الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/02/16
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (7)
والحاصل أنَّ ما ذكرناه لحدّ العجز المسوغ للقعود هو رأي المشهور ، وهو الصحيح .
ولكن حُكي عن الشَّيخ المفيد (رحمه الله) ، ومحتمل النهاية ، أنَّ حدّ العجز المسوّغ للصّلاة جالساً هو أنْ لا يتمكن من المشي بقدر زمان صلاته قائماً وإن كان متمكناً من الوقوف في جميع الصَّلاة أو بعضه ، على ما فسَّره صاحب الجواهر (رحمه الله) .
ولكن الإنصاف : أنَّ التزام هذا القائل بهذا النحو من الإطلاق بعيد جدّاً ، بل من المقطوع به عدم ترخيصه في الصَّلاة جالساً مع التمكُّن من الإتيان بجميع صلاته عن قيام بلا مشقة ، بل لعلّ مراد هذا القائل - من تحديد العجز بأنْ لا يقدر على المشي بقدر صلاته قائماً - هو أنَّه إذا صار إلى هذا الحدّ فيشقّ عليه الصَّلاة قائماً مشقةً لا تصل إلى حدّ ، فيشقّ عليه الصَّلاة قائماً مشقةً لا تصل إلى حدّ يُعدّ معها التكليف حرجيّاً في العادة .
وبهذا افترق عن مقالة المشهور ، حيث كان حدّ العجز عندهم أنْ يصل إلى حدّ يُعدّ التكليف معها حرجيّاً في العادة .
ومهما يكن ، فقدِ استُدل للمحكيّ عن الشَّيخ المفيد (رحمه الله) برواية سليمان بن حفص المروزي (قال : قال الفقيه (عليه السَّلام) : المريض إنَّما يصلِّي قاعداً - إذا صار أن يمشي - بالحال التي لا يقدر فيها على أن يمشي مقدار صلاته إلى أن يفرغ قائماً)[1] .
وفيها أوَّلاً : أنَّها ضعيفة بجهالة الراوي .
وثانياً : أنَّه يمكن إرادة بيان أنَّه بدون هذه القدرة تحصل له مشقة في القيام لا تتحمل عادةً .
فيكون الحاصل حينئذٍ أنَّه إذا عجز عن المشي مقدار صلاته قائماً فله أن يقعد فيها وإن كان متمكناً من الصَّلاة قائماً بمشقة ، فتكون موافقةً لمقالة المشهور ، لا أنَّ المراد من الرِّواية الرّخصة في القعود بسبب العجز عن المشي وإن كان متمكناً من الوقوف بسهولة أو بمشقة تتحمل عادة حتَّى تكون منافيةً لمقالة المشهور .
ويحتمل أن تكون الرِّواية كنايةً عن العجز عن القيام ، كما عن المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى ، حيث قال : (وتحمل على مَنْ يتمكّن من القيام إذا قدر على المشي ، للتلازم بينهما غالباً ، فلا يرد جواز انفكاكهما)[2] .
وعليه ، فتكون موافقة للمشهور .
ويحتمل أيضاً أن يكون المراد منها بيان ترجيح صلاة الماشي على القاعد - كما سيأتي في المسألة التي بعد هذه المسألة مباشرة - لا تحديد العجز ، والله العالم .
قوله : (ولو قدر على الصَّلاة ماشياً قيل : يقدمه على القعود)[3]
ذهب جماعة من الأعلام إلى تقديم الصَّلاة جالساً مع الاستقرار على الصَّلاة من قيام حال المشي حال الاضطرار ، منهم المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى ، حيث قال فيها : (ولو عجز عن القيام مستقرّاً ، وقدر على القيام ماشياً أو مضطرّاً من غير معاون ، ففي ترجيحه على القيام ساكناً بمعاون ، أو على القعود لو تعذَّر المعاون ، نظرٌ ، أقربه ترجيحهما عليه ، لأنَّ الاستقرار ركن في القيام ، إذ هو المعهود من صاحب الشرع (عليه السَّلام) ... ) .
