الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
38/02/15
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع :القِيام في الصَّلاة (6)
= وأمَّا ما ذكره صاحب الجواهر (رحمه الله) - من الاستدلال بحديث عدم سقوط الميسور بالمعسور ، وحديث ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه - فقد ذكرنا في أكثر من مناسبة أنَّ هذين الحديثين مذكوران في كتاب غوالي اللآلي ، وهما ضعيفان بالإرسال ، بل طعن صاحب الحدائق (رحمه الله) على المؤلِّف والمؤلَّف ، لتساهله في نقل الأحاديث ، وذكره الغثّ والسَّمين في كتابه .
قوله : (ولو بأجرة إذا كانت مقدورة)[1]
ذكر جماعة من الأعلام أنَّه يجب شراء ما يعتمد عليه عند الاضطرار ، أو استئجاره مع التوقَّف عليهما ، وقد يستدلّ لذلك أنَّه من باب وجوب مقدِّمة الواجب ، لتوقِّف الاستناد الواجب على الشِّراء أو الاستئجار ، نظير شراء الماء للوضوء .
ولكنَّ الإنصاف : أنَّ الشراء والاستئجار الراجعين إلى ملك العين أو المنفعة ممَّا لا تتوقَّف عليهما الصَّلاة بخصوصهما ، بل هي متوقِّفة على الاعتماد على الشَّيء ، سواء أكان هذا الشَّيء مملوكاً أو مغصوباً ، ومن المعلوم أنَّ الاعتماد على الشَّيء في الصَّلاة ليس تصرفاً صلاتيًّا .
ومن هنا لا تفسد الصَّلاة في الاعتماد على الخشبة المغصوبة .
وإذا كان الشِّراء والاستئجار ممَّا لا تتوقَّف عليهما الصَّلاة ، فلا يجبان بالوجوب الغيري المقدِّمي ، وإنَّما يجبان عقلاً فراراً من الوقوع في الحرام - وهو الاعتماد على الشَّيء المغصوب - والله العالم .
قوله : (فإنْ عجز قعد سواء قدر على الشَّيء بقدر زمان صلاته أو لا ، إلَّا على رواية)
المعروف بين الأعلام أنَّه إذا لم يقدر على القيام كلًّا أو بعضاً مطلقاً صلَّى مِنْ جلوس .
أقول : يقع الكلام في أمرين :
الأوَّل : في الدَّليل على الانتقال إلى الجلوس .
الثاني : في حدِّ العجز عن القيام .
أمَّا الأمر الأوَّل : فقدِ ادَّعى عليه الإجماع ، بل في الجواهر : (إجماعاً بقسمَيْه ، ونصوصاً كادت تكون متواترةً ، والمشهور بين الأصحاب شهرةً كادت تكون إجماعاً ... )[2] .
أقول : هناك تسالم بين الأعلام قديماً وحديثاً ، وفي جميع الأعصار والأمصار ، على الانتقال إلى الجلوس ، بحيث أوجب ذلك القطع بالمسألة .
ومع ذلك يدلّ عليه جملة كثيرة من الأخبار :
منها : حسنة أبي حمزة المتقدِّمة عن أبي جعفر (عليه السَّلام) (في قول الله ¸ ﴿ الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ﴾[3] قال : يصلِّي قائماً وقعوداً ، المريض يصلِّي جالساً ، و﴿ على جنوبهم ﴾ الذي يكون أضعف من المريض الذي يصلّي جالساً)[4] .
ومنها : مرسلة الصَّدوق (رحمه الله) في الفقيه (قال : وقال رسول الله (صلى الله عليه وآله) المريض يصلِّي قائماً ، فإن لم يستطع صلَّى جالساً ، فإن لم يستطع صلَّى على جنبه الأيمن ، فإنْ لم يستطع صلَّى على جنبه الأيسر ، فإنْ لم يستطع استقلى وأومأ إيماءً ، وجعل وجهه نحو القبلة ، وجعل سجوده أخفض من ركوعه) [5] ، وهي ضعيفة بالإرسال .
ومنها : مرسلته الأخرى (قال : وقال الصَّادق (عليه السَّلام) : يصلِّي المريض قائماً ، فإن لم يقدر على ذلك صلَّى جالساً ، فإن لم يقدر أن يصلِّي جالساً صلَّى مستلقياً يكبِّر ، ثمَّ يقرأ ... ) [6] ، وهي أيضاً ضعيفة بالإرسال ، وكذا غيرها من الأخبار الكثيرة .
