاق التحيَّة على التسميت مجاز.

وبالجملة، لو كان المراد بالتحيَّة في الآية الشَّريفة ليس خصوص السَّلام، بل كّل تحيَّة وبرّ وإحسان، لكان الأمر في الآية الشَّريفة { فَحَيُّوا} محمولاً على الاستحباب، إذ لا قائل بوجود تعويض كلّ برّ وإحسان، فلا تكون الآية الشَّريفة دالَّة على وجوب الردّ.

ولكنَّ الإنصاف: إبقاء الأمر على ظاهره من الوجوب، وحمل التحيَّة على معناها المعروف، وهو خصوص السَّلام، كما ذكره الأعلام، وجماعة من المفسِّرين واللغويين، وهو الذي تطمئنُّ إليه النّفس.

الدَّليل الثاني على وجوب الردّ: هي الأخبار الكثيرة:

منها: معتبرة السَّكوني عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): السَّلام تطوُّع، والردّ فريضة)([2] ).

ومنها: صحيحة عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السَّلام) (قال: ردّ جواب الكتاب واجب كوجوب ردّ السَّلام، والبادئ بالسَّلام أَولى بالله وبرسوله)([3] ولهذه الصَّحيحة حُكي عن بعض المحدّثين القول أو المَيْل إلى وجوب ردّ الكتابة، واختاره بعض الأعلام.

ولكنَّ الإنصاف: أنَّه لو كان ردّ جواب الكتابة واجباً في الشَّريفة لصار بواسطة عموم الابتلاء به من الضَّروريَّات، فكيف يخفى ذلك في الشَّريعة، على وجه استقرَّت السَّيرة على عدم الالتزام به، وتَرْكه من غير نكير.

وعليه، فالمراد بالوجوب بحسب الظَّاهر تأكُّد طلبه، على وجه لا ينبغي مخالفته، لا الوجوب بمعناه المصطلح.

وأمَّا وجوب ردّ السَّلام فيبقى على ظاهره، ولا مانع من التفكيك في الرِّواية بحَمْل الوجوب في جواب ردّ الكتاب على الندب، وإبقائه على ظاهره في جواب ردّ السَّلام، لِما عرفت أنَّ الالتزام مستفاد من العقل، لا من الوضع، فلا يكون اللفظ مستعملاً في أكثر من معنًى.

وقدِ اتَّضح ممَّا تقدّم أنَّ التحيَّة إذا كانت بغير السَّلام، كما إذا قال: صبَّحك الله بالخير أو مسَّاك الله بالخير، فلا يجب الردّ بالاتِّفاق، إذ لم يلتزم أحد من الفقهاء بوجوب ردّ مثل ذلك من التحيّات العرفيَّة؛ هذا تمام الكلام إذا كان الردّ في غير حالة الصَّلاة.

وأمَّا إذا كان في أثناء الصَّلاة فالمعروف بين الأعلام أنَّه يجوز أن يرد.

وفي الجواهر: (بلا خلاف أجده في عدم مانعيَّة الصَّلاة، نافلةً كانت أو فريضةً، من ردّ السَّلام، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، والنصوص مستفيضة فيه إن لم تكن متواترةً...).

أقول: مراد الأعلام من الجواز هو الوجوب، وإنَّما عبَّروا بالجواز مقابل من منع ذلك من العامَّة، وإلَّا فالأعلام متَّفقون على الجواز بالمعنى الأخصّ.

وعليه، فمرادهم من الجواز هو بالمعنى الأعمّ.

نعم، كثير من الأعلام لم يعبّر بالوجوب، قال في التنقيح: (الأكثر على أنَّه -أي الردّ- جائز، وليس في عبارتهم ما يشعر بالوجوب...)، وفي كشف اللثام: (ولم يتعرّض غير المصنِّف للوجوب...)، وفي مجمع البرهان: (كأنَّه على تقدير الجواز يجب، كما يفهم من عباراتهم وأدلّتهم، كالآية الشَّريفة، ونحوها...)، وعن كشف الالتباس: (يجب عليه الردّ لفظاً عند علمائنا وإن كان المسلِّم صبيّاً، أو أجنبيّةً يحلّ نكاحها...).

وبالجملة، يدلّ على وجوب الردّ الأخبار المستفيضة، بل لا يبعد تواترها، وسنذكر معظمها في الأمر الثالث -إن شاء الله تعالى- عند البحث في كيفيَّة الردّ.

نعم، في بعض الرِّوايات يظهر منها عدم جواز الردّ، كما في رواية مسعدة بن صدقة المرويَّة في الخِصال، قال الشَّيخ الصَّدوق (رحمه الله): (حدثنا محمَّد بن عليّ ماجيلوَيْه رضي الله عنه، عن عمِّه محمَّد بن أبي القاسم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن جعفر بن محمَّد، عن أبيه (عليه السَّلام) قال: لا تسلِّموا على اليهود، ولا على النَّصارى، ولا على المجوس، ولا على عبدة الأوثن ، ولا على موائد شرب الخمر، ولا على صاحب الشّطرنج والنرد، ولا على المخنَّث، ولا على الشَّاعر الذي يقذف المحصنات، ولا على المصلِّي، وذلك لأنَّ المصلِّي لا يستطيع أن يردّ السَّلام، لأنَّ التسليم من المسلِّم تطوّع، والردّ عليه فريضة، ولا على آكل الرِّبا، ولا على رجل جالس على غائط، ولا على الذي في الحمام، ولا على الفاسق المعلِن بفسقه)([4] )[5] ، وهي ضعيفة لعدم وثاقة مسعدة بن صدقة.

وما في الوسائل من أنَّه (مصدَّق بن صدقة)، فهو في غير محلِّه، والظَّاهر أنَّه تصحيف من النّساخ، فراجع الخِصال.

ولكنَّ لو كان الموجود هو (مصدَّق بن صدقة) لكانت الرواية موثَّقة، إذ لا يوجد ما يُغمز في السَّند، إلَّا محمَّد بن عليّ ماجيلوَيْه شيخ الصَّدوق (رحمه الله)، حيث إنَّه لم يوثَّق بالخصوص، ولكن ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّه من المعاريف الكاشف ذلك عن حسنه ووثاقته.

وما فيها من النهي عن السَّلام على اليهودي والنصارى فسيأتي الكلام عنه -إن شاء الله تعالى- في الأمر العاشر.

والشاهد هنا هو قوله : (ولا على المصلِّي، وذلك لأنَّ المصلّي لا يستطيع أن يرد السَّلام)، وهي ظاهرة في عدم جواز الردّ.

ولكن -مضافاً لضعفها سنداً- يمكن أن يكون التعليل بعدم استطاعه على ردِّ الجواب من باب عدم سهولته عليه، لِما فيه من تشويش البال.

ويحتمل قويّاً إرادة عدمِ الاستطاعة في تلك الأعصار، لمخالفته للتقيّة، حيث حُكي القول بالمنع عن ردّ الجواب في الصَّلاة عن العامَّة.

ومهما يكن، فلا تقاوم هذه الرِّواية الرِّوايات المستفيضة، أو المتواترة الدَّالة على الوجوب، فضلاً عن الجواز بالمعنى الأخصّ، والله العالم.

______________

(1) تفسير علي بن إبراهيم: ج1، ص145.

 


BaharSound

www.baharsound.ir, www.wikifeqh.ir, lib.eshia.ir

logo