الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/03/05
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (14)
ولكنَّ الإنصاف : أنَّ إطلاق الآية الشَّريفة المفسِّرة بما عرفت ، وكذا إطلاق موثَّق سماعة مقيَّد بموثَّقة عمَّار الظَّاهرة جدّاً في تقديم جانب الأيمن ، وما فيها من التشويش من حيث التعبير غير قادح بعد وضوح المراد فيما هو محلِّ الاستشهاد .
وقد يقال : إنَّ مرسلة الصَّدوق المتقدِّمة أيضاً تقيِّد الإطلاقات المتقدِّمة لصراحتها في تقديم جانب الأيمن .
ولكنَّك عرفت أنَّ ضعف السَّند مانع من العمل بها .
وذكر جماعة من الأعلام منهم السَّيد محسن الحكيم : (انَّ إرسال الفقيه بمثل : قال رسول الله (صلى الله عليه وآله) ، يدلّ على غاية الاعتبار عنده ، وكفى به سبباً للوثوق)[1] ، وذكر المحقِّق الهمداني (رحمه الله) في مصباحه : (أنَّ هذه المرسلة قد يعامل معها معاملة الأخبار الصَّحيحة لضمان الصدوق صحَّة ما في كتابه ، ولولاه لأشكل دعوى انجبار ضعفها بشهرة العمل بها بين المتأخرين ... )[2] .
أقول : ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّه لا فرق في عدم العمل بمراسيل الصَّدوق بين أن يرويها بعنوان (قال) ، أو بعنوان (روي) ، المبني للمجهول ، وذكرنا العلَّة في ذلك في مسائل علم الرِّجال .
وخلاصته : أنَّ اعتقاد الصَّدوق (رحمه الله) بصدور الرِّواية إذا كانت بعنوان (قال) لا يدلّ على ثبوتها عندنا ، إذ لعلّ القرائن التي أوجبت قطعه بصدورها لو وصلت إلينا لما حصل لنا الظنّ منها فضلاً عن القطع .
وأمَّا دعوى انجبارها بعمل المشهور ففيه أوَّلاً : أنَّ عمل مشهور المتقدِّمين غير جابر لضعف السَّند .
وثانياً : لم يحرز عملهم بها ، إذ من جملة فقراتها أنَّه يضطجع على الجانب الأيسر إذا تعذَّر الأيمن ، ومشهور المتقدِّمين لم يتعرَّض لذلك ؛ وأمَّا عمل مشهور المتأخِّرين فلا ينفع ، كما أشار إليه المحقِّق الهمداني (رحمه الله) .
والخلاصة : أنَّه يتعيَّن تقديم جانب الأيمن لموثَّقة عمَّار المؤيَّدة بالشُّهرة ، والإجماعات المحكية .
بقي الكلام في أنَّه إذا تعذَّر الجانب الأيمن فهل ينتقل إلى الأيسر ، أو هو مخيَّر بينه وبين الاستلقاء ، أو أنَّه ينتقل مباشرة بعد تعذُّر الجانب الأيمن إلى الاستلقاء ، ذهب جماعة من الأعلام بل نسب إلى المشهور هو أنَّه بعد تعذُّر الجانب الأيمن ينتقل إلى الأيسر ، واستدلّوا لذلك بمرسلة الفقيه المتقدِّمة .
وفيه : ما عرفت ، فلا حاجة للإعادة .
وقدِ استدل صاحب الحدائق (رحمه الله) بموثَّقة عمَّار المتقدِّمة قال : (والتقريب فيها أنَّ ظاهر قوله (عليه السَّلام) : فإن لم يقدر على جانبه الأيمن فكيف ما قدر ، وإن كان يقتضي استواء الاستلقاء والاضطجاع على الأيسر عند تعذُّر الأيمن ، إلَّا أنَّ قوله : ويستقبل بوجهه القبلة ، يدلَّ على الانتقال إلى الأيسر ، لأنَّه به يحصل الاستقبال بالوجه حقيقةً دون الاستلقاء ، وأمَّا ما في بقيَّة رواية عمَّار من التهافت ، كما في كثير من روايته فلا يضرّ بعد ظهور المطلوب منها ... )[3] .
ويرد عليه : أنَّ استقبال الوجه قد يتحقَّق من المستلقي فيما بين المشرق والمغرب بتحويل وجهه إلى القبلة ، كما أنَّه يتحقَّق من المستلقي إلى القبلة أيضاً بوضع شيءٍ تحت رأسه ، فليس اعتبار الاستقبال سبباً لرفع اليد عن ظاهر قوله : كيف ما قدر في الإطلاق .
