الأستاذ الشيخ حسن الرميتي
بحث الفقه
37/05/23
بسم الله الرحمن الرحيم
الموضوع : القبلة
الثالث : ما ورد من النصوص في تفسير قوله تعالى : ﴿ فأينما تولُّوا فثمَّ وجه الله ﴾[1] أنَّها شاملة في النافلة في السَّفر الشَّامل للسَّفينة ، المتمّم بعدم القول بالفصل بينه وبين الحضر .
ولكنَّك عرفت أنَّ النصوص المفسِّرة للآية الشَّريفة ضعيفة السَّند .
ثمَّ لا يخفى أنَّ ما في بعض العبارات من أنَّ قِبلة الرَّاكب طريقه ومقصده ، وفي البعض الآخر أنَّ قِبلته رأس دابته حيث توجَّهت ، محمول على إرادة بيان الرُّخصة في الترك ، والبقاء على حاله الغالب من غير تكلُّفِ انحرافٍ طلباً للقِبلة ، وكذا ما في النصوص السَّابقة من الصَّلاة إلى حيث ما كان متوجّهاً , أو إلى صدر السَّفينة .
لا أنَّ المراد وجوب ذلك بدلاً عن القِبلة ، فلو توجَّه حينئذٍ حال صلاته إلى غير رأس دابته ، أو طريقه صحَّت صلاته ، بل ينبغي القطع به لو كان العدول عن توجّه الدَّابة مثلاً إلى القِبلة .
قال في المحكي عن التحرير والمنتهى : (قبلة المصلِّي على الرَّاحلة حيث توجَّهت ، فلو عدل إلى القِبلة جاز إجماعاً ، وإن كان إلى غيرها فالأقرب الجواز ... )[2] .
ويؤيِّد ذلك : ما في رواية الكرخي المتقدِّمة (هذا الضِيق) ، إذ لو كان يجب استقبال رأس الدّابَّة كان أيضاً ضِيقاً .
ثمَّ لا فرق في ذلك بين الابتداء وغيره ، فلو صلَّى من أوَّل الأمر إلى غير توجَّه دابَّته مثلاً صحّ ، وإن كان توجُّه دابَّته إلى القِبلة ، فضلاً عن غيره ، فله الرُّكوب حينئذٍ مقلوباً ، ثمَّ الصَّلاة .
ثمَّ اعلم أنَّ الأقوى إرادة الرُّخصة أيضاً ممَّا تضمنته النصوص من الإيماء لا العزيمة ، فلو ركع الماشي وسجد ، وكذلك الرّاكب ، لكونه في كنيسةٍ واسعةٍ مثلاً ، صحَّ قطعاً ، بل كاد يكون صريح صحيحة معاوية بن عمَّار المتقدِّمة في الماشي ، إذ حَمْل الرُّكوع والسُّجود فيها على الإيماءِ لهما لا داعي إليه ، والله العالم .
****
قوله : (والمضطرّ إلى الصَّلاة ماشياً حكمه حكم الرَّاحلة)[3]
لا فرق عندنا بين المشي والركوب ، وغيرهما ، في جميع ما سبق من الأحكام حال الاختيار والاضطرار والكيفيَّة ، فلا يجوز للماشي فِعْل الفريضة مع الاختيار والأَمْن ، عند أهل العلم كافَّة ، كما في المحكي عن المنتهى .
وقدِ استَدلّ في المدارك بقوله تعالى : ﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ .
وبصحيحة عبد الرّحمان بن أبي عبد الله (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الرَّجل يخاف من سبُعٍ أو لصٍّ ، كيف يصلِّي ؟ قال : يكبِّر ويُومِئ برأسه)[4] .
أقول : أمَّا الاستدلال بالآية الشَّريفة فلا بأس به ، معِ اعتبار ضِيق الوقت .