ووافقه المحقّق الكركي (رحمه الله) في شرح القواعد ، وصاحب المدارك (رحمه الله) ، حيث قال (رحمه الله) : (والأقرب تقديم الجلوس على القيام ماشياً ، لتوقّف العبادة على النقل ، والمنقول هو الجلوس ، ولأنّه أقرب إلى حالة الصّلاة من الاضطراب ... )[4] ، ووافقه أيضاً المحقق الهمداني (رحمه الله) .
ولكنّ المشهور بين الأعلام تقديم القيام ماشياً ، منهم الشَّيخ المفيد ، والعلَّامة والشَّهيد الثاني ، وصاحب الحدائق ، والسَّيد محسن الحكيم ، والسَّيد أبو القاسم الخوئي (رحمهم الله) ، وهو الأقوى كما سيتضح لك .
وهناك قول ثالث للعلَّامة (رحمه الله) ، وهو تقديم الصَّلاة ماشياً على الصَّلاة قائماً معتمداً ، وهذا القول فيه من المبالغة ما لا يخفى ، بل لا إشكال في بطلانه ، لاسيما على القول الصحيح بجواز الاعتماد حال القيام اختياراً .
ومهما يكن ، فقد استدل للمشهور بعدَّة أدلَّة :
منها : رواية سليمان بن حفص المروزي المتقدِّمة (المريض إنَّما يصلّي قاعداً إذا صار بالحال التي لا يقدر فيها أن يمشي مقدار صلواته إلى أن يفرغ قائماً) ، بناءً على أنَّ المراد منه بيان ترجيح صلاة الماشي على القاعد .
وفيه أوَّلاً : أنها ضعيفة بجهالة المروزي .
وثانياً : أنَّ هذا مجرد احتمال لم يصل إلى مرتبة الظُّهور الذي هو حجَّة .
وقد عرفت سابقاً أنَّ فيها ثلاثة احتمالات ، والأرجح منها ما اختاره المصنِّف (رحمه الله) في الذكرى من أنَّ المراد بيان عدم تحقّق العجز عادةً ما لم يبلغ ضعف المريض إلى هذا الحدّ ، حيث إنَّ الغالب كون الصَّلاة قائماً ولو معتمداً على عصى أو حائط ، ونحوه ، ميسورة لمن قدر على المشي بقدرها ، دون من لم يقدر على ذلك .
وعليه ، فهذا الاحتمال إن لم يكن الأظهر من بينها فهو الأرجح ، ولا ظهور حينئذٍ للرِّواية في شيءٍ منها ، فتكون مجملة .
وما ذكرناه في ردِّ الاستدلال لرواية سليمان بن حفص أحسن وأَوْلى من ردِّ صاحب الجواهر (رحمه الله) ، حيث قال : (إنَّ مجرد هذا الاحتمال - أي احتمال كون المراد منها بيان ترجيح صلاة الماشي على القاعد - في الخبر المزبور لا يجسر به على إثبات هذه الكيفيَّة من العبادة المسلوب عنها اسم الصَّلاة في عرف المتشرِّعة ، إذ لم يرد بها قول ولا فعل ... )[5] .
وفيه : أنَّه يصحّ صلاة النافلة ماشياً اختياراً ، وهي صلاة في عرف المتشرّعة ، فالصّلاة ماشياً كذلك .
ومنها - وهو الأهمّ - إطلاق أدلة القيام .
وقد عرفت أنَّ الدَّليل القويّ على تقييده بالاستقرار هو الإجماع ، أو التسالم بين الأعلام ، وهو دليل لبِّي يقتصر فيه على القدر المتيقّن ، وهو حال الاختيار ، وأمَّا في حال الاضطرار فلا دليل على التقييد .
وعليه ، فيجب الرّجوع إلى إطلاق دليل القيام ، ومقتضاه الصَّلاة قائماً في حال المشي .
ثمَّ لو سلّمنا أنّه يوجد عندنا دليل لفظي على وجوب الاستقرار في القيام ، وأنَّ هذا الدليل مطلق يشمل حال الاضطرار ، إلَّا أنَّ صحيحة جميل المتقدِّمة[6] دلَّت على تقديم الصَّلاة من قيام وإن كان القيام فاقداً لبعض القيود المعتبرة فيه - من الانتصاب أو الاستقرار أو الاستقلال - على الصَّلاة من جلوس ، لحكومتها على جميع أدلَّة تلك القيود .