والإنصاف : أن يقال : إنَّ الإطلاق في موثَّقة عمَّار غير ثابت ، إذ ليس المراد من قوله : (كيف ما قدر) أنَّه يصلِّي كيف يشاء ، ليكون مخيَّراً بين الجانب الأيسر والاستلقاء ، بل المراد أنَّه لا يكلَّف بغير المقدور ، وإنَّما يكلَّف على حسب قدرته ، فإنْ قدر على الأيمن فيكلَّف به ، وإن لم يقدر عليه وقدر على الأيسر فيكلَّف به ، وهكذا ، نظير قوله : إذ دخل الوقت فصلِّ كيف ما قدرت ، أي إن قدرت قائماً فصلِّ قائماً ، وإلَّا فجالساً ، وهكذا .
ويؤيِّد ما ذكرناه : شيوع استعمال هذه العبارة - أي كيف ما قدر - في وجوب الإتيان بالشيء بمقدار وسعة وعدم سقوطه عنه .
والخلاصة : أنَّ موثَّقة عمَّار لو لم تدلّ على أنّه ينتقل إلى الأيسر بعد تعذُّر الأيمن ، فلا يستفاد منها الإطلاق أيضاً ، بحيث يكون مخيَّراً .
نعم ، يستفاد التعيَّن إلى الأيسر إذا تعذَّر الجانب الأيمن من إطلاق موثَّقة سماعة المتقدِّمة ، إذ إطلاق الأمر بالاضطجاع فيها مقيَّد بالجانب الأيمن بمقتضى موثَّقة عمَّار ، وبما أنَّ التقييد مخصوص بصورة التمكُّن فيكون في مورد العجز عنه مأمور بالاضطجاع على الجانب الأيسر ، إذ هو المقدور عليه ، ومع القدرة عليه لا ينتقل إلى الاستلقاء .
وممَّا ذكرناه تعرف أنَّه لا دليل للانتقال إلى الاسلتقاء بعد تعذر الجانب الأيمن ، بل ينتقل إلى الجانب الأيسر بعد تعذُّر الأيسر ، فينتقل إلى الاستلقاء لا للرِّوايات الدالَّة ، على أنَّ العاجز عن الصَّلاة جالساً يصلِّي مستلقياً بعد تقييدها بصورة العجز عن الاضطجاع ، ولا لمرسلة الصَّدوق (رحمه الله) ، وذلك لضعف هذه الرِّوايات سنداً ، وإنما ينتقل إليه للتسالم بين الأعلام .
نعم ، ليس له بعد الاستلقاء مرتبة موظّفة ، بل كيف ما قدر صلَّى ، وإن كان الأولى له أن يتحرَّى أقرب الأحوال إلى كيفيَّة المختار ، والله العالم بحقائق أحكامه .
قوله : (ويومئون بالرّأس ، ثمَّ بتغميض العينين في الرُّكوع والسُّجود وبفتحهما في الرَّفع منهما مع التلفظ بالأذكار ، فإن عجز كفاه تصوّرها ، ويتصوّر الأفعال عند الإيماء)[4]
المعروف بين الأعلام أنَّه يجب الإيماء بالرَّأس إن أمكن في حالتي الصَّلاة مضطجعاً على جنبه أو مستلقياً ، وإلا فبالعينين لكلٍّ من الرُّكوع والسُّجود فيما لو كان معذوراً فيهما ، كما لو كان عارياً .
ثمَّ لا يخفى عليك أنَّ الإيماء للرُّكوع والسُّجود لا يختصّ بمَنْ صلَّى على جنبه أو مستلقياً ، بل هو فرض كلّ من عجز عنهما وإن صلَّى جالساً ، أو قائماً ولو لمانع شرعي كما في العاري ، فتخصيصهما به من حيث إطلاق هذا الحكم بالنسبة إليهما إنّما هو بملاحظة حالهما ، حيث إنَّ عجزه عن القيام والقعود المسوِّغ له الصَّلاة مضطجعاً أو مستلقياً ينافي عادة في قدرته على الرُّكوع والسُّجود .
ثمَّ إنَّ البحث يقع في عدَّة أمور :
الأوّل : وجوب الإيماء بالرأس إذا تعذَّر الرُّكوع والسُّجود .
الثاني : وجوب الإيماء بالعينين بتغميضهما إذا تعذَّر الإيماء بالرأس .
الثالث : وجوب جعل إيماء سجوده أخفض منه لركوعه .
الرابع : إذا تعذَّر الإيماء بالرأس والعينين فلا بدل غيرهما ، بل يكتفي بجريان الأفعال على قلبه ، أي تصوّرها ، والأذكار على لسانه إن تمكّن ، وإلَّا أخطرهما جميعاً بالبال ، واكتفى به .