الأمر الثاني : وقع الخلاف بين الأعلام في حدّ العجز المسوغ للقعود ، فالمشهور أنَّ حدَّه العجز عن القيام أصلاً ، ومعرفته موكولة إلى نفس المكلَّف ، فإنَّه أعلم بنفسه ، كما تشهد لذلك جملة من الأخبار :
منها : حسنة عمر بن أذينة بطريق الكافي (قال : كتبتُ إلى أبي عبد الله (عليه السَّلام) أسأله ما حدّ المريض الذي يفطر منه صاحبه ، والمرض الذي يدع صاحبه الصَّلاة قائماً ؟ قال : ﴿ بل الإنسان على نفسه بصيرة ﴾[7] ، وقال : ذاك إليه ، هو أعلم بنفسه) [8] .
ورواها الشَّيخ بإسناده عن الحسين بن سعيد عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عمَّن أخبره عن أبي جعفر (عليه السَّلام) ، ولكنَّها ضعيفة بطريق الشَّيخ بالإرسال .
ومنها : موثَّقة زرارة (قال : سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن حدِّ المرض الذي يفطر منه الصَّائم ، ويدعِ الصَّلاة من قيام ؟ فقال : بل الإنسان على نفسه بصيرة ، هو أعلم بما يطيقه) [9] .
ومنها : صحيحة جميل (قال : سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) ما حدّ المرض الذي يصلِّي صاحبه قاعداً ؟ فقال : إنَّ الرَّجل لَيُوعك ويُحْرج ، ولكنَّه أعلم بنفسه ، إذا قوي فَلْيقم) [10] .
والمراد بتمكّنه من القيام في النصوص بحسب الظاهر : هي الاستطاعة العرفيَّة ، بأن كان متمكّناً من الإتيان به في العادة من غير أن يتحمّل مشقةً شديدةً بحسب حاله ، أو من غير أن يترتَّب عليه من زيادة مرض أو طوله ، أو من غير أن يكون مضطرّاً إلى ترك القيام ، ضرورة عرفيَّة ناشئة من الحاجة إلى استعمال بعض المعالجات المنافية للقيام لدفع بعض ما عليه من الأمراض ، كما يشهد له جملة من الأخبار :
منها : صحيحة محمَّد بن مسلم (قال : سألتُ أبا عبد الله (عليه السَّلام) عن الرّجل والمرأة يذهب بصره ، فيأتيه الأطباء فيقولون نداويك شهراً أو أربعين ليلة مستلقياً ، كذلك يصلِّي ، فرخَّص في ذلك ، وقال : ﴿ فمَن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ﴾[11] ) [12] .
ومنها : موثَّقة سماعة (قال : سألتُه عن الرَّجل يكون في عينيه الماء فينتزع الماء منها ، فيستلقي على ظهره الأيام الكثيرة ، أربعين يوماً أو أقلّ ، أو أكثر ، فيمتنع من الصَّلاة الأيام إلَّا إيماءً ، وهو على حاله ؟ فقال : لا بأس ، وليس شيء ممَّا حرَّم الله إلَّا وقد أحلَّه لِمَنِ اضطرّ إليه) [13] .
ورواها الشَّيخ الصدوق (رحمه الله) بإسناده عن سماعة بن مهران أنَّه سأل الصَّادق (عليه السَّلام) ، وإسناده إلى سماعة قويّ بعثمان بن عيسى .
وأمَّا إسناد الشَّيخ الطوسي (رحمه الله) إلى سماعة فهو صحيح ، ولا يضرّها الإضمار في طريق الشَّيخ (رحمه الله) ، لأنَّ مضمرات سماعة مقبولة .
ومنها : حسنة الوليد بن صبيح ( قَالَ حُمِمْتُ بِالْمَدِينَةِ يَوْماً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ ، فَبَعَثَ إِلَيَّ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ (عليه السَّلام) بِقَصْعَةٍ فِيهَا خَلٌّ وَ زَيْتٌ ، وَ قَالَ لِي أَفْطِرْ ، وَ صَلِّ وَ أَنْتَ قَاعِدٌ) [14] .
ومنها : ما رواه الحسين بن بسطام في طبَّ الأئمة عن الحسن بن أرومة عن عبد الله بن المغيرة عن بزيع المؤمن (قال : قلت لأبي عبد الله (عليه السَّلام) : إنِّي أريد أن أقدح عيني ؟ فقال لي : استخر وافعل ، قلت : هم يزعمون أنَّه ينبغي للرَّجل أن ينام على ظهره كذا وكذا ، ولا يصلِّي قاعداً ، قال : افعل) [15] ، ولكنَّها ضعيفة لعدم وثاقة الحسين بن بسطان صاحب الكتاب ، وجهالة الحسن بن أورمة ، وبزيع المؤذن .
وبالجملة ، فالمناط في سقوط القيام هو عدم تمكّنه منه أصلاً ، ولو في بعض صلاته ، والمراد بعدم تمكُّنه منه ما كان جرجيّاً عليه ، أو لضرورة مقتضية لتركه ، كما في مقام التداوي ومعالجة الأمراض لا تعذّره عقلاً.