أمَّا الصَّحيحة فلا دلالة فيها على المشي بوجه ، بل غاية ما تدلّ عليه هو أنّ الصّلاة مع الخوف من السَّبُع تكون بالإيماءٍ وإن كان واقفاً في محلِّه ، كما في صحيحة عليِّ بن جعفر عن أخيه أبي الحسن عليه السلام (قال : سألتُه عن الرَّجل يلقى السَّبع وقد حضرت الصَّلاة ، ولا يستطيع المشي مخافة السَّبُع ، فإن قام يصلِّي خاف في ركوعه وسجوده السَّبُع ، والسَّبُع أمام على غير القبلة ، فإن توجه إلى القِبلة خاف أن يثبَ عليه الأسدُ ، كيف يصنع ؟ قال : فقال : يستقبِل الأسد ، ، ويصلِّي ، ويومئ برأسه إيماءً وهو قائم ، وإن كان الأسد على غير القبلة) [5] .
والإنصاف : أنه يمكن الاستدلال على ذلك ببعض الروايات :
منها : صحيحة يعقوب بن شعيب (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام عن الصَّلاة في السَّفر وأنا أمشي ، قال : أومِ إيماءً ، واجعل السُّجود أخفض من الرُّكوع) [6] .
ومنها : صحيحته الأخرى (قال : سألتُ أبا عبد الله عليه السلام - إلى أن قال : - قلت : يصلِّي وهو يمشي ؟ قال : نعم ، يُومِئ ، وَلْيجعلِ السُّجود أخفض من الرُّكوع) [7] .
ومنها : مرسلة حريز عمَّن حدَّثه عن أبي جعفر عليه السلام (أنَّه كان لا يرى بأساً بأن يصلِّي الماشي وهو يمشي ، ولكن لا يسوق الإبل ) [8] ، ولكنَّها ضعيفة بالإرسال .
ومنها : مرسلة الشَّيخ المفيد رحمه الله في المقنعة (قال : سُئِل عن الرَّجل يجِدّ به السَّير ، أيُصلِّي على راحلته ؟ قال : لا بأس بذلك ، ويُومِئ إيماءً ، وكذلك الماشي إذا اضطرّ إلى الصَّلاة) [9] ، وهي ضعيفة أيضاً بالإرسال .
وهذه الرِّوايات مطلقة تشمل النافلة والفريضة وإن قُيِّدت الفريضة بحال الضَّرورة .
ثمَّ إنَّ الآية الشَّريفة ﴿ فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا ﴾ قد تكون ظاهرة في التخيير بين الأمرين عند الاضطرار.
ويؤيِّده : أنَّ احتمال ترجيح المشي حينئذٍ لحصول ركن القيام معارَض باحتمال ترجيح الرُّكوب ، لأنَّ الراكب مستقرّ بالذات وإن تحرك بالعرض ، بخلاف الماشي .
نعم ، لو فرض إمكان استيفاء بعض الأفعال الأخر كالرّكوع والسُّجود في أحدهما أمكن حينئذٍ تقديمه .
ثمَّ إنَّه أيضاً لا دليل على وجوب كيفيَّة خاصَّة لمشي المكلِّف حال الصَّلاة ، أو راحلته ، فلِلْراكب حينئذٍ الركض على دابَّته ، وللماشي العدو من غير ضرورة ، لأنَّهما فردان منهما ، ومجرد انقداح الترتيب بين أفراد المشي في النفس من غير دليل شرعي لا يصلح عذراً .
ثمَّ اعلم أنَّ الاضطرار يتوقَّف على ضِيق الوقت ، إذ هو مكلَّف بالصَّلاة الجامعة للشَّرائط في مجموع الوقت ، ولا يجوز فعل الصَّلاة الاضطراريَّة في أوَّل الوقت ، وقد تقدَّم بعض الكلام في ذلك في بعض المناسبات ، والله العالم بحقائق أحكامه .
****
قوله : (وتجوز النافلة ماشياً اختياراً)
تقدَّم الكلام عنها في المسألة السابقة .